ساد السكون في صالة الاستقبال بقصر كوينيارديل. فالخادمة التي كانت تقدم الشاي، والخادم الذي كان يرحّب بالضيوف ويحرس الباب، جميعهم كانوا مشغولين بالتحديق في شخصٍ واحد.
تنهدت بصمتٍ حتى لا يشعر بي أحد، ثم ابتسمت بهدوءٍ وأنا أنظر إلى من تتركز عليه الأنظار في الجهة المقابلة.
“صاحب السمو، ما الذي جاء بكَ إلى قصر الكونت؟”
عندما سمع صوتي، التفت كاين بسرعةٍ بعدما كان يدير رأسه متفحصًا صالة الاستقبال بفضولٍ مبالغ فيه، ليقابل نظري.
ابتسم كالهلال بعينين منحنيتين ووجهٍ باسم، ثم فتح فمه،
“مر وقتٌ طولي، آه، لا، ليس وقتاً طولاً تمامًا؟ على كل حال، سمعت أنكِ تعتزمين استئناف أعمال الكونت السابق.”
“آه، نعم. صحيح.”
“لذا جئتُ للتحقق من ترخيص العمل. وسمعت أنكِ ذاهبةٌ اليوم لتفقُّد المتجر؟ إن لم يكن لديك مانع، هل يمكنني مرافقتكِ؟”
سألني كاين بابتسامته الدائمة. و رغم أنني قدمت طلب الترخيص بالأمس فقط، ها هو قد أتى بالفعل للتحقق.
تساءلت إن كان ذلك مجرد عذرٍ لمغادرة القصر، لكن عينيه الزرقاوين الهادئتين لم توحيا بالكذب.
‘هل يُعقل أن أذهب مع كاين وحدي؟’
لكن في الحقيقة لسنا وحدنا، بل نحن أربعة. فدانتي وكايدن بانتظاري في الغرفة العلوية.
‘لا أريد أن أجعله يلتقي بالاثنين……’
لو التقوا، فسيكونون مشغولين في التهجم على بعضهم كما لو كانوا أعداء لدودين. وسأكون أنا في المنتصف، أستنفذ كل طاقتي في محاولة تهدئتهم.
ولم أكن أرغب بذلك أبدًا.
“لأن المكان لا يزال فارغًا تمامًا، ألا تشعر أن مرافقتكَ قد تكون غير مريحةٍ بعض الشيء يا صاحب السمو؟ أظن أنه من الأفضل أن تأتِ بعد أن يتم ترتيب الأمور قليلًا……”
“لا بأس، لقد زرت أماكن أسوأ من هذا بكثير.”
“المكان سيكون فيه عددٌ لا بأس به من الناس، وقد يصبح صاخبًا بعض الشيء.”
“بل هذا أفضل. فقد كثرت الشكاوى عن ولي العهد الذي لا يُظهر وجهه للناس أبدًا. ستكون فرصةً جيدة.”
بينما كنت أنظر إلى كاين الذي رفع زوايا فمه بابتسامةٍ سلسة، بدأت راحتا يدي تتعرقان.
‘ما العمل الآن؟ هل أطلب من دانتي أن يغادر؟ وإن طلبت منه ذلك، هل سيغادر بهدوء؟’
لكني لا أستطيع طرد ولي العهد الذي زار القصر بنفسه. ومن المؤكد أنه لم يأتِ وحده.
وبينما كنت أفكر في طريقةٍ للخروج من هذا المأزق، بدأت أعضّ شفتي. عندها نظر إليّ كاين بهدوء،
“هل هناك سببٌ يمنعني من الذهاب معكِ؟”
تنفّست بعمق وأجبت بسرعة،
“لا طبعًا؟! بل على العكس، إن ذهبت مع صاحب السمو فسأشعر بالكثير من الطمأنينة والراحة!”
“إذًا، سأنتظر هنا. جهزي نفسكِ وتعالي.”
بينما كنت أنظر إلى كاين الذي ابتسم لي بابتسامته المنعشة، فكرت.
‘آه، لقد وقعت في ورطة. ما الدي سأقوله لدانتي الآن؟’
***
“لا، أرفض.”
وكما توقعت، دوّى صوت دانتي الخالي من أي نبرةٍ في الغرفة.
كنت قد صعدت إلى الطابق العلوي بعدما أخبرت كاين أنني سأجهز نفسي، ثم شرحت الوضع لدانتي وكايدن.
قلت لهما أن كاين قد جاء، وأنه من الأفضل أن يبقيا في القصر الآن، ثم يأتيا لاحقًا بعد عودة كاين إلى القصر الملكي.
ظننت أن هذا هو الحل الأفضل، لكن دانتي رفض على الفور.
“سيدي الساحر، أرجوكَ لا تفعل ذلك-”
“قلت أنني أرفض.”
قاطعني ورد بصرامة لا مجال للجدال فيها.
