شعرٌ وردي يتمايل بلطفٍ مع نسيم الربيع. و عينان زرقاوان عميقتان كبحيرةٍ ساكنة.
صوت ساحر، ناعم بلا حدود لكنه حازمٌ في الوقت نفسه.
كان كاين يبدو غريبًا على نحوٍ ما اليوم.
ربما لأني اعتدت رؤيته دائمًا بملابس مريحة تحت رداءٍ خارجي، فكان من الغريب رؤيته يرتدي زي البلاط الملكي داخل القصر.
حتى ابتسامته، برفع زاوية فمه، بدت مختلفةً عن المعتاد.
“أحيّي شمس المملكة الصغيرة.”
قال إيدن ذلك وهو ينحني لتحيته.
صوته فاجأني قليلًا، فأمسكت بطرف فستاني وانحنيت مؤديةً التحية بأدب.
“فف..…”
‘…..ما هذا الصوت؟’
سمعت ضحكةً خفيفة فوق رأسي، فرفعت بصري، لكن كاين كان لا يزال ينظر إلينا مبتسمًا بتلك الابتسامة الغريبة.
“لا بد أنكم تعبتم من عناء الطريق الطويل. لقد أعددت بعض الضيافة المتواضعة لأجلكم، فآمل أن تستمتعوا بها.”
حتى طريقته في الحديث كانت غريبةً بعض الشيء. ربما لأنها المرة الأولى التي أراه فيها بهيئة ولي العهد؟
الشخص الذي كان حتى البارحة يبدو كصديقٍ قريب، أصبح فجأةً وكأنه بات بعيدًا عني.
قادنا كاين، برفقة خادمه، إلى الحديقة الخارجية.
وعلى الرغم من أن الوقت لا يزال مبكرًا من السنة، إلا أن حديقة القصر كانت تزدهر بأزهار الربيع من كل الأنواع. وفي وسطها، كان هناك جناحٌ أبيض كبير.
كان المشهد جميلًا بشكلٍ يفوق الوصف، حتى أنني وقفت أتأمله مسلوبة الحواس.
“هذا هو المكان المفضل لدي في القصر. آمل أن يروق للآنسة كوينيارديل كذلك.”
قال كاين ذلك وهو ينظر إليّ وإلى الحديقة بالتناوب. فأجبت كما لو كنت واقعةً تحت تأثير سحرٍ ما،
“إنه حقًا جميل…..كنت أظن أن مناظر كهذه لا يمكن أن تُرى إلا في أرديل.”
مقاطعة أرديل، التابعة للكونت، معروفة بمناظرها الخلابة المنتشرة في كل أرجائها، حتى أن حديقة قصر كوينيارديل كانت تعد من أشهر معالم أرديل.
وكان هذا المكان يضاهيها في الجمال.
القصر الملكي، بلا شك، عالمٌ مختلف.
“تفضلي بالجلوس.”
تعامل كاين وكأنه يراني للمرة الأولى، لكنه رغم ذلك أحسن ضبط حديثه حتى لا أشعر بعدم الراحة.
كانت حفلة الشاي التي ظننت أنها ستكون محرجة، ممتعة على نحوٍ غير متوقع. ولكن، لا بد أن دعوته لي لم تكن فقط لأجل أحاديث عابرة كهذه…..
رفعت فنجان الشاي ونظرت إلى كاين بطرف عيني. وما إن التقت أعيننا، حتى ابتسم بخفة بطريقةٍ لم يلحظها إيدن، مطويًا عينيه بلطف.
‘ما الأمر؟’
غطى كاين فمه بيده وسعل مرتين.
هل كان ذلك نوعًا من الإشارة؟
بدأ الخدم يتحركون بانشغالٍ على الفور. ولم تمضِ لحظات حتى اقترب خادمٌ يبدو متقدمًا في السن.
“سموّ الأمير، جلالة الملك أرسل أمرًا بأن يُحضر السيد هايفن إلى مكتبه. قال أنه من غير اللائق أن يدخل القصر دون أن يُظهر وجهه، وقد بدا عليه الاستياء الشديد.”
عندها التفت كاين إلى إيدن وقال وكأنه كان بانتظار ذلك،
“آه…..لم أرد أن أزعجكَ، لذا لم أذكر شيئًا، لكن يبدو أن لا شيء يفلت من نظر جلالته. لا تقلق بشأني، اذهب على الفور.”
وحين أنهى كلامه، ابتسم بابتسامةً ناعمة كعادته.
ذلك التصرف المألوف منه جعلني أشعر براحةٍ غير متوقعة.
