في مثل هذه اللحظات، ما الذي يفترض أن يُقال؟
فكرت طويلًا، لكن لم يخطر ببالي أي كلام. ومع ذلك، لم أتمكن من صرف نظري عنه أيضًا.
بقينا نتبادل النظرات بصمتٍ لفترة بدت طويلة، حتى نطقنا في الوقت نفسه، دون اتفاق،
“أنا….”
“أنا كنت….”
تفاجأت من تداخل صوتينا، فارتعش جسدي قليلًا.
“آه، عذرًا. تفضل، قل ما كنت ستقوله أولًا.”
“لا، تفضلي أنتِ أولًا.”
“لكن…..أنتَ، سيدي الساحر، الأفضل أن تبدأ أنتَ…..”
“لا، أنتِ أولًا.”
“آه…..”
أدركت أننا لن نصل إلى نهاية بهذه الطريقة، لذا بادرت بالكلام أولًا في النهاية.
“لم أكن أتصور أبدًا أنكَ كنت تفكر بهذه الطريقة.”
هذا كل ما تمكنت من قوله بعد أن أجهدت نفسي لاختيار الكلمات.
كلماتٌ بلا تأثير، بلا أسلوب، لكنها كانت في حدود قدرتي.
لم أكن أعلم أنني سيئة التعبير إلى هذه الدرجة.
سعلت بخفةٍ بلا سبب واضح وأنا أراقب رد فعل دانتي.
فغمز بعينيه قليلًا،
“وأنا كذلك.”
تملكني الذهول وحدّقت فيه بشرود. بينما أطلق دانتي زفرةً خفيفة وارتسمت ابتسامةً خفيفة على شفتيه.
ما زلت غير معتادةٍ على تعابير وجهه التي أصبحت تتغير كثيرًا مؤخرًا.
“لم أكن أظن أنني سأفكر بهذه الطريقة أيضًا، ولهذا ذهبت إليه، لأفهم لماذا شعرت بذلك.”
قال دانتي ذلك ثم أسند جسده إلى ظهر المقعد وأدار رأسه ببطء نحو النافذة.
حين ابتعدت عيناه اللتان كانتا تحدقان بي طوال الوقت إلى مشهد آخر، شعرت بالغرابة. ورغم ذلك، انحلّ التوتر في جسدي وانساب نفسي باسترخاء.
“…..وهل عرفتَ السبب؟”
لا أعلم حتى لماذا تفوّهت بتلك الكلمات.
ما الذي كنت أريد معرفته حقًا؟ أم…..ربما كنت فقط أشعر بالأسى لأن نظره ابتعد عني؟
عاد دانتي يرمقني بنظراته. و كانت عيناه توحيان بأنه يحاول فهم ما الذي أريد سؤاله بالضبط.
لكن حين التقت عيني بعينيه، ارتبكتُ وندمت على فتحي للموضوع.
“لا، فقط…..كنت أتساءل إن كنت قد اكتشفت السبب.”
تمتمت بتردد وأنا أحكّ رأسي بحرج.
حقًا، لماذا فتحت الموضوع بغباء هكذا؟
تحركت شفتا دانتي ببطء وهو يحدق بي دون أي رد فعل يُذكر.
“لا، لم أجد الإجابة.”
شعرت بأن القوة قد انسحبت من جسدي تمامًا إثر رده.
كأن جوابًا قد أفرغ التوتر الشديد الذي اعتراني من معناه. ورغم ذلك، وجدت نفسي أبتسم، إذ شعرت أن هذا الجواب يُشبهه كثيرًا.
“لذا سأحاول أن أكتشف ذلك.”
“تكتشف ماذا؟”
سألته وقد نظرت إليه عند كلماته المفاجئة.
ثم أمال جسده إلى الأمام بعدما كان مستندًا إلى الخلف، فانكشف وجهه الذي كان يختبئ في الظل.
“ما هذه المشاعر.”
ثم ارتسمت ابتسامةٌ بطيئة على شفتيه.
كانت عينيه تلألأتا ببريق لامع، كأنما وجد أمامه موضوعًا بحثيًا شيقًا.
“أنا من النوع الذي لا يستطيع احتمال الجهل بما يثير فضوله.”
***
تحركت عجلات العربة ببطء حتى توقفت أمام قصر كوينيارديل.
منذ أن أنهى دانتي حديثه وحتى وصولنا إلى القصر، بقينا ننظر من النافذة بصمت، كأنما بيننا عهد ألا يتكلم أحد.
لم ينبس أحدنا بكلمة. و عندما وصلنا أخيرًا إلى القصر، كنت أنا من بادر بالكلام.
“كيف تنوي العودة إلى برج السحر؟”
طرحت السؤال من باب المجاملة، رغم علمي أنه قادر على الانتقال فورًا باستخدام السحر.
“لا داعي للقلق.”
وكما توقعت، كانت إجابته أنه سيعود مستخدمًا السحر بنفسه.
