“هل هناك ما هو أهم من التدريب على السحر؟”
“بالنسبة لي، نعم. هذه مناسبةٌ مهمة. عليّ أيضًا أن أعيش حياتي الاجتماعية.”
تنهد دانتي بصوتٍ خافت كأنما يتنفس من ضيق، ثم اتكأ بظهره على إطار شرفة النافذة. و حدّق بي بصمت وهو يعقد حاجبيه.
ما هذا؟ ألم يعجبه ردي؟
منذ المرة السابقة وهو يبدو غير مرتاح، فلم أكن أملك الجرأة لأفتح معه أي حديث.
“غدًا…..ما رأيكَ بالغد؟ سأحاول أن أجد وقتًا بأي طريقةٍ ممكنة.”
لكن حتى هذا الجواب بدا غير مرضٍ له، إذ لاحظت حاجبيه يرتجفان.
صحيحٌ أنني في الآونة الأخيرة لم أكن أركز على تدريبي في السحر. وهو يعشق دراسات السحر، فلا بد أن الأمر كان يضايقه كثيرًا.
لكن اليوم خصصت العائلة المالكة هذا الحفل على شرفي، ولم يكن بوسعي التغيب.
“سيد ساحر، رجاءً…..غدًا سأزور برج السحر بنفسي..…”
طَرق-
في اللحظة التي كنت أحاول فيها تهدئته وإقناعه بالمغادرة، طرقَت ليج الباب.
“آنستي، هل ارتحتِ جيدًا؟ لقد حان وقت الانطلاق.”
“آه، نعم. يجب أن أذهب. لحظةً فقط!”
استدرتُ نحو الباب لأجيبها، وكان ذلك لثانيةٍ واحدة فقط. ثم التفتُّ مجددًا نحو الشرفة.
“سيد ساحر، سأزور برج السحر غدًا بنفـ…..سيد ساحر؟”
لكن دانتي كان قد اختفى ولم يظهر له أثر. و كان الموقف مشابهًا تمامًا لما حدث قبل يومين.
فأطلقت زفرةً كانت حبيسة صدري من شدة الضيق.
‘ما الذي أتى به إلى هنا أصلًا..…’
هززت رأسي ببطء وفتحت الباب، فوجدت ليج وبعض الخادمات واقفاتٍ يبتسمن.
خرجت معهن إلى خارج القصر، فرأيت عربةً ضخمة لم أرَ مثلها من قبل، أرسلها القصر الملكي، محاطةً بعدد من الخدم.
كان من المرهق نفسيًا أن أكون الوحيدة التي تتلقى وداع هذا العدد الكبير من الناس.
‘لم يكن من الضروري أن يخرج الجميع هكذا..…’
تخطيتهم بصعوبة وصعدت إلى العربة، وما إن جلست، حتى صدح الخدم جميعًا بصوتٍ واحد،
“عودي لنا بسلام، آنستنا إيرفين!”
حتى وانا في العربة المغلقة، شعرت أن مشاعرهم الصادقة وصلتني بوضوح.
فلوّحت لهم بيدي وأنا أبتسم ابتسامة بإشراق.
“سأعود قريبًا.”
***
بعد أن قطعت العربة مسافةً طويلة وهي تواصل السير، بدأت تتباطأ تدريجيًا حتى توقفت بلطف.
ثم سمعت صوت ارتجاجٍ خفيف، ربما بسبب نهوض السائق من مقعده، وتبعته أصواتٌ لعدة أشخاص يتحدثون.
ثم، بعد لحظات، عادت العربة إلى التحرك ببطء.
“هل وصلنا؟”
نظرتُ قليلًا إلى الخارج عبر النافذة الواسعة التي تليق بالعربة الكبيرة.
قبل قليلٍ فقط، بدا وكأننا نجتاز المروج، لكن سرعان ما بدأت المباني العاجية تظهر.
توقفت العربة أمام أكبر وأفخم مبنى، وما إن مضت لحظات حتى فُتحت الأبواب.
نزلت من العربة بمرافقة فارس ملكي، فظهر فجأة رجل ذو ملامح ودودة.
“أهلًا بقدومكِ، آنسة كوينيارديل. أنا ميخائيل، معاون جلالة الملك. لقد أُرسلت بأمر من جلالته لأستقبلكِ.”
“آه…..مرحبًا بكَ.”
أمسكت بطرف تنورتي وانحنيت لتحيته. و كان ظهري يؤلمني بشدة من طول الجلوس في العربة، لكني تحمّلت ذلك بصعوبة.
رسمت ابتسامةً متكلفة على وجهي ونظرت إليه، فتحرك ميخائيل بخطى ثابتة دون أن يبدل ملامحه الجامدة.
