ابتلعت ريقي وانتظرت كلام صاحب الكشك. ولم يلبث أن بدأ يتحدث،
“لا أحمل أي مشاعر سيئة تجاه الكونتيسة الجديد، لكن كان من الأفضل لو لم يُعاد افتتاح نوكس.”
“لماذا؟ كان نوكس دائمًا يُحظى بسمعة طيبة. بل كان له فروع في أنحاء البلاد!”
بدأ صاحب الكشك يرتّب بعض الأغراض من حوله وهو يرد،
“ولهذا السبب بالذات.”
‘ماذا يعني؟’
لم أفهم ما يقصده، فاكتفيت بالتحديق فيه بصمت.
“أمثالي من عامة الناس، المرض في حقّنا يُعدّ ذنبًا.”
قال ذلك بنبرة هادئة، دون أي تعبير يُذكر على وجهه.
“بالنسبة لنا، كان نوكس أشبه بالنور. أن تتمكن من شراء الدواء بعد يومين فقط من الجوع…..هل تدركين كم كان ذلك يمنحنا الأمل؟”
كلما تحدث، زاد شعوري بالحيرة.
“أليس من الجيد إذًا أن يُعاد افتتاح متجر كهذا؟”
أطلق ضحكةً خفيفة، ثم ما لبث أن جَمُد وجهه وأكمل كلامه،
“كلّ ما في الأمر بدأ بعد حادثة الكونت السابق.”
“تقصد…..بعد الحادث؟”
“نعم. نائب الكونت، جوزيف ميليانو. ذلك الوغد كان شخصًا حقيرًا بحق.”
“ذلك الوغد…..أقصد، هل ارتكب شيئًا فظيعًا؟”
خرجت الشتيمة من فمي دون أن أشعر، فسارعت بتغيير الموضوع قبل أن يشك صاحب المتجر.
فتوقف فجأة عن ترتيب الأشياء من حوله وتنهد بعمق.
“منذ أن تولّى جوزيف منصب نائب الكونت، بدأ نُوكس يُهمل شيئًا فشيئًا. وفي النهاية، أُغلق المكان حتى قبل أن تمر سنةٌ على حادث الكونت.”
على أية حال، فهو شخصٌ عديم الفائدة. ذلك الوغد جوزيف لم يفدني في حياتي بشيء قط.
‘تبا له. منحوس. يستحق أن يتعثر ويسقط على ظهره وهو يمشي.’
تمتمت في سري بكلمات شتمٍ كثيرة وتنهدت بخفة.
“الناس الذين فقدوا الأمل لم يعودوا يتوقعون شيئًا. كأنهم توقفوا عن ملاحقة النور بلا طائل.”
كان كلامه منطقيًا. وقد فهمته. فمن الطبيعي أن يصبح المرء حذرًا.
لكن…..لكن..…!
“قد تتمكن الكونتيسة الجديدة لكوينيارديل أن تدير نوكس كما كان يفعل الكونت السابق.”
أنا جادةٌ فعلًا في هذا!
لكن صاحب المتجر نفخ باستخفاف.
“أحقًا تظنين ذلك؟ هل ستستمر في إدارة نوكس حتى بعد أن تتزوج من رجل من عائلة أخرى؟”
“لا أحد يعلم.”
“بالضبط. لا يمكن أن نعلّق آمالنا دون أن تكون لدينا قناعةٌ أولًا.”
كان موقفه حازمًا. وإن كان الجميع يفكرون مثله، فمن المؤكد أن إدارة المتجر ستزداد صعوبة في المستقبل.
“إذاً، هل هناك طريقةٌ لكي يحظى نوكس بالاعتراف؟”
“طريقةٌ ليحظى بالاعتراف، هاه..…”
تابع حديثه وهو يعاود ترتيب ما حوله.
“يجب أن تمنحنا الثقة. بأنها ستكون دائمًا إلى جانبنا.”
***
‘آه، الجو جميل.’
رفعت رأسي نحو السماء الزرقاء ورفعت يدي قليلًا لتحجب ضوء الشمس.
كانت أشعة شمس الربيع الدافئة تتسلل برقة بين أصابعي وتداعب كفّي.
ثم ارتشفت رشفةً من المشروب الذي كنت أحمله بيد واحدة.
بعد أن استمعت إلى قصة نوكس من صاحب محل الشواء، شعرت أن كل طاقتي قد تبخرت ولم أعد أرغب بفعل أي شيء. و كنت فقط جالسة مع دانتي في الساحة، أحدّق في السماء بشرود.
“شكرًا لأنكَ أتيت معي.”
رفع دانتي رأسه أيضًا مثلما فعلت، ونظر إليّ.
“ما الذي تنوين فعله الآن؟”
سؤاله المفاجئ جعلني أستدير نحوه بسرعة.
