بعد ذلك بعدة أيام، بدأ الناس يزورون المحل بين الحين والآخر.
كان بعضهم يشتري دواءً بسيطًا، وبعضهم الآخر يكتفي بالتفرج فقط ثم يغادر. و حتى عندما كنت أتجول في السوق، أصبحت همسات الناس أكثر من ذي قبل.
وقبل أن أتمكن من التكيف مع هذا التغيير المفاجئ، كنت في طريقي الآن إلى القصر الملكي بناءً على استدعاءٍ من كاين.
‘هل دانتي وكايدن بخيرٍ الآن؟’
لا يمكنني أن أترك المتجر الذي بدأ للتو هكذا فجأة، لذا تركته في عهدتهما.
و كنت أشعر ببعض القلق، لكن لم يكن هناك خيارٌ آخر.
‘نادراً ما يوجد من يعرف شيئًا عن الأدوية، ثم إن دانتي وكايدن لا يطلبان أجرًا أصلاً……’
شعرت أنني أفرطت قليلاً في التفكير، فأملت رأسي بحيرة ثم وجهت نظري نحو نافذة العربة.
لكن، ما هذا؟
بينما كنت أحدق في شيء لمحت طرفه بعيني، فأسرعت أطرق جدار العربة.
“انتظر! توقف! بسرعة!”
عندما صرخت، توقفت العربة فجأةً فاهتزت بقوة. و كدت أن أسقط للأمام، لكنني تمسكت بالمقعد وتمكنت من التماسك.
من دون تردد، قفزت من العربة وركضت نحو الشيء الذي رأيته قبل قليل.
“هذا……”
وعندما اقتربت منه أكثر، لم أستطع أن أغلق فمي من الدهشة.
السائق الذي تبعني على عجل كان يلهث من شدة الركض.
“سيدتي……! لماذا تتصرفين هكذا فجأة……هاه!”
ثم شهق من الذهول وهو يحدق أمامه. وقد فهمت سبب ردّة فعله.
عدت بعيوني نحو الشيء الذي لفت انتباهي. كان رجلاً مصابًا بجروح بالغة، يبدو أن وحشًا أو مخلوقًا شيطانيًا قد هاجمه، وكان مغطى بالدماء وملقى على الأرض.
‘هل مات؟’
اقتربت منه بقلب يرتجف.
“سيدتي، هذا خطيرٌ للغاية……”
سمعت صوت السائق المتحشرج بالبكاء، لكنني تجاهلته وتقدمت بخطى ثابتة.
اقتربت منه ببطء، خطوةً تلو الأخرى، ثم وضعت يدي على عنقه.
دق…دق…
فشعرت بنبض خافت ينبض ببطء. ثم زفرت تنهيدة ارتياحٍ خفيفة من بين شفتي.
‘إنه حي.’
لكن إن تُرك هكذا، فلا شك أنه سيفارق الحياة قريبًا.
لقد كان بحاجة إلى إسعافاتٍ أولية عاجلة. فناديت السائق،
“أحضر حقيبتي من العربة.”
“ماذا……؟”
صرخت به مجددًا وهو يرمش ببطء وكأنه لم يستوعب.
“بسرعة!”
“نـ-نعم! سأحضرها فورًا!”
قفز السائق من مكانه وركض نحو العربة على عجل. ويبدو أن الصوت العالي قد أيقظ الرجل المصاب، فقد عبس وجهه وهو لا يزال ممددًا.
يبدو أن وعيه لم يغب تمامًا، لكنه لم يستطع النهوض بسبب نفاذ قواه بالكامل.
وبعد لحظات، عاد السائق راكضًا وهو يضم حقيبتي إلى صدره.
“هـ-ها هي……هاااه……هاااه……”
فأخذت الحقيبة منه بينما كان يلهث من التعب.
و كانت حقيبة الأدوية التي أصبحت أحملها معي دائمًا منذ أن التقيت بالأخوين تيري و ثيو.
أخرجت منها جرعة تعافي وفتحت غطائها. ثم سكبت الدواء بلطف قرب فم الرجل.
معظم السائل سال خارج فمه، لكنه مع ذلك ابتلعه شيئًا فشيئًا.
‘آمل أن يكون له تأثير.’
نظرًا لكمية الدم التي فقدها، لم أكن واثقةً من أن الدواء سيفيده. و كنت أرجو فقط أن يستعيد وعيه على الأقل.