شدّ إيدن على شفتيه ونظر إليّ بطرف عينه. فرمقه كاين بنظرةٍ حزينة، كجرو صغير مجروح، وتحدث بنبرةٍ ناعمة،
“هل تقلق من أن أفعل شيئًا للآنسة كوينيارديل؟ بعد كل الوقت الذي قضيناه معًا، هذا مؤلمٌ قليلًا، كما تعلم.”
“آه، لا، الأمر ليس كذلك. فقط لأن إيرفين كانت ضعيفة البنية منذ صغرها وكان من الصعب عليها الخروج، شعرت بالقلق فحسب. أعتذر.”
“كان من الصعب عليها الخروج..…؟”
تمتم كاين وكأنه يحدث نفسه بينما يرمقني بنظراتٍ جانبية.
صحيح أنني التقيته أول مرة أثناء تجولي وحدي في غابة تخرج منها الوحوش.
وصحيحٌ أنني كنت أتنقل بسهولة إلى برج السحر وأراه هناك.
لكن، هل كان عليه أن يميل رأسه بهذا الشكل وكأن الأمر غير قابل للفهم تمامًا؟
نظرت إليه بنظرةٍ حادة دون أن يلاحظ أحد.
“سأعود بسرعة إذاً. إيرفين، إن شعرتِ بأي سوء، تعالي إليّ فورًا، مفهوم؟”
“نعم، فهمت. عد بخير.”
نظر إليّ إيدن بعينين مليئتين بالقلق، ثم بدأ يخطو مبتعدًا. وقبل أن يختفي تمامًا، ظل يلتفت إلى الخلف مرارًا.
أبعد كاين الحراس والخدم من حوله.
“هلّا تركتمونا قليلًا؟ لدي أمرٌ أود التحدث فيه مع الآنسة كوينيارديل.”
غادر الجميع، ولم يبقَ في الحديقة سوانا. وبما أنني لا أعلم متى قد يعود إيدن، بدأت الحديث مباشرة،
“قرأت الرسالة التي تركتها في غرفتي.”
“آه! أثناء توجهي لوضعها هناك، كدت أسقط من الشرفة! لقد كنت على وشك الموت حقًا!”
عاد كاين إلى هيئته التي عرفتها، وكأن شيئًا لم يكن.
أخبرني بنفسه عما حدث حين كاد أن يسقط من علو طابقين، قائلاً أن ركبته أصيبت. وكان يبالغ قليلًا ويقول الأمر بطريقةٍ مرحة، مما جعلني أضحك دون أن أشعر.
ابتسم كاين وهو يراني أضحك وأكتافي تهتز.
“حين دخلتِ القصر أول مرة، كانت ملامحكِ جامدة، فظننت أن هناك أمرًا يزعجكِ. يسعدني رؤيتكِ تضحكين هكذا الآن.”
“كحم! وأنا أيضًا شعرت ببعض الغرابة لأن سموكَ بدوت مختلفًا عن المعتاد، وربما لهذا تصرفت بتلك الطريقة.”
عصفت ريحٌ قوية فبعثرت شعر كاين. ثم ابتسم ابتسامةً عريضة وهو يعبس عمدًا وكأنه شعر بالحرج من كلامي.
صرت أتفهم كيف يختلف تصرفه معي عن تصرفه أمام إيدن أو الخدم. فهو لم يستطع النوم جيدًا منذ صغره بسبب المسؤولية والضغط بصفته أميرًا.
بالإضافة إلى ما ذكره سابقًا، أن كل من يقترب من كاين كان دائمًا يملك نيةً خفية، ولهذا لم يكن من السهل عليه أن يثق بأي أحد.
“لأدخل في صلب الموضوع، كما قلتِ، لقد تم التأكد من وجود جوزيف في زقاق ريدن. ومن كانوا معه أيضًا من أولئك الذين يحملون الضغينة تجاه العائلة المالكة منذ زمن. لقد بدأنا بالتحقيق مجددًا بشأنهم، وسيكون القبض عليهم سهلًا. وكل هذا بفضلكِ.”
“هذا مطمئن.”
“نعم. وبما أننا نتحدث عن الأمر، هل هدفكِ هو استعادة قصر كوينيارديل؟”
كان هدفي دائمًا واحدًا. أن أنجو…..وأواصل العيش.
لكن لو قلت ذلك، لأصبحت الأجواء ثقيلةً فجأة.
لذا ابتسمت ابتسامةً خفيفة وأومأت برأسي.
“نعم. أريد استعادة القصر والإقطاعية التي كان يعتز بها الكونت السابق.”
“جيد. لقد قدمتِ لي وللعائلة المالكة مساعدةً كبيرة، لذا سأكون عونًا لكِ متى احتجتِ. أما عن الاتفاق الذي أُبرم بيننا…..فمن الأفضل أن نناقشه لاحقًا.”