“جلالته في اجتماعٍ مهم الآن، لذا ليس في القصر. إن لم تمانعي، أود أن أرافقكِ في جولةٍ تعرّفية بالقصر، ما رأيكِ؟”
“بالطبع، أشكركَ على ذلك.”
سرت برفقة ميخائيل أتجوّل في أرجاء القصر.
كان المكان واسعًا للغاية، ولم أزر سوى جزءٍ بسيط منه، لكنه كان غاية في الجمال. والأجمل من ذلك أن ميخائيل كان يشرح الأمور ببراعة تجعل حتى أكثر القصص التاريخية جفافًا تترسخ في الذاكرة.
رغم أنه لم يبتسم ولو لمرة، إلا أنه لم يكن يبدو كشخصٍ بارد.
وأثناء تجوالنا في الحديقة الملكية الشهيرة داخل المملكة، بادر ميخائيل بالكلام.
“لا بد أن قدماكِ تؤلمانكِ من كثرة المشي. أظن أنه سيكون من الجيد أن نأخذ استراحةً قصيرة.”
“أوه، لا بأس..…”
“إن جلستِ هنا تتأملين الحديقة، فسيزول عنكِ التعب سريعًا. سأعود بعد قليلٍ لأصطحبكِ من جديد.”
ثم انسحب ليتركني بمفردي. و كنت حقاً أشعر بتصلب في ساقي بسبب الكعب العالي.
جلست بسرعةٍ على الكرسي الذي أعده ميخائيل، وبدأت أدلّك ساقي بينما أحدّق بشرودٍ في الحديقة.
لقد كانت مكانًا رائعًا بالفعل. وكما يُقال عنها إنها أول من يستقبل الربيع في المملكة، فقد تفتحت الأزهار بكثافةٍ لتعرض جمالها الآسر.
كلما تأملت أكثر، شعرت بأن الضوضاء التي كانت تعمّ رأسي بدأت تهدأ وتتلاشى.
لكن فجأة…..
“…..ما هذا؟”
ظهر في مجال رؤيتي عشبةْ وردية تتحرك بشكلٍ غريب بين الأعشاب. و رَمَشتُ بعيني مرارًا وفركتهما، لكنها ما زالت تتحرك فعلاً.
لم يكن الأمر شبيهًا بتمايل الأعشاب في مهب الريح أبدًا.
أيعقل أن بكون…..
“صاحب السمو؟”
عند صوتي، توقفت العشبة الوردية فجأة، ثم غاصت بسرعةٍ نحو الأسفل.
كنت أظن الأمر مستحيلًا…..لكنه حقًا كاين، أهذا صحيح؟ ماذا يفعل في مكانٍ كهذا؟
نهضت من مكاني بسرعة، وارتديت حذائي الذي نزعته، ثم مشيت بخطواتٍ واسعة نحو المكان الذي كان يختبئ فيه كاين.
كلما اقتربت، تعالا صوت احتكاك الأوراق وتسارع.
“ماذا تفعل هنا؟”
وعندما وصلت إلى المكان الذي ظهر فيه كاين للحظة، وجدته جالسًا على الأرض وقد انكمش بصعوبةٍ ليخفي جسده الضخم.
وحين التقت عيناه بعيني، تنهد بقوةٍ وكأنه تخلّص من حمل ثقيل، ثم وقف وهو ينفض الغبار عن ملابسه ويبتسم بمرح.
“آه~ كانت الآنسة إذًا؟! ظننت أن من جاء هو أحدٌ من القصر الملكي للإمساك بي، لقد شعرت وكأن قلبي سقط من مكانه.”
قال كاين ذلك وهو يضحك بصوتٍ عالٍ ويوجه إليّ الحديث.
“هل أتيتِ مبكرًا بسبب مراسم منح اللقب؟ كان ينبغي أن أذهب بنفسي إلى القصر لاصطحابكِ، لكن الاجتماع الطارئ أعاقني.”
“لكن…..لماذا أنتَ هنا؟”
لقد قيل أن جلالة الملك لا يزال في الاجتماع، فكيف لولي العهد، الذي يفترض أن يحضره، أن يكون هنا؟
لكني ما كنت لأطرح هذا السؤال ربما…..إذ أجابع كاين دون حتى أن يسمعه.
“لقد هربت. كم هو مملٌ ذلك الاجتماع. من الواضح أنهم لن يتوصلوا لأي نتيجةٍ حاسمة، ومع ذلك يجب أن أجلس هناك لساعات أستمع إلى كلام سخيف بلا طائل. أوووه.”
وأظهر اشمئزازه حتى أنه ارتجف وهو يعبر عن مدى كرهه لذلك.
تساءلت في نفسي للحظة إن كان من الصواب حقًا أن يُعهد إلى هذا الشخص بمستقبل المملكة، لكن لا بد أن حكمه سيكون ممتعًا بطريقته الخاصة.