“لا، فقط ابقَ هنا لترتاح قليلاً، ثم تعال بعد أن يغادر صاحب السمو كاين، هذا كل ما في الأمر!”
“لماذا؟”
“ماذا؟”
“لماذا علي أن أفعل ذلك؟”
عناده المتواصل بدأ يثير غيظي.
“لأن العلاقة بين البرج الملكي والعائلة المالكة ليست جيدة، كما تعلم. تتظاهران بأن كل شيءٍ على ما يرام، لكن بمجرد أن تلتقيا تبدآن الشجار! هل تعرف كم يكون الوضع محرجًا وصعبًا بالنسبة لي وأنا بينكما؟”
ومع استمرار حديثي، بدأ الغضب يتصاعد بداخلي.
‘لا أحد منهم يفكر فيما أشعر به!’
ما الذي يمكنني فعله بين ولي العهد وسيد السحرة الأعظم!
عضضت شفتي ونظرت إلى دانتي بنظرةٍ حادة، لكنه قابل نظري بنظرةٍ مباشرة دون أن يحيد.
قبل أن ينطق دانتي بأي كلمة، بادر كايدن بالتدخل أولًا.
“سيدة إيرفين، أرجو أن تستمعي إليّ. نحن أيضًا مظلومين، صدقيني.”
“مظلومين؟”
“نعم. نحن، أنا والسيد دانتي، من وصل إلى القصر أولًا. وقد استقبلتنا السيدة إيرفين بحرارة وتبادلنا التحية بود، أليس كذلك؟ لكن ذلك المدعو ولي العهد……!”
رفع كايدن صوته دون قصد وبدأ يطلق شتائم في حق كاين.
لكن يبدو أن تذمّري السابق بشأن كرهِي لمشاهد الشجار بينهم لا زال في بال دانتي، إذ رمق كايدن بنظرةٍ حادة ووكزه بكوعه ليوقفه.
عندها شهق كايدن وأسرع بتغطية فمه بكفه الكبير، ثم أخذ يراقب الأجواء حوله ويتنحنح مرتين قبل أن يواصل حديثه بتوتر.
“و……ولي العهد، صاحب السمو……أتى بعدنا بوقتٍ طويل، أليس كذلك؟”
كان من الواضح كم يكره مجرد نطق كلمة “صاحب السمو ولي العهد”، إذ كان يعضّ شفتيه ويزفر بين كل جملةٍ وأخرى.
أرأيتم؟ هكذا يتصرف الآن، فكيف سيكون الوضع إن ذهبنا معًا؟
حتى مجرد التفكير في الأمر يجعل رأسي يؤلمني.
كلامه لم يخلُ من منطق، لكنني كنت مجرد مواطنةٍ عادية تهاب السلطة وتحب السلام. لذا بدأت أتحدث في محاولة يائسة لإقناعهما.
“لهذا السبب بالضبط أطلب منكما أن تأتيا لاحقًا.”
“تقولين لاحقًا؟ أنا حقًا لا أفهم هذا! من الطبيعي أن تكون الأولوية لنا!”
صرخ كايدن بصوت عالٍ وقد بلغ به الانفعال أقصاه.
لماذا هذان الاثنان عنيدان بهذا الشكل؟
“ما أقصده هو……أن لقائي بصاحب السمو لن يستغرق أكثر من ساعتين. بعد ذلك، إن جئتما، فستتمكنان من البقاء لوقتٍ أطول، أليس كذلك؟”
“همم……”
“لكن إن أتيتما أولًا، فسيتعين عليكما المغادرة مبكرًا لتفسحا المجال لصاحب السمو حين يأتي. لهذا من الأفضل أن تأتيا لاحقًا، أليس كذلك؟”
عند كلامي هذا، مال كايدن برأسه وهو يتمتم: “هل هذا صحيح؟” و بدا وكأنه على وشك الاقتناع.
كنت على وشك أن أضيف الحجة الأخيرة لأقنعه تمامًا، لكن دانتي سبقني بالكلام.
“لا حاجة لذلك.”
“عذرًا؟”
قال دانتي ذلك ببطء وهو يكتف ذراعيه وينظر نحونا بوجه غير راضٍ، ثم تابع،
“سأذهب معه.”
“……مع من وإلى أين؟”
“مع صاحب السمو ولي العهد، إلى المتجر.”
هل فقد صوابه؟!
“ماذا؟! لا، أعني، عفوًا؟!”
ارتبكت تمامًا حتى تعثرت كلماتي ولم أستطع التحدث بشكل صحيح. فنظر إليّ دانتي من الأعلا و ردّ بنبرة هادئة كأن شيئًا لم يكن.
“لا تقلقي.”
ثم أضاف، وعلى وجهه تعبيرٌ يوحي بالثقة والانتصار بشكل غريب،
“سأكون هادئًا، ولن أتشاجر.”
وقفت في مكاني مذهولةً دون أن أنطق بكلمة، فكرر دانتي قوله،
“……حقًا.”
