يبدو أن ليو قرر ألا يستفز دانتي أكثر، فرفع طرف شفتيه بابتسامةٍ ناعمة وغيّر الموضوع.
“على كل حال، ما سبب قدومكم إلى غرفتي؟”
لابد أنهم سيتوقفون عن تبادل التحدي الآن.
وقفت بجانب دانتي، ونظرت إليه بطرف عيني من الأسفل. و كان لا يزال متضايقًا، إذ علت وجهه ملامح استياء واضحة.
ثم نقر بلسانه بقوة و فتح فمه.
“أنت تملك أداةً يمكنها احتواء القوة السحرية، صحيح؟”
“همم، من يدري؟ أظنني صنعت شيئًا كهذا ذات مرة.”
“ابحث عنها. حالًا.”
“أوه، وكيف لي أن أجدها هنا؟ إنها صغيرةٌ جدًا!”
تذمّر ليو قليلًا، ثم سرعان ما مد شفتيه بابتسامةٍ ماكرة.
“لا، في الحقيقة أظن أنني سأجدها بسرعة.”
“جيد. إذًا-“
“لكن دون مقابل؟ إن وجدتُ ما تريد، فعليكَ يا دانتي أن تحقق لي أمنيةً واحدة بالمقابل. أليس هذا عدلًا؟”
ارتعش حاجبا دانتي قليلًا، وكأنه غير مرتاحٍ لهذا الشرط. فنظر ليو إلى دانتي، مبتسمًا بعينين نصف مغمضتين وكأن شيئًا ما يعجبه كثيرًا.
وعندما رأيت نظرات دانتي تفقد تركيزها من جديد، سارعت بالكلام.
“أ-أنا سأحقق لك تلك الأمنية. في النهاية، أنا من يحتاج ذلك…..”
لكن ما إن أنهيت كلامي، حتى شعرت بالندم فورًا تحت وابلٍ من النظرات. فحتى كايدن، الذي كان يختبئ في الزاوية، أطل برأسه ناظرًا إليّ.
“وكيف تعرفين ما أمنيتي؟”
على عكس صوته المرح والمازح حين كان يتحدث مع دانتي، جاء صوت ليو هذه المرة باردًا وحادًا جعل القشعريرة تسري في جسدي.
لكنني تظاهرت بالتماسك، ونظرت إليه بثبات.
“طالما أنني قادرة على تحقيقها…..يمكنني فعل أي شيء.”
تفحّصني ليو من رأسي حتى قدميّ بنظرةٍ مليئة بالفضول.
“أي شيء؟ يبدو أن الأمور ستصبح ممتعة.”
تمتم بكلماتٍ غامضة وهو يرسم ابتسامةً راضية على وجهه. ثم أطلق زفيرًا قصيرًا، وصفّق بيديه بقوة، فبدأت كل الأشياء في الغرفة بالاهتزاز بعنف.
الأدوات السحرية الملقاة على الأرض أخذت ترتج وكأن زلزالًا ضرب المكان، وبينها قفزت فجأةً كرةٌ بلورية بحجم قبضة اليد.
لوّح ليو بأصابعه، فطارت أكوام الكتب والأدوات السحرية التي كانت تسد طريقه إلى الجانبين. و تكوّن ممرٌ ضيق يمكن لشخصٍ واحد المرور فيه، وعلى جانبيه ارتفعت الفوضى من جديد على هيئة أبراجٍ عشوائية.
ثم تقدّم ليو بهدوء نحو الكرة البلورية التي كانت تطفو في الهواء. و في تلك اللحظة، أدركت سبب الفوضى التي تعم الغرفة.
‘إن كان سيصل إليها بهذه السهولة، ألم يكن من الأفضل أن يرتب الغرفة بالسحر أولًا؟’
في هذه الأثناء، وقف ليو أمام الكرة ومدّ يده نحوها، فسقطت الكرة الشفافة بخفة على راحة يده.
أمسك بها برفق وراح يديرها بين كفيه، ثم رفعها باتجاه دانتي وهو يبتسم ابتسامةً خفيفة.
“يا للأسف، وجدتها بسهولةٍ شديدة.”
مرة أخرى، وكأنه لا يستطيع العيش دون السخرية من دانتي.
لكن دانتي اقترب منه ببرود وخطف الكرة من يده دون أي تردد. ولم يُبدِ ليو أي مقاومة، بل سلّمها بسهولة. ثم حوّل نظره المبتسم نحوي.
وحين رأيت بريق عينيه، شعرت بعدم ارتياحٍ غريب.
“ولماذا تحتاجين إلى هذا الشيء؟”
وقبل أن أتمكن من الرد، سأل مجددًا،
“طاقتكِ السحرية غير مستقرة وخطيرة، لكنها في نفس الوقت لا نهائية. هذا مقلق. إن تصرفتِ برعونة، فقد تتسببين بكارثة.”
