كان كاين لا يستطيع النوم دون تناول المهدئات، ربما بسبب القلق والخوف من مسألة العرش والعبء الذي تسببه له.
و تذكرت فجأة ذلك اليوم حين أُمر بتولي شؤون الحكم مؤقتًا، فراح يرتجف بكل جسده.
‘هل كان ذلك هو السبب……؟’
عاد يظهر لي وجهه مجددًا، ذلك الذي بدا وكأنه خالٍ من الهموم والقلق. لكن لم أشعر بقلق خاص تجاهه.
ففي القصة الأصلية، يتسلم كاين العرش قرب النهاية، ويحكم بشكل يفوق كل مقارنة، ويصبح ملكًا يُشاد به كثيرًا.
كادت نفسي تخبره بتلك الحقيقة، لكني أطبقت شفتيّ بصمت.
“هل كانت قيلولتكَ مريحة؟”
أومأ كاين برأسه، ولا يزال يبدو عليه الذهول وكأنه لا يصدق ما حصل.
“نعم، لم يحدث لي مثل هذا من قبل.”
“من قبل؟ تقصد أنها المرة الأولى؟”
تنهد كاين تنهيدةً طويلة وأسند جسده المتعب على ظهر الكرسي.
“لم أخبر أحدًا بهذا من قبل، لكن لا أعلم لماذا، يبدو أنني أستطيع البوح لكِ بكل شيء.”
“نعم؟ البوح بماذا؟”
كنت أعرف ما الذي سيقوله، لكني تظاهرت بعدم الفهم وأملت رأسي باستغراب. عندها تابع كاين حديثه بابتسامةٍ مريرة.
“كان لي إخوةٌ غير أشقاء كُثر. بعضهم أكبر مني سنًا، وبعضهم كان يتفوق عليّ كثيرًا في فنون السيف أو السحر.”
كان لدى كاين ستة إخوة وخمس أخوات. وكان ترتيبه الثالث بين سبعة إخوة، في موقعٍ وسطٍ لا مميز ولا متأخر.
“كنت منذ صغري أحب اللعب أكثر من الدراسة، وكان عالمي خارج القصر أكثر إثارةً لي من داخله. و لم يخطر ببالي قط أن أسعى للعرش.”
بدا عليه أنه استرجع ذكريات طفولته، فارتسمت على وجهه ابتسامة. لكن تلك اللحظة لم تدم طويلًا.
إذ ما لبث أن سحب ابتسامته و تحدث من جديد.
“ثم في أحد الأيام، استدعى جلالته جميع الإخوة والأخوات وأعلن عن ولي العهد. كنت واثقًا أن أخي الأكبر هو من سيُختار، فركلت الأرض بلا جدوى. لكن الأمر لم يكن كذلك.”
كان شقيق كاين الأكبر قد انتقل إلى المملكة المجاورة كزوجٍ للأميرة، وأصبح أميرًا فيها.
وبفضل ذلك، أُبرمت اتفاقياتٌ تجارية ناجحة وحققت البلاد مكاسب سياسية كبيرة.
“جلالته وضعني في منصب ولي العهد، ومنذ تلك اللحظة، بدأت عاصفةٌ كبرى تهز أرجاء العائلة المالكة. أتباع إخوتي بدأوا يُخططون للتمرد، وإخوتي وأخواتي انقلبوا عليّ. و كنت حينها في العاشرة من عمري، أي قبل خمسة عشر عامًا تمامًا.”
أغمض كاين عينيه ببطء، وعلى وجهه طيف ابتسامةٍ مُرّة.
ثم عقد حاجبيه وأكمل حديثه بعينين مغمضتين.
“وفي النهاية، قام جلالته بإبعاد جميع إخوتي وأخواتي عن القصر، حفاظًا على سلامتي وعلى استقرار العائلة المالكة. و لم أتدخل في شيء من هذا، فلم أكن أتمنى أيًّا منه.”
كنت أفهم مشاعره أكثر من أي أحد آخر. فكل ما قاله كان نفس ما قاله كاين في الرواية الأصلية حين فتح قلبه للبطلة.
رؤيته يردد الكلمات نفسها التي كانت تدور في رأسي بوضوح، جعلتني أشد قبضتي تحت الطاولة بقوة.
‘كاين سيقول هذا الكلام نفسه للبطلة لاحقًا أيضًا، أليس كذلك؟ و لا أعلم لماذا……لكن هذا يزعجني قليلًا.’
تنفست بعمقٍ وفككت يدي المتشنجة.
‘ما الذي أفكر فيه؟ من الطبيعي أن يقول هذا للبطلة.’
