نظر إليّ جوزيف رافعاً أحد حاجبيه بانزعاج. حتى عندما مرّ الحراس بجانبه وهم يدفعون كتفيه، ظل واقفًا مكانه في ذهول.
ومع دخول الحراس إلى القصر لتفتيشه، لم يبقَ في المدخل سوانا.
وبعد لحظات من الصمت، تكلّم جوزيف أخيرًا.
“أنتِ…..لماذا أنتِ هنا؟”
كان صوته يرتجف، وكأنه يحاول كبح جماح غضبه. فنظرت إليه وابتسمت ابتسامةً مشرقة وأنا أجيبه.
“همم، لأن الطقس جميلٌ اليوم.”
“هل تدركين حتى ما الذي فعلتِه؟ لقد قمتِ وحدكِ بما يكفي لتدمير عائلة كوينيارديل بالكامل!”
ضحكتُ دون إرادة، إذ تسللت الضحكة من بين أسناني لسخافة ما قاله.
وما إن بدأت، حتى تفجّرت الضحكة واتسعت ولم تتوقف بسهولة. و ربما كان ذلك يزيد من استفزازه، فقد بات وجهه يتقلب بين الاحمرار والزرقة من شدة الغضب.
“تضحكين، بينما العائلة بأسرها في خطرٍ بسببكِ؟!”
مسحت دموع الضحك التي انسابت، ثم مررت بجانبه. وأخرجت من خلف ظهري الوثيقة التي كنت أخفيها، ولوّحت له بها.
“كان عليكَ أن تحرص على حفظ الوثائق المهمة جيدًا، يا عمي.”
“كيف حصلتِ على ذلك..…! تباً! كنت أستغرب سبب زيارتكِ المفاجئة للقصر، لكن اتضح الآن أنها كانت لهذا الغرض!”
“وهل كنتُ لأزوركَ فقط لرؤية وجهكَ، عمي؟ هاه، هذا غير معقول.”
“إيرفين!”
صرخ جوزيف وقد فقد أعصابه، لكنني أجبته دون أن أرمش حتى.
“ما الأمر، عمي؟”
عندها داس الأرض بغضب وتقدّم نحوي بخطواتٍ ثقيلة، وقلّص المسافة بيننا في لحظة، ثم صرخ بحدة.
“إيرفين، ستندمين على اختياركِ هذا!”
دفع وجهه نحوي بعنف وقد بدا عليه الشر، و تحدث بحدة،
“سأتأكد بنفسي من ذلك!”
وأشار نحوي بأصبعه وكأنه يوشك أن يطعنني به، وهو يصرخ،
“حتمًا!”
فعقدت حاجبي من صراخه الحاد.
“آه، لحظة من فضلكَ. رائحة فمكَ كريهةٌ جدًا لدرجة أنني لم أفهم ما قلت.”
وضعت يدي على أنفي ولوّحت بالأخرى، فاحمرّ وجهه غضبًا حتى صار كالجمر.
بدأ جوزيف يحرك شفتيه محاولًا قول شيءٍ آخر، لكنني قاطعته قبل أن ينبس بكلمة، لأني لم أعد أرغب بسماع صوته.
“يبدو أنني لا أستطيع الاستماع أكثر من ذلك. هناك الكثير من الزوّار بانتظاركَ، يا عمي.”
أشرت خلفي بابتسامةٍ لطيفة، إذ كان الحراس قد أنهوا التفتيش وبدأوا يقتربون من جوزيف.
“أيتها الحقيرة!”
صرخ جوزيف بأعلى صوته للمرة الأخيرة، ثم اقتاده الحراس بعيدًا.
ولوّحت له بيدي بينما كان يُساق وهو لا يزال يصرخ بصوتٍ يصمّ الآذان.
‘أتمنى لك الشقاء.’
وما إن اختفى جوزيف مع الحراس وأُغلقت الأبواب، حتى عمّ الصمت القاعة الكبيرة. و لولا بعض الزينة المبعثرة على الأرض، لظننت أن شيئًا لم يحدث.
عندها فقط بدأ الخدم، الذين كانوا يراقبون بصمتٍ من بعيد، يخرجون واحدًا تلو الآخر.
“آنستي! هل أصبتِ بأذى؟”
“لا، أنا بخير. فقط هناك طنينٌ في أذناي، من صراخ عمي.”
“حتى في مثل هذه اللحظة، ما زلتِ تنادينه عمي؟ ذاك الوغد لا يستحق إلا القذف! إنه حثالةُ البشر!”
كان هؤلاء الخدم قد خدموا الكونت السابق عندما كنت أقيم في القصر.
وما إن أحاط بي أحدهم غاضبًا واضعًا يده على كتفي، حتى رفع الآخرون أصواتهم واحدًا تلو الآخر.