ثم أضاف على الفور،
“لا بد أنكِ مرهقةٌ من هذا اليوم، فاحصلي على قسط وافر من الراحة.”
أومأت برأسي مبتسمة.
“نعم، وأنت أيضًا، سيدي الساحر.”
عندما فُتح باب العربة، كان السائق قد اقترب بالفعل ومدّ يده إليّ.
“لقد وصلنا، سيدتي.”
سيدتي. كان لقبًا مختلفًا عما ناداني به في الصباح.
بضعة أحرفٍ فقط، لكنها حملت ثقلًا شديدًا جعل القشعريرة تسري في جسدي.
اجتهدت في إخفاء توتري بابتلاع ريقي بهدوء، ثم أمسكت بيده.
“هل كان الأمر مرهقًا؟”
“همم…..لا بأس.”
مع أنني في الحقيقة كنت أرغب في الاستلقاء فورًا من شدة التعب.
وفي اللحظة التي ابتسمت فيها بلطف، خطر دانتي في بالي فجأة. فنظرت خلفي داخل العربة سريعًا، لكنه كان قد اختفى بالفعل. ولحسن الحظ، لم يلحظ أحدٌ ذلك.
“سيدتي، هل تفضلين البدء بالحمام؟ لقد تم تحضير الماء مسبقًا.”
“نعم! نعم!”
سألني كبير الخدم الذي اقترب مني دون أن أشعر.
كيف عرف أنني كنت أرغب في الاستحمام فورًا!
هززت رأسي بعنف وأنا أجيبه، فابتسم لي ابتسامةً دافئة.
كان ماء الحمام الدافئ، الذي بدا وكأنه سيذيب جسدي بالكامل، رائعًا بحق. و شعرت أن التعب الذي تراكم منذ الصباح قد تلاشى تمامًا.
وبعدما انتهيت من الاستحمام، عدت إلى غرفتي أجرّ قدميّ المترنحتين من شدة الاسترخاء، ثم ارتميت على السرير.
‘آه، أشعر أنني عدت إلى الحياة…..’
لو أن للراحة مكانًا، فلا بد أن يكون فوق السرير!
ابتسمت من الفكرة الطريفة، ثم تسللت تحت الأغطية. وسرعان ما غفوت بعمق.
***
وبما أنني أصبحت كونتيسة رسميًا، فقد انشغلت تمامًا منذ الحفل دون لحظة راحة.
قضيت يومًا كاملًا في تنظيم ومعالجة الأوراق التي أهملها جوزيف طويلًا.
وزاد من انشغالي إعداد خطة لتجديد ديكور قصر الكونت، فقد كان من المستحيل تحمّل الذوق السيئ الذي طغى عليه بفضل حسّ جوزيف الفني المعدوم.
أجل، كل هذا كان بسببه.
وبينما كنت غارقةً في فوضى الأفكار، كان هناك ما يشتّت انتباهي أكثر من أي شيء آخر.
“إيرفين، ما هذا؟”
كان ذلك هو دانتي.
كان يزور قصر الكونت بشكلٍ متكرر و حتى بعد الحفل. يظهر أمامي عدة مرات في اليوم ويشتت تركيزي تمامًا.
مثل الآن، يعبث بالأوراق التي أراجعها ويسألني عنها واحدةً تلو الأخرى، أو فجأة يُصرّ على أن أُجري تعويذةً سحرية بحجة أنه يريد إجراء أبحاثه.
بفضله، لم أكن أتمكن من النوم حتى الفجر بسبب انشغالي بمعالجة الوثائق التي تحتاج إلى موافقة.
“إنه طلبٌ للحصول على إذن لزراعة الأعشاب الطبية. هل تعرفُ زهرة شقائق النعمان الحمراء؟”
“أليست عشبةً فعالة لخفض الحمى؟”
“صحيح. إنها الأفضل لخفض الحرارة بسرعة، لكنها تُستخدم أيضًا في تهدئة الألم وغيرها من الاستخدامات المتنوعة. ولكن…..”
قطبت جبيني وأكملت الحديث.
“من الصعب جدًا العناية بها حتى تُزهر بالشكل المناسب لاستخدامها كعقار. أضف إلى ذلك أن جذورها سامةٌ جدًا، ما يجعل من المستحيل زراعة أي نباتات أخرى بقربها. كما أن هناك من يحاول استغلال سُمّها لأغراض سيئة، لذا تحتاج إلى رقابةٍ مشددة.”
كنت مشغولةً بما فيه الكفاية، ولم أكن أملك طاقةً أو وقتًا للإشراف على أمر إضافي كهذا.
ربما لاحقًا، بعد أن أعتاد على مهامي ككونتيسة.
ومع ذلك، لم أستطع إخفاء أسفي. ففي المملكة بأكملها، كانت الأماكن التي تزرع فيها شقائق النعمان الحمراء تُعد على الأصابع، وكانت الكمية المنتجة ضئيلةً جدًا.