‘لو كان دانتي هنا، لكان بإمكانه استخدام سحر الشفاء……’
لكنني، بمهاراتي الحالية، لا يمكنني استخدام سحر الشفاء على البشر. بل قد أتسبب في أذى أكبر.
فشعرت بالغيظ لكوني عاجزةً عن تقديم المساعدة الحقيقية.
‘أتمنى فقط أن ينجو……’
لم أكن أريد أن أشهد موت أحد.
ولحسن الحظ، بعد أن أنهى الزجاجة كاملة، بدأت ملامحه تتحسن قليلاً.
لكن لم يكن الوقت مناسبًا للاطمئنان بعد. فهو لا يزال ينزف، وكان من الواضح أن حالته قد تسوء مجددًا في أي لحظة.
أخرجت من الحقيبة بعض الضمادات والأعشاب الطبية. وبمساعدة السائق، رفعت الرجل بحذر وبدأت أدهن جراحه بالأعشاب ثم لففتها بالضمادات.
“أوغه……”
ربما لأنه بدأ يتحسن، أو لأن الأعشاب سببت له بعض الألم، عبس وفتح عينيه قليلًا.
ثم رمش الرجل بنظراتٍ باهتة عدة مرات، و تمتم بصوت خافت،
“سيدتي الكونتيسة……؟”
‘يا إلهي، يبدو أنه من سكان الإقليم.’
كنت أظنه من منطقةٍ أخرى لأنه كان في مكان بعيد عن أرديل.
حتى وهو في حالة شبه غيبوبة، تعرّف عليّ وحاول أن ينهض لتحيتي رغم ضعفه.
أمسكت بكتفه بلطفٍ وأعدته إلى وضعه. فلو تحرك فجأة، قد تتفتح جراحه من جديد.
“هذا سر. عليكَ أن تنام قليلًا الآن.”
كان يحدق بي بتعب، ثم ابتسم برقةٍ وسرعان ما فقد وعيه.
‘هل سيتذكر شيئًا……؟’
تمنيت ألا يتذكر، ثم ساعدني السائق على وضعه في العربة. و سارعنا به إلى أقرب عيادة وسلمناه هناك.
ولحسن الحظ، بعد أن شرحت لهم ما حدث، وعدوا بأنهم سيتكفلون به ويعتنون به جيدًا.
وعندما خرجت من العيادة، كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب.
لقد مر وقتٌ طويل على موعدي مع كاين. ولم يكن أمامي خيارٌ سوى استعارة ورقة وقلم من مكان قريب وكتابة رسالة أرسلها إليه.
أخبرته أن أمرًا طارئًا قد حدث ولن أتمكن من الحضور اليوم، وسأزوره في وقتٍ لاحق، ثم توجهت نحو القصر.
وما إن عدت إلى القصر حتى صرخت ليج عندما رأت الدماء على ملابسي. و لم تصدق أن الدم ليس دمي إلا بعد أن خلعت ملابسي تمامًا وأريتها.
وبصعوبة عدت إلى غرفتي وألقيت بجسدي على السرير.
“كان يومًا متعبًا……ككل يوم.”
ومن دون أن أدرك ما يحمله لي الغد، غفوت سريعًا.
***
“سيدة إيرفين، ما الذي حدث بالضبط هنا……؟”
سألني كايدن بدهشةٍ وهو يحدّق بي.
“أنا نفسي لا أفهم ما الذي يجري……”
كنت مثله تمامًا، أحدّق بلا وعي في صف الناس المتجمهرين خارج المتجر.
لم نكن قد فتحنا الباب بعد، ولا نعرف لماذا جاء كل هؤلاء الناس.
‘هل يعقل أنني ارتكبت خطأ ما؟ هل جاءوا لمواجهتي؟’
لكن لا، لقد كانوا مصطفين بطريقةٍ منظمة جدًا.
وإن لم يكونوا جاؤوا للشكوى، فما الذي جاء بهم؟ لم أستطع أن أستوعب الموقف.
وفي النهاية، عقدت العزم وتقدمت نحو الباب وبدأت أفتحه بالمفتاح. وفي تلك اللحظة، تحدثت السيدة التي كانت تقف في مقدمة الصف.
“أخيرًا، لقد وصلتِ.”
ارتجف جسدي فجأةً عند سماع الصوت الحاد. وعندما نظرت بجانبي بخفة، رأيت عشرات العيون متجهةً نحوي.
كانوا يراقبونني حتى وأنا أبلع ريقي وترتجف يداي.
