كان يوماً هادئاً.
منذ أن بعتُ الدواء للماركيز ديفونت، انتشرت الشائعات بسرعةٍ وبدأ الزبائن يتوافدون من كل المناطق.
ويبدو أن الكثير منهم من منطقة ديفونت التي يُديرها الماركيز. ففي الآونة الأخيرة، كثر الزوار الذين يتحدثون بلهجة تلك المنطقة.
وفي لحظةٍ خالية من الزبائن، كنت على وشك التوجه إلى المخزن لإعادة تعبئة المخزون.
“دانتي، هل يمكنكَ مراقبة صندوق الحساب قليلاً؟ أريد أن أحضر شيئاً من المخزن.”
كانت علاقتي بدانتي كما كانت في السابق. و الشيء الوحيد الذي تغير هو أنه أصبح يبتسم أكثر من ذي قبل.
“ألن تحتاجي إلى مساعدةٍ أيضاً؟”
كان لطفه كما هو، و لم يتغير. فابتسمت ولوّحت له بيدي.
“لا بأس، لن أحمل شيئاً ثقيلاً، فقط سأعيد تعبئة بعض الفارغ!”
وبعد أن رأيت دانتي يومئ برأسه، دخلت المخزن.
وخلال ذلك الوقت، ازداد عدد أنواع الأدوية الموجودة في المخزن. وكان ذلك نتيجةً لانغماسي في البحث، مستندةً إلى كتب الكونت الراحل، مع إضافة معرفتي الحديثة.
‘لنرَ……أين وضعتُ مضاد آلام المعدة؟ آه، هناك.’
ولأني وضعته في مكان أعلى مما توقعت، وقفت على أطراف قدمي ومددتُ يدي.
‘آه، بحقك……لو مددتُ يدي قليلاً بعد، سأصل إليه.’
لكن الدواء بالكاد تعلق بأطراف أصابعي ولم أتمكن من إخراجه بسهولة، فشعرت بالضيق.
هل يظن أنه سيفوز علي؟
تنفستُ بعمق ورفعتُ كمّي مجدداً ووقفتُ على أطراف قدمي.
“هل تحاولين الإمساك بهذا؟”
و في تلك اللحظة، امتدت ذراع دانتي فجأةً من خلفي.
أخذ دانتي زجاجة الدواء التي كنت أجهد نفسي للوصول إليها، ومدّها نحوي بسهولة.
كم كان الأمر محبطاً.
“شكراً لك، لكن……ماذا عن صندوق الحساب؟”
عندها تذكّر دانتي شيئاً فجأة وكأنه لمع في ذهنه،
“جاء شخصٌ يبحث عن إيرفين.”
“عنّي أنا؟”
رفعتُ رأسي ونظرت إلى دانتي وهو يومئ برأسه عدة مرات، ثم خرجتُ من المخزن.
“آه، آسفة على الانتظار……من أنتم؟”
وما إن خرجت حتى رأيت ثلاثة رجال ضخام البنية واقفين هناك. و رغم أنهم كانوا ثلاثة فقط، شعرت وكأن المتجر امتلأ بهم.
‘ما الذي قد يريده مني هؤلاء……؟’
بلعت ريقي ونظرت إليهم بقلق وقلبٍ يرتجف. ثم فجأة، وقعت عيناي على الشارات الموجودة على أكتافهم.
‘هاه؟ الآن بعد أن رأيتهم عن قرب……كأنهم مألوفون. هل يمكن أن يكونوا من فرقة فرسان العائلة المالكة؟’
رغم أنهم لم يكونوا نفس الأشخاص الذين جاؤوا سابقاً للقبض على كاين، إلا أن زيّهم كان مطابقاً تماماً.
لكن كاين غير موجود اليوم، فما الذي يجعل فرسان الملك يأتون إليّ؟
تملكني الشك وأنا أنظر إليهم بحذر، فتكلم الفارس الذي كان واقفاً في المقدمة.
