كان منزل تيري يقع في نهاية الزقاق الضيق. و كان بناءً متهالكًا يبدو وكأنه سينهار في أول عاصفة تهب.
فتح تيري الباب بحذر، ثم أطلّ برأسه مبتسمًا بخجل،
“منزلنا متواضع…..لكن تفضلوا بالدخول.”
من الغريب أن تصدر هذه العبارة من طفل لا يتجاوز السابعة أو الثامنة من عمره.
حبست أنفاسي وكتمت شعور الشفقة الذي بدأ يملأ قلبي، ثم دخلت المنزل.
و رغم أننا داخل المنزل، إلا أن الرياح الباردة كانت تتسلل إلينا وتُشعرنا بالقشعريرة.
“أمي قالت لي أن أرتب الغرفة وأراقب أخي، وقالت أنها ستعود بسرعة…..لكن حرارة ثيو مرتفعةٌ جدًا..…”
بدأ تيري يتمتم بكلمات متقطعة وهو يجمع الأشياء المبعثرة من الأرض ويحاول تنظيف المكان بطريقةٍ عشوائية.
وبعد قليل، بدا وكأنه شعر بالرضا عن الترتيب، فابتسم وفتح باب الغرفة الداخلية.
“ثيو، لدينا ضيوف.”
أول ما وقعت عليه أعيننا في الغرفة الضيقة كان كومةً من الأغطية. و تلك الكومة، التي لم تتحرك أبدًا، بدأت تتململ حين سمع الطفل صوت أخيه.
اقتربت منها وانحنيت بهدوء، ثم أزحت الأغطية الثقيلة. و كان تحتها طفلٌ أصغر حجمًا، ضعيف البنية، و وجهه مليء بالبقع الناتجة عن الحمى، يتنفس بصعوبة بالغة.
وضعت يدي على جبين ثيو دون أن أشعر و تحدقت بصدمة.
“حرارته مرتفعةٌ جدًا..…”
كانت حرارةً لا يستطيع حتى شخص بالغ أن يتحملها.
و كان ثيو قد فقد وعيه لدرجة أنه لم ينتبه حتى عندما كان أحدهم يكلمه أو يهزه. فنظرت إليه بشفقة، وبينما كنت أتأمله نقرني دانتي بلطف.
نظرت إليه بعدم فهم، فنقل نظره إلى الحقيبة التي كنت أحملها. وبفضل ذلك تذكرت شيئًا كنت قد نسيته للحظة.
‘صحيح!’
أسرعت بتفتيش الحقيبة وأخرجت زجاجة من دواءٍ سحري. كان دواءً مصنوعًا من أعشاب تساعد على خفض الحرارة.
“لو أعطينا ثيو هذا، سيتحسن بسرعة.”
عندها فزع تيري ولوّح بيديه رافضًا.
“لا، لا يمكنني قبول ذلك! ليس لدي مال..…”
ربتُّ على رأس تيري الذي بدأ يعبث بيديه بحزن، وابتسمت له.
“لا تقلق، سأعطيكَ إياه دون مقابل.”
“…..أمي قالت أنه لا يجب أن آخذ أشياءً من الغرباء.”
“معك حق، لكن هذا ليس شيئًا خطيرًا، بل دواءٌ لخفض الحمى، فلا بأس به.”
قلت ذلك ثم رفعت ثيو بحذر وأرقدته على ركبتيّ وأسندت رأسه بذراعي. ثم أملت الزجاجة نحو فمه، وبينما كان يتنفس بصعوبة، بدأ السائل الأخضر يتسلل ببطء إلى شفتيه الصغيرتين.
وبعد أن أنهى الزجاجة، أعدته إلى وضعه مستلقيًا.
“هل سيكون ثيو بخير؟”
أسرع تيري واقترب من ثيو بخطوةٍ واحدة. ثم نظر إليّ بعينين مليئتين بالقلق.
“بالتأكيد. سيستفيق قريبًا.”
وضع دانتي يده الكبيرة على رأس ثيو القلق، وراح يربت عليه بلطف.
‘لكن في مثل هذه البيئة، قد تسوء صحته مجددًا بسرعة.’
نظرت حولي ثم نهضت من مكاني.
لم أكن أستطيع فعل شيء عظيم، لكن تنظيف المكان قليلًا كان ممكنًا. فشمّرت عن ساعدي وبدأت في ترتيب الأشياء واحدةً تلو الأخرى.
عندها اقترب دانتي وتيري بهدوء وراحا يساعدانني. وفي وقتٍ قصير، أصبحت الغرفة التي كانت في فوضى تامة نظيفة ومرتبة.
‘همم، بهذا الشكل سيكون الوضع جيدًا.’
وضعت يدي على خصري وابتسمت بفخر، وفجأة سُمِع صوت خفيف بين الأغراض.
“ثيو!”
لا أدري كيف علم بذلك، لكن تيري صرخ باسم ثيو وركض نحوه بسرعة. فتبعناه أنا ودانتي واقتربنا من الطفلين.
