في لحظة، راودني الشك أن إيدن تعمّد قول ذلك رغم أنه سمع كل ما دار بيني وبين دانتي.
‘لا، مستحيل. لو كان إيدن، لسألني مباشرة دون لفٍ أو دوران.’
و كان سيصرخ من شدة قلقه على إيرفين، يسأل من كان معها وأين ذهب.
ابتسمت ابتسامةً خفيفة ولوّحت بيدي نافية.
“طبعًا لا. لا يوجد أحدٌ هنا، فمع من سأكون قد تحدثت؟”
نظر إليّ إيدن بعينين نصف مغمضتين، ثم ارتسمت ابتسامةٌ على شفتيه.
“على أي حال، أنتِ يا إيرفين كنتِ دائمًا تتحدثين إلى نفسكِ منذ زمن. لذلك كان الأطفال يسخرون منكِ. وأنا كنت مشغولًا بطردهم عنكِ.”
بدأ إيدن يسترجع الذكريات القديمة وضحك وهو يهز كتفيه.
تلك الذكرى بقيت محفورةً في قلب إيرفين كشيء يدعو للطمأنينة. فقد كان إيدن صديقًا داعمًا لها منذ الطفولة.
“صحيح، هذا ما حدث. تذكرتُ الآن.”
وبينما كان إيدن مستغرقًا في الحديث عن الماضي والذكريات، توقف فجأة عن الضحك وأخذ يحدق بي بهدوء.
“على كل حال، كنت أعلم مسبقًا، لكن رؤيتكِ ترقصين مع شخص غيري جعلتني أشعر بالانزعاج.”
قال ذلك متدلّي العينين، نافخًا شفتيه في دلالٍ كأنه يتذمر.
بدا كجرو صغير يحاول لفت الانتباه لكن في النهاية تم تجاهله، فلم أتمالك نفسي من الضحك.
“وأنتَ؟ لا أظن أنني رأيتكَ ترقص.”
“أنت لم تكوني هناك، فمع من كنت سأرقص؟ فقط تحدثت قليلًا مع ابن الماركيز رايموند.”
يبدو أن دوقية هايفن كانت تُحضّر لمشروع جديد، فلعلّه كان يتحدث عن ذلك. ومن تعبير وجه إيدن، كان واضحًا كم كانت المحادثة مملة.
رفع إيدن يده كعادته ليصفف شعري، لكنه توقف فجأة وأخذ يتلفت حوله.
تفاجأت من حركته المفاجئة، فبدأت أنا أيضًا أنظر حولي، لكن لم يكن هناك شيء.
“ما…..ما بكَ؟ لقد أخفتني…..”
عندها فقط عاد إيدن بنظره إليّ وأكمل تصفيف شعري.
“آسف، شعرت فجأةً وكأن هناك من يحدّق بنا. ولأن ما حصل قبل قليل ما زال في بالي، يبدو أنني أصبحت مفرط الحساسية.”
رغم ما قاله، ما زال ينظر حوله بحذر.
وبعد أن بدا راضيًا عن مظهر شعري، أنزل يده وابتسم بعينيه.
“تعالي لزيارة قصر الدوق من وقتٍ لآخر.”
“حسنًا، فهمت. قلت هذا قبل قليل أيضًا. كم تشتاق إليّ بالضبط؟”
قلت ذلك مازحة وأنا أنغزه بمرفقي في خصره. فأخذ يربت على الموضع الذي لمسه مرفقي مرتين، ثم ابتسم بخفة.
“أظن أنني أشتاق إليكِ فعلًا. لهذا، لا بد أن تأتي.”
“حسنًا. بما أنكَ قلتها بهذه الطريقة، عليّ أن أزوركَ قريبًا، أليس كذلك؟”
“حقًا؟ هل هذا وعد؟”
ثم تلألأت عينا إيدن كما لو أنه حصل على اللعبة التي لطالما رغب بها.
هل من المفترض أن يكون بهذا الفرح؟ لم يمضِ وقتٌ طويل منذ كنا نلتقي كل يومٍ تقريبًا.
…..لحظة، هل من الممكن أنه يُكنّ لي مشاعر مختلفة؟
أليس هناك رواياتٍ من هذا النوع؟ عندما تحاول البطلة الابتعاد عن البطل أو أن تصبح مجرد معاونةٍ له، لكنها في النهاية تقع في حبه…..
‘لا، مستحيل. إيدن لا يمكن أن يكون كذلك!’
لكن إن لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يكون ذهابي إلى قصر الدوق أمرًا يفرحه بهذا الشكل؟
كتمت ضحكةً ساخرة كادت تفلت مني من هذا التفكير السخيف، ورفعت بصري إليه.
كان يميل برأسه قليلًا وكأنه ينتظر إجابتي بإلحاح، وبابتساةٍ هادئة ولطيفة.
‘همم، لا بأس أن أكون حذرة.’
أومأت إليه برأسي.
“حسنًا، حسنًا! أعدك. لكن، إيدن…..أنا متعبةٌ جدًا اليوم، أظن أن عليّ الرحيل الآن.”
