“بما أنكِ ذاهبةٌ إلى قصر الدوق هايفن بعد وقتٍ طويل، فلا بد أنكِ متوترة.”
قالت ليج ذلك وهي تمشط شعري بلطف.
“لستُ متأكدة……هل هذا ما يسمى توترًا؟ الأمر غريبٌ قليلًا. حتى وقتٍ قريب، كان ذلك المكان بمثابة بيتي.”
الآن وقد أصبحت أذهب إليه بدعوة، شعرت بالأمر غريبًا.
و حتى لو زرته مرارًا، لا أظن أن شعوري سيتغير.
“يبدو أن السيد الشاب يفتقدكِ كثيرًا يا آنسة. حتى أنه أرسل العربة بنفسه.”
حقًا؟
بعد أن شككت مؤخرًا بأنه ربما معجبٌ بي، أصبحت لا أرغب بلقائه كثيرًا.
“ربما كذلك، فقد نشأنا معًا منذ الطفولة.”
“آنستي، هذا مجرد رأيٍ شخصي……”
قالت ليج ذلك وهي تتوقف عن جدل شعري وتنحني لتهمس في أذني.
“هل من الممكن أن يكون السيد هايفن معجبًا بكِ؟”
“ليج!”
وكأنها قرأت أفكاري، قالت شيئًا لا يُصدق. فصرختُ بها من شدة الارتباك، لكنها انفجرت ضاحكةً وكأن الأمر ممتع، ثم عادت لتصفيف شعري.
“لكنه حقًا غريب. في كل مرة يقابلكِ فيها، يتحدث وكأن في قلبه حنينًا كبيرًا، وحتى عودتكِ إلى كوينيارديل لم تعجبه كثيرًا، أليس كذلك؟”
دون أن تفهم ما في داخلي، تابعت ليج حديثها.
“راقبيه جيدًا اليوم. أنا متأكدةٌ أنه معجبٌ بكِ. أنتِ تعلمين أن لديّ حاسةً قوية في هذه الأمور.”
وعادت الشكوك القديمة التي راودتني مؤخرًا تتسلل إلى رأسي من جديد. و ظلّت الكلمات والتصرفات اللطيفة التي كان إيدن يفعلها معي تتكرر في ذهني باستمرار.
كنت أشعر أنني سأتصرف معه بشكلٍ غريب مرة أخرى اليوم، فحدقت في ليج بعينين نصف مغمضتين مهددةً إياها.
“ليج، يكفي. غالمزاح له حدود.”
فأخرجت ليج شفتها بتذمر وتمتمت.
“آسفة……”
“آه، لا بأس. تسريحتي جميلة. لقد أعجبتني.”
ابتسمت ليج بسرعة وأحضرت الإكسسوارات.
نظراً لطبيعة المناسبة، استبعدنا كل ما هو مبهرج، واكتفيت بارتداء أقراطٍ وقلادة بسيطة من اللؤلؤ. وقد تناسقت بشكل جميل مع فستاني البنفسجي الفاتح والبسيط الذي كنت أرتديه مسبقًا.
“تبدين رائعةً حقًا.”
ابتسمتُ عندما رأيت انعكاسي في المرآة، لكنني زفرت بعمق حين سمعت تعليق ليج التالي.
“لو تجدين فقط شريكًا مناسبًا، لكان الأمر أفضل.”
“ليج…!”
***
بدأ قصر الدوق هايفن يلوح من خلف النافذة، وما هي إلا لحظاتٌ حتى توقفت العربة بهدوء. ثم فُتح باب العربة، وظهرت خصلات شعرٍ فضية تتلألأ تحت ضوء الشمس وتتطاير مع الريح.
وتحت خيوط الشعر التي تمايلت كزغبِ الهندباء، التقت عيناي بعينين بنفسجيتين ناعمتين.
“مرحبًا، إيرفين.”
“……مرحبًا.”
هل كان ذلك بسبب الحديث الذي دار بيني وبين ليج في القصر؟ لقد كان التحديق في عيني إيدن يبعث على الحرج.
تهربت من نظرته التي رافقتها ابتسامته النقية حين حيّاني، وحتى ردي عليه جاء مترددًا.
لكن إيدن مدّ يده بهدوء وكأن شيئًا لم يحدث.
“انزلي بحذر.”
“شكرًا……”
أمسكت بيده ونزلت من العربة، وإذا بصوتٍ مألوف يرحب بي.
“أهلًا بكِ، إيرفين.”
كان الدوق هايفن. وسرعان ما لحقت به الدوقة هايفن بصوتها الحنون.
“لقد مضى وقتٌ طويل، إيرفين. يبدو أن وجهكِ أصبح أكثر إشراقًا. هذا يجعلني أشعر ببعض الحزن……”
ارتسمت على وجهي ابتسامةٌ خفيفة. فلم تتغير طيبة هؤلاء الناس أبدًا.