“هل أنتِ الكونتيسة كوينيارديل؟”
“نعم……نعم، أنا هي.”
رددتُ بصوتٍ منخفض بالكاد يُسمع، وقد غلبني الشعور بالرهبة من الرجل ذي الهيبة الطاغية.
“عليكِ أن ترافقينا لبعض الوقت.”
ثم مدّ الرجل يده وأخرج مذكرة استدعاءٍ تحمل ختم العائلة المالكة، وأكمل كلامه،
“إنه أمرٌ من جلالة الملك. جلالته يطلب حضوركِ، الكونتيسة كوينيارديل.”
***
تحركت العربة، التي كانت تتمايل بعنف قبل قليل، بانسيابية وهدوء.
و عندما أبعدتُ الستارة قليلاً من الداخل، ظهر القصر الملكي الضخم أمامي.
‘لم أكن أظن أنني سأصل إلى هنا وكأنني أُساق قسرًا.’
تنهدتُ بمرارة لهذا الوضع البائس، وفجأة التقت عيناي بعين الفارس الذي كان يقود الحصان ويتبع العربة.
فشهقتُ وسحبتُ وجهي بسرعة بعيدًا عن النافذة.
‘آه، بحق……لم أرتكب أي خطأ، فلماذا أشعر وكأنني مجرمة؟’
الشيء الذي أزعجني أكثر من أي شيء هو نظراتهم المراقبة وكأنهم يحرسون سجينًا. فبدأت أفهم لماذا يفكر كاين دائمًا في الهرب.
“هل أنتِ بخير؟”
سألني دانتي بصوتٍ مفعم بالقلق عندما بدأتُ أتنفس بضيق وأنا أعبّر عن انزعاجي.
دانتي لم يكن مضطرًا للمجيء، لكنه أصرّ على أنه حارسي الساحر المرافق لي وجاء معي.
“بالطبع. فقط……أشعر بالفضول حول سبب استدعائي لا أكثر.”
وأخيرًا توقفت العربة ببطء وفتح الباب. وفورًا، ظهر أمامي وجهٌ مألوف ومحبب.
“سموّ ولي العهد؟”
لوّح كاين بيده وهو يبتسم ابتسامةً مشرقة.
“مر وقتٌ طويل، كونتيسة.”
كم مضى من الوقت منذ آخر مرة رأيته فيها؟
في الفترة الأخيرة كنت منشغلةً ولم يكن لدي وقتٌ حتى للاهتمام به، لذلك كنت فقط أرسل له بعض حبوب النوم عبر كايدن من وقتٍ لآخر.
نهضتُ بنية الوقوف لكنني بقيت مترددةً واقفة على نحو غير مستقر، عندها اقترب مني كاين ومدّ يده.
“أتفهم أنكِ مصدومة، لكن هل تنوين البقاء في العربة إلى الأبد؟”
تحت شعره الوردي المنفوش الذي يشبه غزل البنات، ظهرت عيناه البيضاوان على شكل هلال، مضيئتان كالقمر.
ربما لأنني لم أره منذ زمن، بقيت مذهولةً وأنا أمد يدي إليه، وفي تلك اللحظة وقف دانتي فجأة.
“سأسبقكِ، عذرًا.”
ثم مرّ بجانبي ونزل من العربة.
نظر دانتي مطولاً إلى كاين، ثم وقف بجانبه ومدّ يده نحوي.
و فجأة، وجدتُ نفسي أمام يدين ممدودتين نحوي، وشعرتُ بالارتباك يتملكني.
‘ما العمل الآن؟ أمام كل هذه الأعين، من الطبيعي أن أمسك بيد كاين……’
لكنني لم أكن أرغب في تجاهل يد دانتي أيضاً.
وفي النهاية، وبعد ترددٍ طويل، أمسكتُ بكلتا يديهما معًا.
بدا أن كلاً من دانتي وكاين قد تفاجآ، لكن لم يُظهرا ذلك علنًا.