“هكذا بسرعة؟ هذا مؤسفٌ قليلًا…..”
قال ذلك وهو يُسدل كتفيه ووجهه يكتسي بتعبيرٍ حزين.
لماذا؟ لماذا يبدو حزينًا إلى هذا الحد! لم يكن هكذا من قبل، أبدًا.
خشيت أن أبدأ بتفسير مشاعره كما يحلو لي إن بقيت أكثر، فتحركت بسرعة استعدادًا للمغادرة.
“أشعر أنني سأسقط من التعب. آسفة. لكن سأكتب لكَ رسالة قريبًا، أعدكَ!”
“حسنًا، إذًا دعيني أوصلكِ حتى العربة.”
“هاه؟ لا داعي لذلك…..”
حين حاولت أن أرفض لطفه، قطّب حاجبيه قليلًا وكأنه وجد تصرّفي غريبًا. فسرعان ما غيّرت رأيي وأمسكت بذراعه.
“حسنًا، لما لا توصلني إذاً؟”
ما هذا الكلام؟ حتى أنا شعرت بأنني أتصرف بغرابةٍ لدرجة مثيرة للريبة.
لكن ما دام الكلام قد قيل، فلا مجال للتراجع الآن. و بما أن الأمور وصلت إلى هذا الحد، فلأتصرف بوقاحة.
“ألن نذهب؟”
توسّعت عينا إيدن بدهشة وهو يحدق بي للحظة، ثم بدأ يتحرك.
“طبعًا، لنذهب…..”
***
وبما أنني صادفت ميخائيل بالمصادفة، طلبت منه أن يبلغ كاين أنني سأغادر أولًا، ثم خرجت.
ما إن وصلت أمام العربة الضخمة التي كنت قد جئت بها إلى القصر الملكي، حتى أفلتّ كمّ إيدن.
لم أعد أذكر حتى عن ماذا تحدثنا في الطريق إلى هنا. فكلما تحدثت مع إيدن أكثر، كلما ازداد ارتباكي وشعرت بأوهامٍ غريبة، لذا قررت التوقف عن التفكير نهائيًا.
“شكرًا لأنكَ أوصلتني. سأرحل الآن.”
ساعدني إيدن بسرعةٍ على الصعود إلى العربة، ثم فتح فمه،
“إيرفين، لقد وعدتِ، فلا بد أن تزوري قصر الدوق. اعتني بنفسكِ في الطريق.”
مرة أخرى، ومرة أخرى…..
نظراته ونبرته، التي بدت وكأنها تتوق إليّ، كانت تجعل الأمور تزداد غموضًا وتشويشًا.
‘استفيقي! إنه بطل الرواية في هذه القصة، وأنا مجرد شخصيةٍ ثانوية لا أكثر!’
أخذت نفسًا عميقًا وزفرته، ثم لوّحت بيدي نحو إيدن.
“وأنت أيضًا…..اعتنِ بنفسك…..جيداو*!”
* وتُنطق أحيانًا بسرعة بطريقة تجعلها تُسمع كأنها “جالجا” أو “جيداو” حسب لهجة المتحدث.
المعنى: “اذهب جيدًا” أو “وداعًا” وتقال عندما يودّع الشخص من سيغادر (شخص ذاهب في الطريق).
هي عبارة غير رسمية، تُقال بين الأصدقاء أو المقربين.
أغلقت باب العربة بعنف، ثم أسرعت بالجلوس على المقعد ودفنت وجهي بين يديّ. ثم بدأت العجلات تدور ببطء، والعربة تبتعد شيئًا فشيئًا عن القصر الملكي.
التنهيدات لم تتوقف عن الخروج من صدري، والإحراج الذي كان يتصاعد داخلي جعلني أركل الأرض بقدميّ وأنا أصرخ.
‘ما هذا ‘جيداو’؟! ما الذي قلته بالضبط! وإن ظن إيدن أنني غريبة، فكيف سأشرح له؟ سأنفجر!’
من المؤكد أن إيدن سيواجهني في المرة القادمة ويسأل عن ذلك.
هل يمكنني أن أقول له وقتها: “الحقيقة أنني شعرت بأنك تنظر إليّ كرجلٍ ينجذب لامرأة، ولم أعرف كيف أتصرف…..”؟
“آآآه! أريد أن أبكي، حقًا!”
حسنًا، ما حدث قد حدث، ولا يمكن التراجع عنه.
أطلقت تنهيدةً عميقة على راحتيّ ثم رفعت رأسي.
“ليس أمامي سوى أن آمل بأن يتجاهل الأمر…..آه! مـ…..متى وصلت؟!”
ما إن رفعت رأسي حتى رأيت دانتي جالسًا في المقعد المقابل.
تفاجأت بشدة، لم أكن أعلم متى جلس هناك، فبدأ قلبي ينبض بسرعة. أما دانتي، فكان متكئًا على المقعد وذراعيه متشابكتان، ينظر إليّ بلا اهتمام ثم تحدث ببرود،
“كنت هنا قبل أن تصعدي إلى العربة.”