“لا أدري…..يبدو أن هناك طريقة، لكن..…”
كنت أظن أن إعادة افتتاح المتجر ستعيد له سمعته بسرعة ويعود النجاح كما كان. لكني كنت ساذجة. كان يجب أن أفكر أكثر.
حين كنت أحاول التفكير في عمل مستدام لا يؤثر على القصة الأصلية، لم يخطر في بالي سوى نوكس.
سأفكر في طريقة أخرى حالما أعود إلى القصر.
‘بما أنني خرجت، لما لا أتجول قليلًا؟’
ربما بسبب التفكير الزائد، بدأ رأسي يؤلمني. و بما أن العمل لا يجري كما ينبغي، فكرت أنه لا بأس إن قضيت الوقت في التجول بأرديل.
و على أي حال، كان لا بد من استكشاف الإقليم.
نهضت فجأةً من مكاني ونظرت إلى دانتي،
“أفكر في التجول قليلًا لتصفية ذهني، ماذا عنكَ، سيد ساحر؟”
رفع دانتي رأسه ونظر إليّ.
كان هو من ينظر إليّ من الأعلى دائمًا، أما الآن فانقلب الوضع، وكان شعورًا غريبًا.
‘لا بأس به.’
حين أشرقت الشمس على وجه دانتي، عبس من شدة الضوء. فنظرت إليه للحظة ثم خطوت خطوةً إلى جانبه لأحجب عنه الشمس.
و ابتسمت له بلطفٍ وسألته،
“هل تود المجيء معي؟”
ثبت دانتي نظره عليّ بشرود، ثم أجاب ببطء،
“نعم، لنذهب سويًا.”
عندما ارتسمت ابتسامته بسلاسة، خفق قلبي بشدة.
و لا أعلم إن كان يدرك ما أفكر به أم لا، لكنه نهض من مكانه. ومن خلفه، ظهر قوس قزح عند النافورة.
رؤية ذلك التناسق الغريب الذي بدا وكأنه لا يليق به، لكنه في الوقت نفسه يليق بشكلٍ غامض، جعل قلبي ينبض بعنف.
‘إنه وسيمٌ بشكل يبعث على الغضب فعلاً..…’
كنت أظن أنني رأيت عددًا لا بأس به من الوسيمين منذ جئت إلى هنا، لكن يبدو أن مناعتي لم تتشكل بعد.
هززت رأسي بقوة محاوِلةً طرد تلك الأفكار التافهة.
“هل نذهب من ذلك الاتجاه؟”
قلت ذلك مشيرةً إلى الجهة المقابلة تمامًا لمنطقة المتاجر. و دون أن ينظر حتى إلى الاتجاه الذي أشرت إليه، أومأ دانتي برأسه.
‘كيف يعرف إلى أين أريد أن أذهب؟’
هل هو يثق بالناس بسهولة هكذا؟ ماذا سيفعل إن حدث له مكروه؟
كتمت ضحكةً صغيرة كادت تفلت من شفتي وتحركت إلى الأمام.
‘كنت أظنه حيًّا سكنيًّا فقط..…’
لكن الطريق المعاكس لمنطقة المتاجر كان حيًا فقيرًا.
ظننت أن البيوت الكبيرة القريبة من الساحة تعود للأثرياء، لكن سرعان ما ظهرت البيوت القديمة المتداعية.
الأزقة الضيقة كانت مليئةً بخيوط العنكبوت، وظهرت الفئران بين الحين والآخر.
“عندما رأيته في الخريطة، ظننته حيًا سكنيًا عاديًا…..لا شك أن الرؤية على الطبيعة مختلفة.”
تمتمت وكأنني أحدث نفسي. و دانتي، الذي بدا غير مهتم، أومأ برأسه تلقائيًا كما يفعل دائمًا.
كنت أبتسم بخفة وأنا أنظر إليه، وفجأة…..
“…..ــيد.”
صدر صوتٌ من مكانٍ ما. فتوقفت عن السير ونظرت حولي.
“هل سمعت الصوت أيضًا، أيها الساحر؟”
هز دانتي رأسه نافيًا وكأنه لم يسمع شيئًا. فانتظرت واقفة لبرهة، لكن الصوت لم يتكرر.
“آه…..يبدو أنني توهمت.”
ابتسمت بخجل وأنا أحك مؤخرة رأسي. لكن ما إن هممت برفع قدمي لأواصل السير، حتى….
“أ…..أيها السيد..…”
كان الصوت الواهن نفسه الذي سمعته قبل قليل. فاستدرت بسرعة نحو دانتي. ويبدو أنه سمعه هذه المرة، إذ نظر إليّ ثم أشار إلى زقاقٍ قريب،
“الصوت أتى من هناك.”
كان الزقاق الذي أشار إليه ضيقًا لا يتسع سوى لشخص واحد. ورغم أن الوقت كان نهارًا مشرقًا، إلا أن الزقاق بدا مظلمًا بسبب ضيقه الشديد.