ضحكت دون أن أشعر من الموقف الغريب وكلامه، ونظرت إليه بابتسامةٍ على وجهي.
و عندما التقت نظراتنا، ابتسم كاين فوراً،
“كنت أظن أنكِ ستبدين جميلة، لكنكِ أروع بكثيرٍ مما تخيلت.”
كانت كلماته صادقة لدرجة أنني شعرت بسعادةٍ حقيقية.
هو أيضًا كان يرتدي زيًا أخضر فاتحًا يليق بالمناسبة. و من بعيد فقط يمكن معرفة أننا شريكان.
“يبدو أن أمامنا بعض الوقت قبل أن يعود ميخائيل، هل ترغبين في التنزه معي قليلًا؟”
“هل هذا ممكن؟ ماذا لو رآكَ أحد بالصدفة؟”
“إن تقدمنا قليلًا، سنصل إلى حديقةٍ لا يُسمح بدخولها إلا لأفراد العائلة المالكة. لا يأتي إليها أحد سوى البستاني في أوقاتٍ محددة.”
“وهل يُسمح لي بالدخول إلى مكانٍ كهذا؟”
“بالطبع. هذا مؤكد. إذًا، هل نذهب؟”
الحديقة التي وصلنا إليها مع كاين كانت أبسط مما توقعت، وربما لهذا السبب بدت أكثر دفئًا وطمأنينة.
كان يتجول فيها بخفة وكأنه يعرف كل ركنٍ فيها. بينما تبعته بنظري.
“إنها جميلةٌ جدًا. لم أكن أظن أن مكانًا كهذا موجود.”
“هل راقكِ المكان؟”
“نعم. لو كان لي مكانٌ مثل هذا، لكنت أتيتُ إليه في كل مرة أشعر فيها بالتعب. فهل كنت سأشعر حينها بتعبٍ أقل؟”
لم أكن أنوي قول هذا. لكن بدا أنني أثقلت الجو دون قصد.
نظرت إليه بقلق، لعلّه يضحك كالعادة ويتجاهل الأمر. لكن رده كان غير متوقع.
“الأمر لا يسير هكذا.”
قال كاين ذلك وهو يمرر يده على ورقة خضراء.
“مهما جئتِ، ومهما تكررت زياراتكِ، سيبقى الألم والتعب كما هما.”
هل أواسيه؟ أم أتظاهر بأن الأمر عادي؟
لا شك أنه كان يتحدث عن نفسه.
تذكّرت كاين في تلك الأيام التي قرأتها في الرواية، حين اضطر لتحمّل كل ذلك العبء وحده، وشعرت بانقباض في قلبي.
ما الذي يمكن أن يُقال في موقفٍ كهذا؟
كنت أفتح فمي وأغلقه مرارًا، أبحث عن الكلمات المناسبة.
“يبدو أن ميخائيل قد وصل.”
“نعم؟”
“إنه يبحث عنكِ. عليّ أن أذهب الآن.”
لم أسمع أي صوت على الإطلاق، فكيف علم بالأمر؟
وكأن كاين فهم ما أفكر به، فابتسم،
“عندما تهرب كثيرًا، تصبح حساسًا حتى لأصغر الأصوات.”
كلامه المازح خفف الأجواء فجأة، وشعرت بالارتياح.
خرجنا معًا فوجدنا ميخائيل ينظر إليّ وإلى كاين بنظراتٍ متبادلة، وعلى وجهه تعبيرٌ من الإنهاك واليأس.
“صاحب السمو..…”
“شكرًا لجهودكَ، ميخائيل. هل ما زال الاجتماع مستمرًا؟”
“ما الذي تفعله هنا يا صاحب السمو؟ جلالة الملك كان يبحث عنكَ بكل مكان.”
“حدث أمرٌ طارئ بسيط. وشكرًا لأنكَ غطيتني بالكلام، ميخائيل.”
أغمض ميخائيل عينيه بقوة، وهو الذي لم يكن يُظهر أي تعبير على وجهه سابقًا.
أما كاين، فلم يبدو عليه أي انزعاج، وكان لا يزال يبتسم ببشاشة.
أخفض ميخائيل رأسه وزفر تنهيدةً طويلة قبل أن يوجّه حديثه إليّ.
“جلالة الملك بانتظاركِ. وصاحب السمو، نرجو أن ترافقنا أيضًا.”
أومأ كاين برأسه بابتسامةٍ مشرقة.
ورغم أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها ميخائيل اليوم، إلا أنني شعرت نحوه بقليلٍ من الشفقة.
__________________
كاين طرف ثاني يحزّن اتوقع حقين متلازمة البطل الثاني بيبكون عنده 😘
احبه بس عادي راضيه انه مب البطل بس ليته اخوهااااااا
المهم دانتي طق ليته يجيها فجأه وهو متزبرك في الحفل😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 28"