أنا من سبقتها إلى سماع هذا الاعتراف فقط. رغم أنني أنا من حاولت بكل جهدي الابتعاد عن أحداث الرواية.
فلا يحق لي أن أشعر بالضيق.
تنفست بانتظام، و تماسكت، ثم نظرت إلى كاين بثبات.
“منذ ذلك الحين بدأت المعاناة. كلما تمددت للنوم، كنت أسمع بكاء إخوتي وأخواتي، وأصوات تذمّر الشعب تتردد في أذني. فلم أتمكن من النوم جيدًا، وحتى مؤخرًا، لم يكن النوم يأتيني إلا بفضل المهدئ الذي أعطيتِني إياه.”
أنهى كاين كلامه وفتح عينيه ببطء. و عيناه اللتان كانتا نقيّتين زرقاوين أصبحتا الآن داكنتين، كأنهما تغوصان في أعماق البحر.
“أن أنام بجواركِ وأغفو حتى توقظيني؟ هذا مستحيل.”
كان يحدّق بشرود في الأرض، ثم وجه نظره إليّ فجأة.
“ما الذي فعلتِه بي، كونتيسة؟”
نظراته الباردة جعلتني عاجزةً عن النطق. وحين كنت على وشك قول أي شيء، تحرّك الملك في نومه.
“جلالتك؟ جلالتك!”
فقفز كاين واقفًا وهرع نحو السرير ليتفقد الملك بحذر.
و اقتربت منهما أنا أيضًا، محاوِلةً أن أتجاهل النظرة التي رأيتها في عيني كاين قبل قليل.
“جلالتك، هل أنتَ واعٍ؟”
فتح الملك عينيه عند سماعه صوت كاين القلق والمنخفض وهو يناديه.
كان يشبه كاين، لكن عينَيه الزرقاوين بدتا باهتتين. غير أن تركيزه عاد إليهما تدريجيًّا.
ثم نهض الملك بنفسه.
“ولي العهد……والكونتيسة كوينيارديل.”
بدا أن حالته قد تحسنت كثيرًا مقارنةً بالأمس.
“هل الدواء بدأ يُظهر مفعوله؟”
نظرت إلى الملك، الذي عاد لون وجهه قليلًا، ثم شعرت بأن نظراتي طالت أكثر من اللازم، فخفضت بصري.
وبسبب استيقاظه من نوم طويل، طلب الملك الماء أولًا، فناول كاين كأس الماء من على الطاولة المجاورة.
وبعد أن ارتوى، بدأ الملك بالكلام.
“يبدو أن وجود الكونتيسة هنا يعني أنكِ من أعطاني الدواء، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيح يا جلالتك.”
هل أتصرف بلباقة الآن؟
دائمًا ما كنت أتوتر عندما أتحدث مع الملك، ويمتلئ رأسي بالقلق والارتباك. مع أنه هو نفسه لا يبدو وكأنه يهتم كثيرًا بالأمر.
حين همّ الملك بالكلام، بدأ يسعل بشدة، وبصعوبة بالغة.
“هل أنتَ بخير؟”
ظل كاين يربّت على ظهر الملك حتى هدأ. وبعد أن توقفت نوبة السعال وشرب قليلًا من الماء، بدا عليه التحسن،
“شكرًا لك، كونتيسة. يبدو أنني أشعر بتحسن بفضلكِ.”
“أنا ممتنةٌ يا جلالتك.”
“كنت قد سمعت إشاعات عن نوكس، لكن لم أظن يومًا أنها صحيحة. لا تتصورين كم يسعدني أن يكون في مملكتنا شخصٌ بموهبتكِ.”
لو كان في حالته الطبيعية، لانفجر ضاحكًا بصوته المعتاد، لكنه اكتفى بابتسامةٍ خفيفة نظرًا لأنه لم يتعافَ تمامًا بعد.
بعد سماع كلمات الإطراء، وتوصيته لي بالاستمرار في تقديم العلاج، غادرت جناح الملك.
“أستطيع العودة وحدي، سموّك.”
“أعلم ذلك.”
ربما لأن حالة الملك تحسنت، فقد اتسعت ابتسامة كاين.
ثم تذكرت للحظة نظرته الباردة من قبل، لكنها سرعان ما تلاشت.
“حتى جلالته يحتاج إلى بعض الوقت ليستريح وحده، أليس كذلك؟ سأترافقكِ حتى بوابة القصر فقط.”
سرنا معًا في الممر دون أن نتبادل أي حديث. فلم يكن لدي ما أقوله، ويبدو أن كاين لم يكن راغبًا بالكلام أيضًا.