“هل…..هل نذهب لنرى؟”
دخلت الزقاق برفقة دانتي. وكان أضيق وأشد ظلمةً مما بدا عليه من بعيد.
و يبدو أن الطفل سمع وقع خطواتي، إذ تكرر الصوت من جديد.
“أيها السيد..…”
كان صوتًا ضعيفًا للغاية، بالكاد يُسمع ما لم أركز جيدًا. فشعرت فجأةً بالقلق، و أسرعت بخطاي إلى داخل الزقاق.
وكلما توغلنا أكثر في الزقاق، بدأنا نقترب من مصدر الصوت. وحينها فقط عرفنا من كان ينادينا.
“يا صغير، ماذا تفعل هنا؟”
كان طفلًا صغيرًا ونحيفًا لدرجة تثير القلق بشأن حالته الغذائية.
كان يقف هناك والدموع تنهمر من عينيه مثل حبّات المطر.
“لماذا تبكي؟ هل هذا منزلكَ؟”
خطوت خطوةً نحوه، فتراجع الطفل إلى الوراء.
كنت مترددةً ولا أعرف كيف أتصرف أمام حذره الواضح، عندها تقدّم دانتي خطوةً أمامي متجاوزًا إياي.
‘دانتي أطول وأضخم مني…..هل سيخيفه ذلك؟’
وكما توقعت، تراجع الطفل مجددًا. لكن دانتي لم يتحرك أكثر، بل انخفض على ركبتيه ليصبح بمستوى نظر الطفل.
“هل تحتاج إلى مساعدة؟”
حين صدح صوته المنخفض في الزقاق، ارتجف الطفل قليلًا. فمد دانتي يده نحوه،
“إن طلبت المساعدة، فسأساعدكَ.”
لم أكن أستطيع رؤية تعابير وجه دانتي وهو واقف أمامي، لكن الطفل أومأ برأسه و ودّ بصوتٍ مرتجف وممتلئ بالخوف،
“أرجو…..أرجوكم، ساعدوني..…”
بدأ الطفل يقترب منا وهو يفرك عينيه بعنف بأكمام ملابسه.
“أرجوكم…..ساعدوني..…”
كان في البداية يذرف دموعه بصمت، ثم سرعان ما تحول إلى بكاء مكتوم.
ماذا عليّ أن أفعل في موقف كهذا؟ أنا سيئةٌ حقًا في التعامل مع الأطفال!
بينما كنت أقف متوترة لا أعرف كيف أتصرف، رفع دانتي يده وبدأ يربّت على ظهر الطفل برفق.
“هشش…..كل شيء على ما يرام.”
وبفضل لمسته المُطمئنة، بدأ الطفل يهدأ تدريجيًا وتوقّف عن البكاء شيئًا فشيئًا.
ثم ربّت دانتي بخفة على رأس الطفل بيده الكبيرة.
“أحسنت، طفلٌ جيّد.”
بدأ الطفل بالتنفس بعمق وهو يحاول استعادة هدوئه. فانتهزت الفرصة وسألته،
“ما اسمكَ؟”
“…..تيري.”
“تيري، كيف يمكننا مساعدتكَ؟”
قلّدت أسلوب دانتي في الحديث بشكل بدا غريبًا ومحرجًا. لكن تيري بقي ينظر إلى الأرض، يحرّك أصابعه، غير قادر على الإجابة بسهولة.
ثم حرّك شفتيه بصعوبة،
“أخي…..مريض..…”
“وأين هو أخوكَ؟”
“في….المنزل..…”
“أليسا والداكَ في المنزل؟”
“أبي…..سافر إلى النجوم، وأمي…..خرجت للعمل..…”
وبينما كان يروي قصته، بدأ تيري يبكي من جديد بصوتٍ متهدّج.
‘آه لااا، لا تبكِ، أرجوكَ..…’
وقبل أن ينفجر الطفل بالبكاء، سارعت بالكلام لأشتت انتباهه.
“وأين…..هو أخوكَ الآن؟ هذه الأخـ-”
لكن لا، لا يمكنني أن أقول أنني أخته، هذا كثير.
“أعني، خالتكَ ستجعله يشعر بتحسن، لا تقلق.”
رفع تيري نظره إليّ بعينين مليئتين بالدموع،
“في المنزل..…”
ثم ما لبث أن استدار وبدأ يمشي أمامنا وكأنه يقول لنا أن نتبعه.
تبادلنا أنا ودانتي النظرات للحظة، ثم بدأنا في اللحاق به من خلفه.
___________________
شوفي دانتي كيف يعامل البزران ينفع ابو مره باقي الام😘
مب على كيف ايرفين عاد ماتفهمها خلاص وضح واجد حتى يوم وقفت قدامه وحاكته ابتسم✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 51"
يا اختي المترجمة احووووووبك