لو نجحنا فقط في زراعتها بكميات كبيرة، لأمكننا بيع الأدوية الجيدة بسعر أرخص بكثير.
“أفهم. لا بد أن الأمر مرهقٌ إن كان عليكِ الاهتمام بكل هذه التفاصيل.”
“نعم، يبدو كذلك، أليس كذلك؟”
أصدر دانتي صوتًا خافتًا يدل على اهتمامه، وبدأ يتفقد أرجاء المكتب.
نظرًا لكون المكتب الجديد الذي سأستخدمه ما زال قيد الترميم، كنت أستخدم حاليًا مكتب الكونت السابق.
وكان هذا المكان مليئًا بالكتب القديمة والوثائق التي جمعها الكونت السابق، مما جعله مثاليًا لإثارة اهتمام دانتي.
أخرج دانتي عددًا من الكتب وجلس على الأريكة، وسرعان ما انغمس في قراءتها. و استغليت هدوءه المفاجئ لأركز بسرعة على إنهاء الأعمال المتراكمة.
‘أشعر أنني أستطيع التركيز جيدًا اليوم.’
لا أعلم كم مر من الوقت بعد ذلك، لكنني بدأت أشعر بتصلب في رقبتي. فمددت ذراعي إلى الأعلى وأرجعت رأسي إلى الخلف لتليين العضلات، ثم درت كتفيّ وألقيت نظرةً خاطفة على دانتي.
كان مستلقيًا على الأريكة، ممسكًا بالكتاب، وقد غلبه النعاس.
‘دانتي ينام أيضًا، إذًا.’
هذا أمرٌ بديهي، لكن رؤيته نائمًا بعد أن اعتدت رؤيته دائمًا مستيقظًا، بدا غريبًا بعض الشيء.
وقفت من مكاني لأُريح جسدي المتيبّس وتوجهت نحو الأريكة التي كان يجلس عليها.
ثم اقتربت أكثر، لكنه لم يُظهر أي علامة على الاستيقاظ.
حدّقت في وجهه بهدوء.
‘لا شك أنه وسيم بصورة مذهلة.’
رغم أنني لاحظت ذلك مرات كثيرة من قبل، فإن الأمر في هذا العالم الروائي مختلف، فحتى إيدن وكاين يتمتعان بجمالٍ يخطف الأنفاس، لكن دانتي لا يُقارن بهما إطلاقًا.
الحاجبان الكثيفان، وجسر الأنف المستقيم، والشفاه الحمراء من دون أن يوضع عليها شيء.
لكن إن كان عليّ أن أختار أكثر ما يميّزه، فستكون عيناه بلا تردد. نعم، تلك العيون التي تحمل ذلك اللون الأصفر العميق.
‘هكذا تمامًا…..؟’
رمشت سريعًا. فقد بدا أن دانتي استيقظ، و كان ينظر إليّ مباشرة.
بدا على وجهه تعبيرٌ غامض، ولم يكن ذلك مستغربًا…..فقد كنت قد اقتربت من وجهه بمقدار شبر تقريبًا وأنا أتأمله.
لم أجد أي عذر أقدمه، فاكتفيت بابتسامةٍ خفيفة.
“مرحبًا، هل نمت جيدًا؟”
رمش دانتي بعينيه ببطء، وهو لا يزال في حالة من النعاس. ثم رفع رأسه الذي كان مائلًا، وتكلم أخيرًا.
“مرحبًا، إيرفين.”
وبما أنه استيقظ للتو، كانت نبرته أكثر انخفاضًا من المعتاد، فلامس صوته أذنيّ كهمسةٍ ثقيلة.
أشعرتني نبرته بدغدغة غريبة جعلتني أنتفض لا إراديًا.
بدا وكأنه نظر إليّ باستغراب، لكنني تجاهلت الأمر وتظاهرت باللامبالاة.
بعدها أطلق دانتي بعض الكلمات العشوائية، ثم أجبرني على استخدام السحر مرتين أو ثلاث قبل أن يعود إلى برج السحر.
‘لقد كان يومًا مرهقًا آخر.’
أنهيت توقيعي على آخر وثيقةٍ لليوم. وكان الظلام قد غطى الخارج تمامًا.
تثاءبت مطولًا، و أرجعت رأسي إلى الوراء، ومددت ذراعيّ وأنا أتمدد. ثم أسندت رأسي على مسند الكرسي وأغمضت عيني بهدوء.
‘على كل حال، يجب أن أبدأ بكسب المال، لكن كيف؟’
وما إن راودتني تلك الفكرة، حتى شعرت بصداعٍ خفيف ينبض في رأسي.
____________________
ذاه الي مشغلنا كلنا
نبي فلوس بس كيف؟
المهم دانتي جاي يعرف كل شي عن ارض الكونت قبل يتزوجون ايه عارفه ذا الحركات 😘
وصار يناديها ايرفين بس✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 33"