وهكذا ظللنا صامتين نسير جنبًا إلى جنبٍ حتى وصلنا إلى الباب، وهناك فقط بادر كاين بالكلام.
“شكرًا جزيلًا لكِ، يا كونتيسة.”
“نعم؟ على ماذا؟ لم أفعل شيئًا يُذكر.”
قلت ذلك وأنا أبتسم بخجلٍ وأحك مؤخرة رأسي. فلم أعتد على المديح، مهما سمعته مرارًا.
عندها رفع كاين زاوية فمه بابتسامة خفيفة وأكمل،
“لقد فعلتِ ما لم يستطع أن يفعله صيدليّو القصر. عندما يتعافى جلالته، سيمنحكِ مكافأةً كبيرة.”
“أوه، لا، لا حاجة……لا بأس، حقًا……”
ما نوع تلك المكافأة يا ترى؟
بينما كنت ألوّح بيدي نافيةً بخفة لا تعكس حقيقة فضولي، نظر إليّ كاين وضحك. ربما اكتشف ما يدور في داخلي.
ورغم ذلك، رؤيته يضحك بهذا الشكل خفف عني كثيرًا.
ضحك كاين بصوت عالٍ حتى بدا وكأن أرجاء القصر كله يهتز، ثم مسح دمعةً من عينه،
“شكرًا لأنك كنتِ رفيقة الحديث لي اليوم. لكن، هلّا نسيتي كل ما قلته لكِ سابقًا؟”
نظرت إليه وهو يتحدث بنظراتٍ جادة، ثم درت بعيني قليلًا،
“أي كلامٍ تقصد؟ عندما استخدمتَ دوائي للمزاح وجعلتني أبكي؟ لا أظنني سأتمكن من نسيان ذلك.”
فرفع كاين حاجبيه وارتسمت على وجهه ملامحٌ يصعب وصفها، ثم انفجر ضاحكًا بصوتٍ أعلى من ذي قبل.
وبينما لا تزال ابتسامته تملأ وجهه، تحدث،
“حقًّا، أنتِ شخصٌ لا يمكن التنبؤ به.”
“وهل أنتَ أقل مني؟”
خرجت الكلمات من فمي دون أن أدرك، لكنها لم تزعجني. فقد أصبحت أعلم الآن أنه لا يغضب من ردود مثل هذه.
وكما توقعت، ابتسم كاين ابتسامةً لطيفة وفتح الباب.
“يؤسفني أنني أبقيتكِ طويلًا، يا كونتيسة. سأرسل أحدهم ليُرافقكِ في طريق العودة لتكوني بأمان.”
“لا، لا داعي لذلك!”
“لا ترفضي. إن أعدتُ من أنقذ جلالته دون حراسة، فسيوبخني الملك شخصيًّا.”
كان من الصعب رفض كلماتَ كهذه، فلم يكن أمامي سوى أن أومئ بالموافقة.
ثم ساعدني كاين في الصعود إلى العربة، و لوّح بيده مودعًا.
“لنلتقي قريبًا.”
وقبل أن يُغلق باب العربة تمامًا، ألقيت نظرةً حولي ثم لوّحت له بدوري بخفة.
وانطلقت العربة بسلاسة. بينما كان صوت ضحكة كاين المجلجلة تخفت شيئًا فشيئًا.
***
ما إن عدت إلى القصر حتى توجهت مباشرةً إلى المختبر. وبعد تفحص دقيق، تبيّن لي أن الملك يعاني من إنفلونزا شديدة.
لكن بسبب تراكم الإرهاق وتقدمه في السن، لم يكن ليتعافى بسهولة.
وأنا أتصفح كتب الكونت السابق وأنتقي المكونات، خطر ببالي ما جرى اليوم مع كاين، فارتسمت على وجهي ابتسامةٌ لا إرادية.
وفجأة، سمعت صوت دانتي بجانبي.
“هل حدث شيءٌ جميل اليوم؟”
“آه! لقد أرعبتني!”
وضعت يدي على قلبي الذي كان ينبض بعنف ونظرت إليه. و كان حاجباه يرتجفان قليلًا، كأن شيئًا ما أزعجه مجددًا.
“لماذا تبدين دائمًا سعيدةً فقط عندما لا أكون موجودًا، يا إيرفين؟”
هل……هل هو يشكو الآن؟
___________________
كاين يضحك وش الي وش سويتي فيني؟ ياشيخ؟ شكله ما استوعب انه وقع
المهم اخيرا عنه ذاه دانتي الغيران😂😂
شفت يا دانتي؟ عشان كذا لاعاد تخليها لحالها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 63"