كان ثيو قد نهض بصعوبة وأدار رأسه ببطء. و ظل يرمش بعينين شاردتين للحظة، ثم عندما تعرف على وجه تيري، بدأ صوته يخرج.
“أخي..…”
احتضن تيري ثيو الذي بدأت دموعه تتساقط بغزارة. و راح يربّت على ظهره الصغير بيديه الصغيرتين وهمس له بكلماتٍ مطمئنة حتى هدأ تمامًا.
أما أنا ودانتي، فوقفنا ننتظرهما وكأننا اتفقنا مسبقًا على ذلك.
“أخي…..من هؤلاء الناس؟”
سأل ثيو وهو يشهق بأنفه بعد أن توقف عن البكاء. فأمسك تيري بيده ونظر إليه بعطف.
“الأخت الجميلة هنا هي من جعلتكَ لا تتألم.”
“حقًا؟”
أخت….أخت….
”يا للراحة لم يقل لي خالة..…’
أحسست بالطمأنينة حين رأيت أن الطفلين بخير. فابتسمت برقة، و ابتسم ثيو مقلدًا إياي.
بينما كان يراقبنا، أضاف تيري جملة.
“لهذا، قل لها شكرًا، حسناً؟”
“أوووه، شكرًا يا أختي.”
انحنى ثيو بسرعةٍ برأسه، ثم انحنى تيري أكثر منه وهو يراقب الموقف. فنظرت إلى هذين الطفلين، وفجأة خرجت مني ضحكةٌ دون أن أشعر.
وحين ضحكت، تبعني ثيو وتيري وارتسمت على وجهيهما ابتسامةٌ مشرقة. أما دانتي، فكان يراقبنا بهدوء ثم ابتسم بدوره.
ضحكنا سويًا لبعض الوقت، ثم التقت عيناي بعيني دانتي فجأة.
كانت الرياح المتسللة من الحائط القديم تعبث بشعره.
بينما ابتسم بخفة و تحدّث،
“الآن، يبدو أن الربيع قد حل تمامًا.”
داعب نسيم الربيع أنفي بلطف. فابتسمت له تبعًا.
منذ متى بدأت أشعر بهذا؟
كنت أشعر دومًا بالتوتر عند الحديث مع دانتي، لكن في لحظة ما، بدأت أشعر بالراحة بقربه.
وأعجبتني كثيرًا هذه التغيّرات.
ظل الضحك يملأ منزل تيري و ثيو لفترة من الزمن. ومع مرور الوقت، حان موعد العودة إلى القصر.
“هل يجب أن ترحلي حقًا؟”
سألني ثيو وهو ممسكٌ بطرف تنورتي.
لم أستطع تجاهل نظرات الطفل البريئة، ووقفت محتارة، حينها وبّخ تيري ثيو،
“ثيو، هذه الأخت وذلك العم مشغولان للغاية. لا يجوز أن تتصرف هكذا.”
كتمت ضحكتي بصعوبة.
‘أن يصف دانتي بالعم..…’
نظرت إلى دانتي بطرف عيني، ويبدو أن الأمر أزعجه، إذ تمتم قائلًا: “عم؟”
تماسكت وضحكت بخفة ثم التفتُّ إلى تيري ونظرت في عينيه.
“بما أن تيري وثيو دعاني إلى منزلهما اليوم، فسأدعوكما أنا في المرة القادمة. عليكم أن تزوروني حينها.”
“حقًا؟”
“نعم، أعدكَ.”
“هل تعدينني حقًا؟”
“نعم. هيا، لنربط أصابعنا ونتعاهد!”
مددت إصبعي وربطته بإصبع ثيو الصغير، الذي كانت عظامه واضحة الملمس.
و يبدو أن وعدي راق لثيو، إذ ابتسم برضا وتراجع إلى الخلف.
ثم وقفت وفتحت الباب وهممت بخطوةٍ أولى، حين سمعت صوت تيري الخافت.
“ذاك الـ…..”
“هم؟ ماذا قلت؟”
لم أسمع جيدًا، فسألته مجددًا، لكنه لم يجب. فظننت أني توهمت، فأملت رأسي بحيرة وهممت بالمغادرة.
“أتعلمين..…”
عندما سمعت صوته مجددًا، انخفضت على ركبتي ونظرت إليه في عينيه.
“ما الأمر؟”
تردد تيري قليلًا ثم سألني بتحفظ،
“اسمكِ…..لا، أقصد، ما هو اسمكِ يا أختي؟..…”
توقف في منتصف حديثه، ثم حرّك عينيه بخجل قبل أن ينطق تلك الكلمات الرسمية.
فتأملته بصمت.
‘كم هو لطيف.’
ابتسمت بهدوءٍ وأخذت لحظةً لأفكر.
رغم أنه مجرد طفل، لا يمكنني الكشف عن هويتي. فإن انتشر خبر أن سيدة الإقليم ساعدت شخصًا بعينه، فقد يتسبب ذلك بمشكلات.