ثم تخلّيت ببطء عن يد إيدن وتقدّمت ناحيتهم.
“هل كنتم بخير؟ كان عليّ أن أزوركم في وقتٍ أبكر، أعتذر حقًا.”
“لا تقولي ذلك، لا نريد أن نشعر بالحزن. نأمل أن تفكّري في هذا المكان كبيتكِ. إنه مكانٌ يمكنكِ المجيء إليه في أي وقتٍ وبأي طريقة.”
“شكرًا جزيلًا على كلامكم الطيب.”
وهكذا، وسط أجواءٍ دافئة ومليئةٍ بالمحبة، تابعت الحديث مع الدوق والدوقة وإيدن، ودخلنا جميعًا إلى داخل القصر.
وعندما وصلنا إلى غرفة الاستقبال، كان الشاي والحلويات مُعدّين مسبقًا. و ما إن جلست في مكاني المعتاد حتى بدأ الدوق والدوقة بالكلام وكأنهما كانا بانتظاري.
“أعددنا لكِ الشاي الذي تحبينه، إيرفين. تفضلي.”
“شكرًا لكَ، سموّ الدوق.”
رفعت فنجان الشاي بحذر، فانتشر عبيرٌ مألوف يحمل مرارةً خفيفة ونكهةً حلوة في آنٍ واحد.
“حسنًا، إيرفين. كيف تسير تحضيراتكِ للعمل؟”
“بخير. الأمور تتقدم أسرع مما توقعت، ولحسن الحظ تسير بسلاسة.”
“هذا رائع. إن احتجتِ لأي مساعدةٍ فلا تترددي، فقط قولي. فأنتِ لستِ غريبةً عنا، وسنمدّ لكِ يد العون في أي وقت.”
“هيهي……نعم، شكرًا لكم.”
أومأت برأسي ببطءٍ وقرّبت الفنجان من شفتي. و حتى بعد النفخ عليه، لم يخفف من حرارة الشاي التي لفحتني، لكنها لم تكن مزعجة.
“لم نكن نزعجك بدعوتنا اليوم رغم أنك مشغولة، صحيح؟”
“أبدًا. في الحقيقة، كان اليوم يوم راحةٍ بعد فترة طويلة. وسعدتُ كثيرًا برؤيتكما.”
“آه يا عزيزتي، ما زلتِ تتحدثين بلطفٍ شديد كما كنتِ دائمًا.”
قالت الدوقة ذلك وهي تربت على ظهر يدي بلطف. و ربما لأن اللقاء كان بعد غياب طويل، شعرت بقليلٍ من الغرابة.
ثم وضع الدوق فنجانه على الطبق بهدوء، وبدأ يتحدث بصوته العميق.
“بما أنكما لم تلتقيا منذ مدة، خذا وقتكما في الحديث. لنتعشَ معًا لاحقًا.”
“بالطبع! سموّك مشغول، لذا يمكنكَ العودة إلى أعمالكَ.”
ثم غادر الدوق والدوقة غرفة الاستقبال بهدوء.
“إيرفين، ما رأيكِ بأن نخرج أيضًا؟ لمَ لا نتمشّى معًا بعد كل هذا الوقت؟”
كنت أشعر بعدم الارتياح لكوننا بمفردنا، لذا كان هذا التوقيت مناسبًا. فوافقت فورًا على عرض إيدن. و خرجت معه من غرفة الاستقبال وبدأنا نتجول في الحديقة المألوفة.
“الطقس جميل. حين غادرتِ هذا القصر، كان الجو لا يزال باردًا. أشعر وكأن ذلك حدث البارحة، ومع ذلك مرّ كل هذا الوقت.”
قال إيدن ذلك بينما توقف تحت أشعة الشمس التي أصبحت دافئةً فجأة.
حقًا، أتذكّر كيف كانت الأغصان حينها عاريةً تمامًا، أما الآن فقد نبتت أوراقٌ خضراء جديدة. متى مرّ كل هذا الوقت؟
شعرت فجأةً بثقل الزمن وهو يمرّ.
‘……قريبًا ستظهر البطلة. يجب أن أحسب التواريخ بمجرد عودتي.’
رددت المهام التي عليّ القيام بها في رأسي مرارًا وتكرارًا. فلا يجب أن أنسى. إن أهملت ذلك، فقد أفسد كل ما خططت له.
ربما لأنه لاحظ أنني شاردة، لوّح إيدن بيده أمام وجهي.
“آه! أفزعتني.”
“بما كنتِ تفكرين؟ لا تقولي أنكِ تفكرين في العمل حتى هنا؟”
“بالطبع لا. لا تقل شيئًا مرعبًا كهذا.”
ضحك إيدن ضحكةً خفيفة على كلامي. ولحسن الحظ، لم أشعر بالتوتر كما في المرة السابقة. و لم يكن هناك أي تصنعٍ أو حرج.