“أحمق من بين كل الحمقى! لم يكن يشغل باله إلا بشرب أفخر أنواع الخمر!”
“شخصٌ كهذا يجب أن يُزج به في السجن، ولتكوني أنتِ الكونتيسة القادمة، آنستي!”
“صحيح! الآنسة أصبحت راشدة، وكان من الطبيعي أن ترث لقب الكونتيسة، لكن رؤيته جالسًا في القصر كأن شيئًا لم يكن…..لقد كان أمرًا لا يُحتمل!”
في انفعالهم وهم يغضبون نيابةً عني، ظهر جليًّا كم كانوا يحبون إيرفين.
شعرت بالدفء يتسلل إلى قلبي من محبتهم تلك، رغم أنني لست إيرفين التي عرفوها وأحبوها، وكان في داخلي شيء من الحزن…..وأيضًا الغِبطة.
ابتسمت للخدم بلطف لتهدئة الأجواء التي أخذت بالتصاعد.
“شكرًا لكم جميعًا. سأصعد قليلاً إلى الطابق العلوي، المكان صار فوضويًّا بعد هذا العدد من الزوّار، فهل يمكنني ترك مهمة الترتيب لكم؟”
“بالطبع، آنستي. دعي الأمر لنا، لا بد أنكِ مرهقة، ارتاحي قليلًا في غرفتكِ.”
“شكرًا لكم حقًا.”
كان الطابق العلوي في حالٍ أسوأ بكثير من الطابق السفلي.
لم تسلم قطعة زينة واحدة، وحتى اللوحات الثمينة تضررت وتكسرت.
فتحت باب الغرفة التي كانت تستخدمها إيرفين لأجدها هي الأخرى مدمرة.
“حتى مكانٌ للجلوس لا يوجد.”
كان موقفًا محرجًا. لكن رغم كل ذلك، وجدت شفتي ترتفعان دون إرادةٍ مني.
تحقّق ما كنت أرجوه طوال هذا الوقت، ولا شيء يمكنه أن يفسد عليّ هذه السعادة.
“عليّ أن أعود إلى قصر هايفن حالاً لأجهز أمتعتي.”
لأني سأعود إلى البيت قريباً.
***
بعد عدة أيام، عُقدت محاكمةٌ بشأن جرائم جوزيف. و وقفتُ في قاعة المحكمة كشاهد ضده.
وجه جوزيف، الذي لم أره منذ وقتٍ طويل، بدا شاحباً ومثيراً للشفقة حتى في نظري.
أمسك القاضي بورقةٍ ووجّه إليّ الحديث.
“أيها الشاهد، هل رأيتِ هذا البيان من قبل؟”
بالطبع. أنا من أعطيته لكاين.
“نعم. هذا بيانٌ سلمته بنفسي لسمو ولي العهد.”
“ومن أين حصلتِ عليه؟”
“وجدته في قصر كوينيارديل.”
ساد القاعة همسٌ ودهشة. فقد كان من الطبيعي أن يُصدم الجميع عندما علموا أن وثيقةً تتحدث عن خيانة قد وُجدت في القصر المباشر للكونت السابق من عائلة كوينيارديل.
وفي الوقت الذي أظهر فيه القاضي نفسه علامات الدهشة، كنت أنا الوحيدة التي حافظت على هدوئها.
“أحم! وأين كان مخبأً في القصر؟”
“في مكتب القائم الحالي بالأعمال، عمي جوزيف ميليانو.”
عندما أضفتُ القليل من الكذب إلى إجابتي، صرخ جوزيف الذي كان واقفاً مذهولاً وكأنه فقد روحه.
“ماذا؟ لا تكذبي! لا يمكن أن تكون تلك الوثيقة في غرفتي! سيدي القاضي، هذه الحقيرة تكذب الآن! لا علاقة لي بالأمر! كل هذا من تدبير والدها!”
“أحذر من استخدام الألفاظ النابية في محكمةٍ مقدسة. ولم أمنحكَ إذن الحديث بعد.”
عند كلام القاضي، أطلق جوزيف صوتاً مستنكراً بلسانه.
نظر إليه القاضي بازدراء، ثم أدار وجهه ناحيتي وطرح سؤالاً.
“أيها الشاهد، هل ما تقولينه خالٍ تماماً من الكذب؟”
“بالطبع يا سيادة القاضي.”
“لكن حديث هذا الرجل يحتوي على قدرٍ من المنطق. هل تستطيعين إثبات أن هذه المؤامرة لم يكن يخطط لها الكونت السابق من عائلتكِ؟”
“أسلافي خدموا الوطن والعائلة الملكية في جميع الظروف. وقد نالوا لقب الكونت من جلالة الملكة بنفسها اعترافاً بمآثرهم. كان والدي يفتخر بذلك طوال حياته، وعاش دائماً بطريقةٍ لا تسيء إلى اسم عائلة كوينيارديل في أي مكانٍ أو زمان. وهذا أمر يعرفه الجميع، ليس فقط العائلة الملكية، بل الشعب كله أيضاً.”