تنهدت بهدوء وفتحت فمي لأجيبه.
“اسمي هو-”
لكن في تلك اللحظة…..هبت ريحٌ قوية فجأة، فاندفعت قلنسوتي إلى الخلف.
“آه!”
فوجئت ورفعت يدي بسرعة لأحمي شعري وعينيّ.
لكن الأوان كان قد فات.
“سيّدة الإقليم..…!”
أسرع تيري بوضع يده على فمه. و يبدو أنه أدرك أنني لا أريد كشف هويتي.
لكن الماء كان قد سُكب، ولا مجال لإعادته إلى الكأس.
فابتسمت له بابتسامةٍ مشرقة،
“شش. ما حدث اليوم سيكون سرًّا بيننا فقط، اتفقنا؟”
ظل تيري يضع يده على فمه بينما يومئ برأسه بحماس. ثم وخز ثيو، الذي كان واقفًا بجانبه شاردًا، في خصره.
و لم يكن ثيو يفهم تمامًا ما يحدث، لكنه بدأ يومئ هو الآخر بمجرد أن رأى شقيقه يفعل ذلك.
***
في اليوم التالي. رغم أنني علمت سبب ركود التجارة، فقد فتحت باب المتجر بثبات.
إن كان السبب في قلة الزبائن هو انعدام الثقة، فالحل واحد. أن أفتح الباب باستمرار وأكسب ثقة الناس تدريجيًا.
‘سأبحث لاحقًا عن وسيلة جديدة لكسب المال.’
فأنا أعلم جيدًا الطرق التي استخدمتها البطلة السابقة لكسب المال.
‘لقد عثَرت على منجم حجارة مانا، واستثمرت في مشروع دوقية هايفن، أليس كذلك؟’
كان الأمر يرهقني وأنا أفكر في الطريقة التي سيكون لها أقل تأثير ممكن عندما تبدأ أحداث القصة الأصلية.
فهدفي في النهاية هو الخروج من مجرى الرواية والعيش بصحة وسلام.
“هل سيكون منجم حجارة المانا هو الخيار الأنسب؟”
تمتمت لنفسي بينما كنت أضع وحدة تشغيل سحرية مشحونة طوال الليل على جهاز تصنيع الجرعات.
ثم رن جرس الباب بصوت خافت. و ظننت أنه دانتي أو كايدن، فأخرجت رأسي بحذر من المخزن.
“أنا هنا في الـ…..!”
لكن ما إن رأيت الشخص الذي دخل حتى اتسعت عيناي من الدهشة وسكتُّ تمامًا.
“… ..من أنتَ؟”
لم يكن دانتي ولا كايدن، بل رجلٌ أراه لأول مرة.
دخل بخجلٍ إلى المتجر وهو يتلفّت حوله. ثم تمتم بصوت منخفض،
“أتيت….،لشراء دواء.”
‘يا إلهي. إنه زبون.’
شهقت دون وعي. ثم خرجت من المخزن وجسدي متيبس بالكامل، و سألته بصوت مرتجف.
“عن ماذا…..تبحث؟”
سعل قليلًا لتصفية صوته، ثم،
“أحم…..هل لديكَ شيءٌ مثل منشط لاستعادة النشاط؟”
“نـ-نعم بالطبع! لدينا أدويةٌ عادية وأخرى سحرية أيضًا!”
لكن الزبون عبس فجأة وقال بانزعاج.
“لا، شخصٌ مثلي كيف له أن يشتري دواءً سحريًا؟! يا إلهي…..جئت إلى هنا بلا فائدة!”
ولوّح بيده غاضبًا، فبدأت ألوّح أنا أيضًا بسرعة في محاولةً لتهدئته.
“لـ-لا! السعر لا يتجاوز ثلاثين بيل فقط!”
هـ-هل هذا مبلغٌ مرتفع له أيضاً؟ لكن هذا هو سعر الدواء العادي تقريبًا…..
بلعت ريقي ورفعت زاوية فمي بابتسامةٍ مصطنعة. عندها، تردد قليلًا قبل أن يجيب.
“إ-إذًا…..أعطني واحدة.”
ثم رن جرس الباب مجددًا.
“إلى اللقاء..…!”
وما إن أغلق الباب تمامًا حتى شعرت بأن جسدي كله قد ارتخى، فاتكأت على طاولة الحساب.
فتحت راحة يدي اليمنى بهدوء، فإذا بثلاثين بيل تصدر صوتًا خفيفًا وهي تتدحرج فيها.
ما زلت في حالة ذهول، فقرصت خدي.
“آي…..هذا مؤلم.”
كان ألمًا حقيقيًا. لكن مع ذلك، كانت الابتسامة ترتسم على شفتي.
____________________
ليت دانتي عندها بيضحك 😭
المهم البزران ذولا ودي أحشيهم اكل 🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 52"
كيووت دانتي ار عم