ثم مددت ذراعي إلى الخلف وتثاءبت قليلاً.
“هل أنتِ متعبة؟”
“مم، قليلًا؟”
“حقًا؟ هل تريدين الدخول؟ غرفتكِ القديمة ما زالت كما هي، يمكنكِ أن ترتاحي هناك.”
“آه……لكن مع ذلك……”
شعرت أن عليّ تبادل بضع كلماتٍ إضافية مع إيدن. حتى لا يطلب مني في المرة القادمة زيارة القصر مجددًا.
و ربما لأنه كان يلاحقني بإصرار في كل مرة نلتقي، باتت مقابلاتي معه وكأنها واجبٌ ثقيل.
“يمكننا التحدث أثناء العشاء. من الأفضل أن ترتاحي الآن.”
“حسنًا، سأفعل. شكرًا لك.”
“لا داعي للشكر. من الجيد أن تتمكني من الراحة في أي مكان. سأوصلكِ.”
“لا داعي لذلك……”
لكن إيدن أصر على مرافقتي حتى باب الغرفة، ولم يغادر إلا بعد أن تأكد أنني وصلت.
ثم أغلقت الباب بإحكام وأسندت ظهري إليه.
“هاه……”
نظرت من حولي. و كل الأثاث وأغطية السرير كانت كما تركتها.
كانت هذه الغرفة التي استخدمتها لعشر سنوات، ومع ذلك بدت غريبةً عليّ فجأة. هل أصبحت معتادةً أكثر على قصر كوينياردل؟
اقتربت من السرير وجلست عليه، ثم تمددت بلا قوة. فمنذ قليل، كنت أشعر بأن طاقتي تتلاشى وجفوني تثقل شيئًا فشيئًا.
‘يبدو أنني تعبت من ركوب العربات بشكلٍ متكرر مؤخرًا.’
أغمضت عيني بهدوء، وسرعان ما غلبني النعاس دون أن أشعر. وبعد مرور وقت طويل، سمعت صوت إيدن يوقظني، ففتحت عيني.
و كانت الشمس قد غربت بالفعل حين استيقظت من النوم.
“إيرفين، إيرفين.”
“هممم……ماذا……”
سمعت ضحكةً خفيفة وسط نعاسي. ثم تبعت ذلك كلمات إيدن.
“هل ستستمرين في النوم؟ لقد حان وقت العشاء تقريبًا.”
كنت أستمع لصوته بهدوءٍ وأنا في حالةٍ الضبابية. و كان صوته اللطيف يبدو وكأنه تهويدة.
كنت أعلم أن عليّ النهوض، لكن جسدي كان ثقيلاً ولا يستجيب.
“إذا لم تستيقظي، هل أحملكِ بنفسي؟”
لكن صوته الممتلئ بالضحك جعل عيني تفتح فجأة.
‘ما هذا الكلام السخيف؟’
وفي النهاية، نهضت فجأة وربّتُّ على كتف إيدن. و حين رأيت ضحكته الطفولية كما في الماضي، شعرت بالإحراج من كل الحذر الذي كنت أكنّه تجاهه.
وبفعل تلك الألفة، وجدت نفسي أبتسم لا إراديًا.
***
عندما خرجت من قصر هايفن، كان القمر قد اكتمل في السماء.
بعد أن قضيت وقتًا طويلاً في الحديث مع إيدن والدوق والدوقة، بدأ التعب يغمرني.
فأسندت جسدي المرهق على مقعد العربة، وكأنني صرت جزءًا منها. بينما اهتزت العربة بعنف، وشعرت بالاهتزازات تنتقل إلى كل أنحاء جسدي.
“آااه، رأسي يؤلمني……”
وسط تلك الحالة شبه الغائبة، وصلت العربة إلى قصر كوينياردل. وما إن فتح السائق الباب بحذر، حتى نزلت بسرعة واتجهت مباشرةً نحو غرفتي. و لم يكن في رأسي سوى فكرةٍ واحدة: يجب أن أستلقي على السرير فورًا.
أخيرًا وصلت إلى باب الغرفة، فأمسكت مقبض الباب بقوة وسحبته.
“هاه!”
و ما إن فتحت الباب حتى شهقت بقوة من شدة المفاجأة لرؤية شخصين أمامي.
“مرحبًا، أيتها الصغيرة.”
“هل عدتِ بأمان؟”
كانا ليو ودانتي واقفَين هناك.
لكن لماذا هذان الاثنان في غرفتي؟
“لكن، ما هذا الذي لوّثتِ به نفسكِ بهذا الشكل؟”
قال ليو ذلك وهو يعبس موجّهًا كلامه إليّ.
‘لوّثت نفسي؟’
ما الذي يقوله……؟
_________________
يسسس اكشفوا ايدين
دانتي تعودنا على مداهماته بس شجاب ليو😭
يضحكون ابي اعرف من زوجة ليو
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 44"