فحاولت جاهدةً تهدئة قلبي الذي يخفق بعنف و تحدثت بصوتٍ خافت،
“ما الأمر؟”
ضحكت السيدة بسخرية وقالت،
“ما الأمر، تقولين ما الأمر؟!”
جذب صوتها العالي انتباه الجميع حولنا. بينما تابعت،
“جئت إلى محل الأدوية لأشتري دواءً، لا خبزًا، طبعًا!”
فلوّحت بيدي على عجل،
“آه، هذا ليس مخبزًا. لكن إذا ذهبتِ إلى هناك ستجدين مكانًا يبيع خبزًا لذيذًا……”
ثم توقفت فجأة وكأنني أفقت من غيبوبة.
“لحظة، ماذا قلتِ؟ جئتِ لشراء ماذا؟”
سألتها بدهشة، فأجابت بصوتٍ يملؤه المرح،
“جئنا لنشتري دواءً، يا سيدتي الكونتيسة.”
وبعد هذه السيدة، التي كانت أول زبونة في هذا اليوم، توافد العشرات بعدها.
كانوا جميعًا يقولون أن الأسعار مناسبة، وإنه طالما أن الكونتيسة كينيارديل هي المسؤولة، فالأمر محل ثقة.
أما أنا، فلم أصدق ما كان يحدث حتى وأنا أبيع الدواء لهم واحدًا تلو الآخر.
وفي النهاية، لم يغادر الناس إلا بعد أن نفذت كل الأدوية التي أعددتها.
لم يتبقَّ سوى أدوية لا تُستخدم كثيرًا في الحياة اليومية، مثل علاج تساقط الشعر أو مضاد السموم القوي.
وبعد يوم طويل مزدحمٍ بالكاد أدركت فيه ما إذا كنت قد قبضت ثمن كل شيء بشكل صحيح، انتبهت فجأةً عند صوت الباب يُفتح ودخول الزبون الأخير.
“عذرًا……لحظةً فقط!”
كانت امرأة ذات شعر بني مموج، جاءت لشراء دواء لأخيها الذي تناول طعامًا فاسدًا.
ثم استوقفتها وسألتها عن شيء حيّرني طوال الوقت،
“هل……هل تعرفين لماذا ازداد عدد الناس فجأة؟”
قد تظن أن سؤالي غبي، لكنني كنت حقًا أريد أن أعرف.
فابتسمت المرأة بلطف وأجابت،
“لقد انتشرت شائعة.”
“شائعة؟”
“نعم، يقولون أن الكونتيسة ساعدت أطفال الأحياء الفقيرة، وأنقذت رجلاً جُرح على يد وحش.”
يُقال أنه لا يوجد سرٌ يدوم إلى الأبد.
كنت أتوقع أن تُكشف قصة مساعدتي للأخوين الصغيرين تيري و ثيو يومًا ما، لكنني لم أتخيل أن ما حدث مع ذلك الرجل البارحة سينتشر بهذه السرعة.
لكن، من الغريب كيف أن فعلًا بديهيًا كهذا يجعل الناس يغيرون نظرتهم في يوم وليلة.
لو كنت أعلم، لما طلبت منهم أن يبقوا الأمر سرًا.
‘ربما السبب أنني أنقذتُ الناس بتلك البساطة، وطلبتُ بكل طبيعية أن يظل الأمر سرًا……فقد لامس ذلك قلوب الجميع.’
أحسنتُ فعلًا عندما طلبت منهم أن يُبقوا الأمر سرًا.
سرٌّ عظيم! يحيا السر!
وبينما كنت أُهلِّل في داخلي فرحًا، كانت المرأة تحرّك شفتيها مراتٍ عدة وكأنها تتردد، ثم تحدثت أخيرًا،
“شكرًا لعودتكِ، سيدتي الكونتيسة. سكان أرديل جميعهم يدعمون نوكس.”
وعندما انحنت لتحيّتي، شعرت بشيءٍ يهتز في قلبي ويخفق بقوة. و غمرتني مشاعر جياشة، وبدأت أفكر في ما يمكنني قوله لها.
وبعد تفكير، لم أجد عبارةً أنسب من واحدة فقط.
فانحنيت بدوري بعمق،
“شكرًا لكِ. تفضّلي بالزيارة مرة أخرى!”
_____________________
التاجرة ايرفين ✨
باقي زواج ايرفين خلاص سوالف تجاره 😘
دانتي ماله حس وين التبوسمات
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 53"