اقترب مني وهو يبتسم بمكر، وكلماته التي تحفر في الأعصاب فجّرت بداخلي انزعاجًا مفاجئًا.
“لن يحدث شيءٌ من هذا.”
“وكيف تضمنين ذلك؟ هل ترين المستقبل؟ أم هل عدتِ من المستقبل؟”
مع كل كلمة يقولها، بدأت أفهم لماذا كان دانتي يغضب منه. فمن يستطيع أن يحتمل شخصًا يتصيّد كل كلمة بهذا الشكل المزعج؟
لكنني، على عكس دانتي، لست قويةً بما يكفي، لذا لم أملك سوى أن أبقى صامتة. فما الفائدة من التجرؤ على سيد برج السحر؟
أجبرت شفتي على الابتسام وتحدثت إليه،
“سأصنع دواءً.”
أطلق ليو صوتًا قصيرًا من أنفه، وضاقت عينيه وهو ينظر إليّ من الأعلا. لكنني لم أتجنب نظرته، وواصلت الحديث.
“سأصنع جرعةً سحرية يستطيع حتى عامة الناس شراءها بسهولة.”
ابتسم ليو بسخرية، وكأنه يستهزئ بخطتي، ورفع طرف شفتيه باستخفاف.
“لماذا؟ هل مات طفلٌ في الخامسة بسبب نزلة برد مثلًا؟”
ما هذا، كأنني سمعت هذه القصة من قبل.
هل يحب القصص الحزينة؟ هل يفترض بي أن أؤلف واحدةً الآن؟
أخذت نفسًا عميقًا، وزفرته ببطء، ثم تحدثت ببساطة،
“أنا فقط بحاجة إلى بعض المال.”
قررت أن أقول الحقيقة.
“سأعيد إحياء العمل الذي كرّس والدي له سنواتٍ من عمره.”
نظرت إليه بطرف عيني، فوجدته يحدّق بي بوجه خالٍ تمامًا من التعابير.
شعرت أن كلامي لم يكن كافيًا، فتابعت الشرح،
“والدي أحبّ سكان إقليمنا بصدق. كانوا فقراء لدرجة أنهم لا يستطيعون شراء حتى أبسط الأدوية، لذا طوّر علاجًا سحريًا منخفض التكلفة من أجلهم. ونجح أكثر مما توقعنا. انتشرت سمعته في جميع الأنحاء وأصبح مشهورًا. لكن بعد وفاته…..جاء عمي واستولى على كل شيء…”
وأثناء حديثي، غمرني شعورٌ بالغيظ، فصررت على أسناني بقوة.
‘صحيح. لو لم يكن ذلك الوغد جوزيف، لما كنت مضطرةً للقلق بهذا الشكل!’
“الفروع الموجودة في المملكة بدأت تُغلق واحدةً تلو الأخرى. أما الصيدليات الأخرى، فاستغلت الفرصة ورفعت الأسعار أكثر. الآن، طفلٌ صغير في الخامسة من عمره، إن أصيب بالحمى، سيصارع بين الحياة والموت من جديد.”
توقفت عن الكلام للحظة. كان الأمر وكأن شيئًا ثقيلًا يضغط على صدري. وبصعوبة، فتحت شفتيّ، فخرج نَفَسٌ محبوس بخفة، ثم استطعت المتابعة،
“ذلك أمرٌ فظيع فعلًا. أن يلهث أحدهم وكأنه سيموت في أية لحظة، وأن يضطر من حوله إلى مشاهدته كذلك…..وإن لم يكن هناك أحد ليراه، فذلك أسوأ بعد.”
انخفض رأسي من تلقاء نفسه، وارتجفت شفتاي.
كيف نسيت كل هذا؟ هل تهاونت فقط لأنني وجدت لنفسي فتحةً بسيطة أتنفس منها؟
“هل يمكنني…..إعادة الإجابة؟”
“تفضلي.”
وجّهت كلامي إلى ليو مجددًا. فقبضت يدي بإحكام كي أخفي ارتجافها.
“أريد أن أصنع جرعاتٍ سحرية يستطيع أي شخص الحصول عليها بسهولة. إذا كانت الجرعة قادرة على شفاء المرض، فعلى الشخص أن ينهض ويقاوم. من يستطيع أن يعيش، يجب أن يعيش.”
أخرجت نفسًا عميقًا. و شعرت بالراحة بعدما أفرغت كل ما كان يثقل صدري.
ثم نظرت حولي، لكن لم ينبس أحد في الغرفة بكلمة واحدة. فرفعت طرف شفتي بابتسامةٍ خفيفة ومتوترة.
“نعم…..هذا كل ما لدي.”
كان ليو يحدق بي من الأعلا، وذقنه مرفوع، وذراعاه متشابكتان، ثم تكلم فجأة.