أومأ القاضي برأسه بتعبير يدل على الحرج، ثم فتح فمه،
“نحتاج إلى أدلةٍ أكثر وضوحاً. وإلا فسيتوجب علينا إعادة التحقيق من جديد.”
كما توقعت، الكلمات وحدها لا تكفي.
بالطبع، عندما زرت القصر في المرة السابقة، فتشت كل زاويةٍ فيه لجمع الأدلة. لكن لم أتمكن من العثور على أي شيءٍ يتعلق بإنجازات الكونت السابق من عائلة كوينيارديل.
وعندما سألت الخدم، أخبروني أن جوزيف، حين تولّى منصب القائم بأعمال الكونت، أحرق جميع سجلات إنجازات الكونت الراحل. لذا، من الطبيعي أنني لم أجد دليلاً واضحاً.
“أيها الشاهد، هل لديكِ دليلٌ يثبت أن الكونت السابق، فريدريك كوينياردل، لم يكن له أي يدٍ في هذه القضية؟”
لسبب ما، شعرت وكأنني المتهمة لا الشاهدة.
نظرت إلى جوزيف بطرف عيني، فوجدته يبتسم ابتسامةً مزعجة. وعندما أدرك أنني أنظر إليه، حرك شفتيه،
غ، ب، ي، ة.
‘لا يمكنني التخلص منه هنا علناً، للأسف.’
زفرت بعمق وأنا أحدق به بنظرةٍ حادة.
“إن لم يكن هناك دليل، فبسبب نقص الأدلة، سيتم إعادة فتح التحقيق-”
في تلك اللحظة.
“هناك دليل.”
جاء الصوت من جهة مدخل قاعة المحكمة. وفي لحظة، التفتت رؤوس الجميع نحو المصدر، وظهر من بين الناس شخص لم يكن سوى كاين نفسه.
وبينما كان ولي العهد، الملك القادم، يتقدم بخطى ثابتة، بدأ الناس يتهامسون بينهم بدهشة.
لكن كاين واصل حديثه وكأن الأمر لا يستحق التوقف عنده.
“سيدي القاضي المحترم، هذه إفادةٌ خطّية من أحد شركاء جوزيف ميليانو، يعترف فيها بأن كل ما حدث كان من تدبير جوزيف وحده. أود تقديمها كدليل.”
“حتى وإن كنت أميراً، فمن الصعب قبول دليلٍ لم يتم تسجيله مسبقاً.”
“سأستدعي صاحب الإفادة كشاهد.”
وما إن أنهى كاين كلامه، حتى دخل الحراس ومعهم رجل بدا واضحاً من ملامحه وتصرفاته أنه ليس في كامل وعيه.
أطلق القاضي صوتاً خافتاً يدل على الضيق وهو يراقب المشهد، ثم أومأ برأسه. و عندها، تقدم أحد الواقفين بجانب القضاة، وأخذ الإفادة من كاين وسلمها للقاضي.
‘متى جهز هذا كله؟’
كنتُ مذهولةً تماماً، أحدق في كاين دون وعي. و عندما شعر بنظراتي، التفت فجأة، والتقت أعيننا في الهواء.
ابتسم بخفة وغمز بعينه، ثم رفع إبهامه نحوي بطريقةٍ لا يراها أحدٌ سواي.
كتمت ضحكتي بصعوبة، حتى أنني عضضت شفتاي السفلى.
“فهمت الآن.”
قال القاضي ذلك وهو ينظر إلى الإفادة التي وصلت ليده، وقد ظهرت على جبينه تجاعيد خفيفة تدل على التركيز، ثم التفت ليتحدث مع اثنين من القضاة الآخرين، قبل أن يبدأ بالكلام.
“سأنطق بالحكم.”
عند صوت القاضي، صرفت نظري عن كاين.
بينما كنت أترقب كلماته، مسحت راحتي المبللتين بالعرق على ملابسي. و شعرت بتوترٍ مفاجئ، فتنفست بعمق وابتلعت ريقي.
“بناءً على ثبوت سبع تهم، منها إهانة العائلة الملكية والخيانة العظمى، وبحسب قانون المملكة، يُحكم على جوزيف ميليانو بالسجن ثمانية وأربعين عاماً في سجن غروتون، بالإضافة إلى الإعدام.”
______________________
هاعا 48 سنه😭 عز الله فطس قبل الاعدام
شسمه زين ان إيدن هادي للحين بس شكله هدوء ماقبل العاصفة
المهم خلصت القضيه بسرعه هاهاعا
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 21"