“هل كان وصولكِ مريحًا؟”
“نعم، كان جيدًا.”
رغم أنني شعرت طوال الطريق أن الفرسان هناك يراقبونني كما لو كنت مجرمة.
“هذا مطمئن. لقد طلبتُ منهم أن يعاملوكِ بلطف، فأنتِ شخصٌ عزيز عليّ.”
“……لا عجب أنهم كانوا طيبين للغاية.”
أن يكون ذلك هو معنى المعاملة اللطيفة؟ يا ترى، كيف هي معاملتهم العادية إذاً؟
رغم ذلك، كان من المذهل أن كاين ينجح دائمًا في الهروب من القصر.
بفضل الطريقة التي أدار بها كاين الحديث، تلاشى التوتر من داخلي بينما كنا ندخل القصر. وبعد أن شعرت ببعض الارتياح، عاد الفضول ليتملكني بشأن سبب استدعائي إلى هنا.
“سموك، هل يمكنني أن أسأل عن شيئ؟”
“اسألي ما شئتِ.”
يبدو أنه أصبح أكثر وسامةً منذ آخر مرة رأيته فيها.
تأملتُ وجهه المشرق المبتسم للحظة، ثم دخلت في صلب الموضوع.
“ما سبب استدعاء جلالة الملك لي؟”
“أمم……”
الابتسامة التي كانت تملأ وجهه قبل لحظاتٍ بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا. وبينما كان يجول بنظره وكأنه يجد صعوبةً في الإجابة، توقّف أمام بوابة ضخمة.
كان الباب كبيرًا لدرجة أنه بدا وكأن أربعة بالغين لا بد أن ينقسموا إلى مجموعتين ليدفعوا كل نصف منه حتى يُفتح.
“بدلًا من أن أشرح لكِ، سيكون من الأسهل أن تري بنفسكِ من الداخل.”
وما إن أنهى كلامه حتى فتح الحرس الباب كأنهم كانوا بانتظار إشارته. فانكشف خلف الباب الضخم غرفةٌ واسعة تليق بحجم الباب.
“وصل سمو ولي العهد كاين، ومعه الكونتيسة كوينيارديل. كما أن الحارس الساحر المرافق لها قد دخل أيضًا.”
نظرت بسرعة حول المكان.
سريرٌ ضخم في أحد أركان الغرفة، وطاولةٌ تحيط بها الأرائك يمكن أن يجلس عليها عشرة أشخاص بسهولة لتناول الشاي، مما أعطى انطباعًا بأن الغرفة غرفة نوم، رغم أن كل شيء فيها بدا مبالغًا فيه.
وفي لحظة، عندما رأيت البيانو الكريستالي أمام الشرفة، ترددتُ إن كانت فعلًا غرفة نوم.
لكن إذا ما قِسنا حجم الغرفة وأسعار الأثاث الفخم فيها، فلا شك أنها غرفة نوم جلالة الملك.
‘لكن، لماذا لا أراه؟’
في هذه الغرفة الواسعة، لم يكن الملك موجودًا، وكل ما رأيته كان رجلًا في منتصف العمر واقفًا قرب السرير، وفارسًا يبعث على الرهبة حتى من مسافة بعيدة.
ثم اتجه كاين نحو السرير حيث يقف الرجلان،
“مولاي الملك، لقد وصلت.”
لكن لم يأتِ أي ردٍ من الملك. ثم التفت كاين قليلًا ونظر إليّ ولوّح لي بيده مشيرًا أن أتقدم.
‘لا أفهم شيئًا، كيف سأعرف ما يجري بمجرد رؤيته؟’
تمتمتُ في داخلي وأنا أهرول بخطًى صغيرة لألحق به. وما إن اقتربتُ من السرير، حتى فهمت ما كان يعنيه.
فوق السرير الضخم الذي يسع خمسة أو ستة أشخاصٍ بسهولة، كان الملك وحده مستلقيًا وهو يلهث بأنفاس متقطعة.