أغمضت عيني بإحكام عند سماع كلماته. فالموقف كان غير مفهوم إلى درجة أن رأسي بدأ يؤلمني.
رفعت يدي ووضعتها على يسار صدري. و كان قلبي لا يزال ينبض بعنف. و شعرت بنبضاته بينما كنت أتنفس ببطء في محاولةٍ لتهدئة نفسي.
‘هذا خطر. كل من حولي خطرون. في هذه الحالة، لن أموت بسبب انفجار السحر، بل من أزمةٍ قلبية!’
فتحت عيني ونظرت إليه. و تسللت تنهيدة خفيفة من بين شفتيّ عندما رأيت نظرته، وكأنه يعتبرني شخصًا مثيرًا للاهتمام.
“لم أكن أعلم أبدًا أنكَ كنت هنا. ماذا كنت ستفعل لو رآك إيدن؟”
“كنت سأمحُو ذكراه حتى لا يتذكر شيئًا.”
ضحكت بسخرية من دون قصد بعد سماعي رده.
مؤذٍ…..إنه مؤذٍ حقًا. أن يقول شيئًا كهذا وكأنه أمر طبيعي!
شعرت أن رأسي سينفجر إن استمرت هذه المحادثة، لذا قررت تغيير الموضوع فورًا.
“هناك شيءٌ كنت أود سؤالك عنه، هل يمكنني؟”
“نعم.”
“سيدي الساحر، كيف كنت تقضي وقتكَ في برج السحر أثناء غيابي؟”
أسندت رأسي إلى جدار العربة وسألته. و ظل دانتي يحدّق بي بصمت، ولم أعرف إن كان يفكر في الإجابة أم أنه فقط شارِد، لكنه بعد فترة طويلة أجاب أخيرًا.
“كنت أُجري أبحاثًا سحرية وأقرأ الكتب…..هكذا قضيت وقتي.”
“حقًا؟ لا بد أنه كان وقتًا ممتعًا بالنسبة لكَ.”
“ولِمَ تظنين ذلك؟”
“نعم؟ لأنني أظن أنك تحب أن تكون بمفردك، وأنكَ ربما لا تحب وجودي في برج السحر لأنني أُحدث الكثير من الضجة…..”
كنت أشعر بذلك دائمًا، عندما كان يفتح لي باب غرفته أو حين أُزعجه أثناء انشغاله في أبحاثه، فأرى حاجبيه ينقبضان قليلًا.
كنت أعتقد أنه سيكون سعيدًا إذا توقفت عن الذهاب إلى البرج بحجة الانشغال. ولهذا، حين زارني دانتي في قصر كوينياردل سابقًا، شعرت بالدهشة. فلم يكن أمرًا متوقعًا أبدًا.
صمت دانتي، وفك ذراعيه المتشابكتين، وبدأ يعبث بخصلات شعره من الخلف وهو يحدق من النافذة ويتمتم.
“ليس تمامًا…..”
هذه الكلمات كانت كل ما خرج من فمه.
ليس تمامًا. إجابة غامضة، لا هي نفي ولا هي تأكيد.
‘لكن…..هذا مطمئن على الأقل. لم يقل أنه يكره وجودي.’
ربما كنت متوترة قليلًا، فقد بدأت أتنفس بهدوء بينما أرخي قبضتي التي كانت مشدودةً بشدة، ثم خطرت لي فكرة فجأة،
‘مطمئن؟ هل هذا أمرٌ يدعو فعلاً للاطمئنان؟’
نظرت بصمتٍ إلى جانب وجه دانتي، الذي كان لا يزال يحدق في المشهد خارج النافذة.
عكست عيناه الصفراء اللامعة ضوء القمر المتسلل بين الأشجار، فتألقت كالجواهر، وجعلتني أحدّق بها بلا وعي.
وربما لأنه شعر بنظراتي، التفت فجأةً وتحدث دون مقدمة،
“كنت أشعر بالملل.”
“…..عفوا؟”
“كنت أشعر بالملل. لا الأبحاث المعتادة، ولا الكتب التي كنت أقرأها بشغف يوميًا، كانت ممتعة.”
توقف دانتي لوهلة ونظر إليّ. و لسبب ما، عندما التقت أعيننا، شعرت وكأن الزمن توقف، ولم أعد قادرة على قول أي شيء.
لم يستغرق الأمر وقتاً طويلًا حتى أكمل كلامه، رغم أنه بدا لي وكأن دهرًا قد مرّ.
“يبدو أنني كنت في انتظاركِ، طوال فترة غيابكِ.”
كان عليّ أن أقول شيئًا…..لكنني لم أجد الكلمات المناسبة.
ثم ساد صمتٌ تام، ولم يُسمع في العربة سوى صوت دوران العجلات واحتكاك أوراق الشجر بنسيم الليل.
__________________
وناسه
وناساااااااااات كان ينتظرها😭
الياحر المجتون بالسحر صار مجنون بإيرفين🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 32"