أغمضت عيني ببطء، وزفرة خفيفة خرجت من بين شفتيّ. و كنت أعلم أن التفكير أكثر من هذا لن يجلب سوى الصداع.
آه، لا يهم، ليكن ما يكون.
فتحت عيني مجددًا ونظرت إلى دانتي بابتسامةٍ مجهدة،
“وعد؟”
فابتسم دانتي ابتسامةً خفيفة لا تكاد تُرى وأجاب،
“نعم، أعدكِ.”
***
وهكذا، ذهبتُ أنا ودانتي، وكاين، وكايدن معًا إلى منطقة المتاجر.
كان كاين يتفقد المكان ضمن إجراءات التحقيق المرتبطة بترخيص العمل، أما كايدن فكان يتجول في المكان متذرعًا بأنه يساعدني، ويقوم بفحص الأجزاء التي تحتاج إلى إصلاح.
“كايدن، أظن أن هذا الجزء يحتاج إلى تدعيم، ما رأيكَ؟”
“أوه، بالفعل يبدو ضعيفًا بعض الشيء. لم أتوقع أنكَ ستكون دقيق الملاحظة إلى هذا الحد!”
لحسن الحظ، بدا أن كاين وكايدن ينسجمان بشكل أفضل مما كنت أخشى.
‘لحسن الحظ…..أليس كذلك؟’
تركت الاثنين خلفي وهما لا يزالان منشغلين بتفحص واجهة المبنى، ودخلت إلى داخل المتجر.
ما جذب انتباهي فور الدخول كان خزانة الحائط المنهارة. فعضضت شفتي حين رأيت الحطام والغبار يغطيان الأرض.
‘سيستغرق تنظيف هذا وقتًا طويلًا أيضًا.’
كنت أنوي تقليل تكاليف العمالة لأقصى حدٍ ممكن، لذا قررت أن أقوم بكل ما أستطيع بنفسي.
كنت أفكر بتنظيم المكان من الداخل ولو بشكل بسيط، لكن رؤيته الآن جعلتني أشعر بالضيق من جديد.
لو لم أقم بطرد ليو بذلك الشكل، لكانت الأمور أسهل قليلًا.
‘هذا ما يحدث عندما تزعج الآخرين بلا سبب…..’
اقتربت ببطء من الخزانة المنهارة. فانحنيت لالتقاط قطع الخشب المتناثرة، ثم وقفت بصعوبة.
‘آه، ظهري..…’
وضعت الحطام فوق طاولة المحاسبة. وفجأة، لمحت أن باب المخزن كان مفتوحًا.
‘هل تركته مفتوحًا في المرة الماضية؟’
سرت بخطى حذرة نحو المخزن. ومن خلال الباب المفتوح جزئيًا، لاحظت ظل شخصٍ يتحرك بالداخل.
دفعت الباب فجأة، فرأيت شكلًا مألوفًا.
“الساحر دانتي؟ ماذا تفعل هنا؟”
استدار دانتي عندما سمع صوتي. فاتسعت عيناه للحظة وكأنه تفاجأ من ظهوري المفاجئ، لكنه سرعان ما استعاد ملامحه الخالية من التعابير وأجاب بهدوء،
“كنت فقط أتفقد المكان قليلًا.”
ثم أعاد نظره إلى جهاز تحضير الجرعات.
اقتربت منه ووقفت إلى جانبه. و نظرت إليه بطرف عيني، كان يبدو في غاية الجدية.
‘هل يمكنه أن يعرف شيئًا بمجرد النظر إلى الجهاز؟’
حدقت أنا أيضًا بالجهاز بصمت، لكن الشيء الوحيد الذي استطعت ملاحظته هو طبقة الغبار الكثيفة المتراكمة عليه.
‘هل أنقله مؤقتًا إلى القصر أثناء أعمال الترميم؟ ربما يمكنني تشغيله للتجربة خلال تلك الفترة…..’
وبينما كنت سارحة في هذه الأفكار التافهة، دوّى فجأة صوت ارتطام هائل.
دووووم-!
“مـ…..ما الذي حدث؟!”
أسرعت بالخروج من المخزن، فوجدت كاين وكايدن يقفان هناك.
“سيدة إيرفين.….”
“الكونتيسة كينيارديل..…”
كان الاثنان ينظران إليّ بذهول لا يستطيعان إخفاءه. ولم أحتج سوى لحظةً قصيرة لأفهم سبب ارتباكهما.
“ما الذي…..حدث بحق..…؟”
باب المتجر، الذي كان سليمًا تمامًا قبل لحظات، كان الآن ملقى على الأرض مهشمًا.
__________________
لاعاد يجتمعون😭😭😭😭😭
كايدن معليه اصلا هو صحيّح بس كاين؟ ولي عهد وش قاعد تسوي😭
المهم دانتي يوم قال وعد حسبته بيسوي شي من تحت التريلات بس ورعي للحين هادي
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 40"