شعرت بذهولٍ كبير حتى أنني كدت أصرخ، لكنني عضضتُ على شفتي بقوة لأمنع نفسي.
“هيوز، كيف هي حالة جلالة الملك؟”
“حالته تتحسن تدريجيًا يومًا بعد يوم، لكن من الصعب التنبؤ بموعد استيقاظه.”
“فهمت.”
تنهد كاين بخلاف عادته، ثم وجّه إليّ الحديث.
“هل فهمتِ الآن؟ كم كان من الصعب عليّ شرح ما في قلبي.”
رغم أنه حاول التحدث بخفة، إلا أن القلق على الملك كان واضحًا في نبرة صوته.
لم أكن أعرف كيف أواسيه، فبقيت صامتةً دون أن أنطق بكلمة.
و في تلك اللحظة، أطلق الملك أنينًا خافتًا يملؤه الألم، ثم فتح عينيه.
“كاين……”
كان صوته مبحوحًا لدرجة بالكاد يُسمع. و بدا مختلفًا تمامًا عن آخر مرة رأيته فيها، حتى أن قلبي هبط من مكانه فجأة.
‘هل يعقل أنه يحتضر……؟’
هززت رأسي لأطرد تلك الفكرة السخيفة.
ثم اقترب كاين من الملك واقترب منه حتى أصبح على مستوى نظره،
“هل أنتَ في وعيك؟ هل تعرف من أكون؟”
فحاول الملك بكل ما تبقى له من قوة أن ينهض من فراشه الواهن.
“إنه أمرٌ خطير أن تنهض فجأة، من الأفضل أن تبقى مستلقيًا……”
ورغم قوله ذاك، مدّ كاين يده ليسند ظهر الملك ويعينه على الجلوس.
كان منظر الملك، وقد خارت قواه ونحل جسده، مؤلمًا للغاية.
وبينما كان يتنفس بصعوبة، تحدث الملك بصوتٍ واهن،
“لقد جاء ضيف عزيز……أهلًا بكِ، كونتيسة.”
حتى وهو مريض، لم يفقد هيبته.
فوقفت أمامه وأمسكت بطرف ثوبي وانحنيت احترامًا.
“أحيي شمس وينستاليريا.”
ورغم أن أنفاسه كانت متقطعة، واصل الملك كلامه،
“لقد استدعيتكِ اليوم……لأطلب منكِ دواءً.”
“أمرٌ بهذه الأهمية……لماذا توكله إليّ أنا يا جلالتك؟”
“ولي العهد سيشرح لكِ التفاصيل……أرجوكِ، هل يمكنكِ تلبية طلبي؟”
لم أستطع قول “لا”، لذا انحنيت برأسي موافقةً كعلامة على الامتثال. فابتسم الملك بالكاد، رافعًا زاوية شفتيه ليعبّر عن امتنانه، ثم حوّل نظره نحو كاين.
“كاين……لدي ما أقوله لك أيضًا……”
“أنا أستمع.”
بدا أن النطق بكلمةٍ واحدة كان يشكّل عبئًا عليه، فقد ارتجف وجهه فجأة بالألم،
“كاين إيدن وينستاليريا……أوكلكَ بأن تتولى الحكم بالنيابة عني في هذا البلد.”
فابتسم كاين وكأنه كان يتوقع هذا القرار مسبقًا.
“أتلقى الأمر وأطيعه.”
و كانت جميع الأنظار متجهةً نحو الملك، فلم يلحظ أحدٌ شيئًا.
لم يلاحظوا أن يد كاين، الذي نطق كلماته بكل فخرٍ وثبات، كانت ترتجف بخفة.
___________________
كاين من زمان ماطلع وعنه ذاه جاي وعه الاحزان😭
ايه معليه ايرفين بتطلع معجزات البطله وتعالجه دونت ووري كاين 🤏🏻
المهم دانتي اطلق خوي بس شفيه ساكت طول الوقت 😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 59"