“ما اسمكِ؟”
عندما سأل ذلك وهو يقطب جبينه، شعرت بأن قلبي سقط في الحضيض.
هل هو غاضب؟ لا، لم أقل شيئًا يستحق الغضب…..فلماذا يبدو هكذا؟
وفي لحظة ترددي، بدا أن دانتي على وشك أن ينفجر في وجهه، فسارعت بالإجابة،
“إيرفين. إيرفين كوينيارديل.”
“كوينيارديل، إذاً،،…”
رفع ليو حاجبيه حين سمع اسمي، ثم بدأ يضحك بخفّة وحده.
“أنت ووالدكِ…..متشابهان تمامًا. فعلاً، كوينيارديل المزعجون.”
تمتم بذلك لنفسه.
‘ما الذي قاله للتو…؟’
فتحت عيني على اتساعهما وحدّقت به. وعندما لاحظ ارتباكي، حرّك شفتيه بخمول وهمس بصوت خافت،
“ما الأمر؟”
صدمتني المفاجأة، وظللت أفتح فمي وأغلقه مرارًا حتى تمكنت أخيرًا من إخراج الكلمات،
“…..الكونت، أعني…..هل كنت تعرف والدي؟”
تقدم ليو نحوي بخطواتٍ واسعة، ثم انحنى ناحيتي وهو لا يزال يضع يديه في جيبه، متباهياً كعادته. فتراجعت خطوةً للخلف لا إراديًا من قربه المفاجئ.
“طبعًا أعرفه.”
رأيت انعكاسي في عينيه السوداوين الداكنتين.
“هل تعلمين ما الذي اضطررتُ لفعله بسببه؟”
تساءلت في نفسي وأنا أحدق بعينيه المنحنيتين بخبث. و لم أفهم أبدًا ما الذي يقصده.
“ما الأمر؟ أنتِ حقًا لا تعرفين، أم أنكِ تتظاهرين بأنكِ لا تفهمين؟”
وعندما هززت رأسي نفيًا أمام نظراته الحادة، تنهد ليو بعمق ثم تحدث،
“حسنًا، سأُخبركِ. تعالي معي.”
قال ذلك ثم أمسك بيدي فجأة. وفي غمضة عين، تغيّر المشهد من حولي.
***
“هذا المكان…..”
نظرت حولي. بدا وكأنه متجرٌ خشبي قديم.
شبكات عنكبوت متفرقة، وغبارْ متراكم بسمكٍ واضح، وكل شيء فيه يوحي بأن أحدًا لم يدخله منذ زمن طويل.
لم يكن المتجر واسعًا. بالكاد يتّسع لخمسة أشخاص. و كان فيه منضدةٌ واحدة، وخزانة كبيرة تملأ الجدار، وفي إحدى الزوايا كان هناك بابٌ صغير يؤدي إلى مكان ما.
“تعرفينه، أليس كذلك؟”
سألني ليو بينما كنت أنظر إلى المكان بفم مفتوح. لكنني هززت رأسي. فلم يكن المكان مألوفًا لي على الإطلاق.
“ماذا؟ وتقولين أنكِ ستُكملين عمل عائلتكِ بينما لم تزوري هذا المكان قط؟ يا لكِ من مثيرةٍ للشفقة.”
“لم أكن أعرف بوجوده إطلاقًا…..”
تحدثت إليه بعد أن تنهد ونقر بأسنانه متضايقًا.
“لكن، لماذا جئتَ بي إلى هنا؟”
“لدي شيء أريده أن أريكِ إياه.”
“وما هو ذلك…..؟”
لم يُعر ليو كلامي أدنى اهتمام وفتح باباً جانبياً في أحد الزوايا. و كان خلفه مخزناً. تتناثر فيه زجاجات دواء مغطاة بالغبار.
“دعيني أرى…..أظن أنني تركته هنا في مكانٍ ما.”
صرخ ليو بصوتٍ مبتهج وهو يفتّش المكان بعشوائية.
“وجدته!”
بعد أن أزاح الأشياء المكدسة، ظهر شيءٌ كبير تحتها. كان شبيهاً بالأداة التي رأيتها في غرفة دانتي. كانت أداةً تُستخدم لاستخلاص سائل مركز من عدة مواد.
“ما هذا؟”
“جهازٌ يمكنه صنع كميات كبيرة من الجرع السحرية؟”
“ماذا؟ ولماذا يوجد شيءٌ كهذا هنا…..؟”
نظر إليّ ليو بتكاسل وقال ببرود،
“والدكِ ألحَّ عليّ كي أصنعه.”
مسحت الغبار المتراكم عن الجهاز بيدي.
و صوت ملمس الخشونة على أطراف أصابعي لم يكن مزعجاً. بل، جعل قلبي يخفق.
____________________
طلع ابو ايرفين نفسها راح لذاه 😂
بس خير ابي قصة دانتييييي
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 37"