اتجهت نظرات كاين نحو ما وراء الحديقة. وعندما تبعتُ نظره، رأيت إيدن قد عاد في وقتٍ أبكر مما كنت أتوقع.
وبعودة إيدن، انقطعت المحادثة.
تبادلنا بعض الأحاديث غير المهمة، ثم صعدتُ مع إيدن إلى العربة من جديد.
وقبل أن تنطلق العربة، التقت عيناي بعيني كاين، فرأيت شفتيه تتحركان.
‘إلى اللقاء.’
وبينما كان يبتسم بتلك الابتسامة المشرقة، راودتني فكرةٌ لا معنى لها.
…..يا له من شخصٍ يليق بفصل الربيع.
***
منتصف مارس. كان هذا اليوم بالنسبة لجوزيف مجرد يومٍ آخر لا يختلف عن غيره.
كان يحتسي الشاي بعد الطعام ويقرأ الصحيفة، حين عبس وجهه فجأة وراح يشتم بغضب.
“اللعنة! امتلأت مرة أخرى بالكلام عن العائلة المالكة ودوقية هايفن! أولاد الأفاعي المخادعون.”
نقر لسانه بغضب ثم رمى الصحيفة على الأرض.
أسرع الخادم الذي كان يقف بجانبه يراقب مزاجه في صمت، فالتقط الصحيفة بسرعة.
ربما ما كان عليه أن يفعل ذلك. إذ إن جوزيف، وقد غلبه الغيظ، انهال على رأسه بلكمة.
“آااخ!”
أطلق الخادم أنينًا قصيرًا، لكن جوزيف ازداد غضبًا.
“تتجرأ على إصدار صوتٍ بعد أن وقفتَ أمامي دون أن تُراعي مقامكَ؟ يا عديم الفائدة. ماذا تنتظرون! اسجنوه في زنزانة انفرادية، لا طعام ولا شراب لمدة أسبوع!”
ثم نهض من مكانه بغتةً وغادر غرفة الطعام.
يا له من صباحٍ مشؤوم.
اتجه جوزيف إلى مكتبه محاولًا تهدئة الغليان الذي يشتعل بداخله. فعندما يغضب بهذا الشكل، لا يرتاح إلا إذا تأكد أن خططه تسير كما أراد.
وما إن دخل مكتبه، حتى بدأ يقلب في الأدراج مباشرة.
“غريب…..لماذا هذا الشيء بالذات غير موجود؟ هل وضعته في مكانٍ آخر؟”
مال برأسه متسائلًا وهو يفتش في أماكن أخرى.
ثم طرق أحدهم باب المكتب بعجلة. ففزِع جوزيف وارتبك، وراح يكدّس الأوراق المبعثرة بعشوائية داخل الدرج.
“من هناك!”
“سيـ، سيدي…..هناك ضيفٌ يطلب مقابلتكَ.”
ارتجف صوت الخادمة، فشعر جوزيف بقشعريرةٍ تسري في ظهره.
شعر بشعورٍ غريب بعدم الارتياح. كان إحساسًا لم يراوده منذ زمنٍ بعيد.
‘هل مرّت عشر سنوات منذ تلك الحادثة التي مات فيها أخي؟ يا لسخافة الأمر.’
فتح جوزيف باب المكتب بعنف، فرأى خادمةً صغيرة تقف مرتجفة.
‘حتى فتاةٌ تافهة كهذه أصبحت تثير غيظي.’
زفر جوزيف زفرةً طويلة وتابع سيره. وعندما وصل إلى المدخل، أدرك أخيرًا سبب شعوره العميق بالقلق.
“جوزيف ميليانو، سيد أسرة كوينيارديل الحالية. سيتم اعتقالكَ حالًا بتهمة إهانة العائلة المالكة والتآمر للتمرد.”
صرخ جوزيف غاضبًا، محاولًا تهديد الحراس الذين اقتربوا منه.
“ما هذا الهراء! هل تعرفون من أنا؟ لن تكسبوا شيئًا من فعلتكم هذه! أتدرون ما هي كوينيارديل؟!”
“كلما تماديتَ في هذا، زادت الأمور سوءًا بالنسبة إليكَ. هناك مُبلّغ قدم أدلة على جرائمك.”
“ماذا؟ من هو؟!”
سُمع صوت أقدام خفيفة خلف الحراس. ثم ظهرت إيرفين برأسها من بين صفوفهم، فما كان من جوزيف إلا أن فتح فمه من الذهول.
“أنتِ…..كيف…..كيف وصلتِ إلى هنا؟!”
نظر إليها جوزيف بوجه خالٍ من الأمل، مذهولًا. أما هي، فردّت عليه بتحيةٍ عادية وكأن شيئًا لم يحدث.
“مرحبًا، عمي!”
انعقدت عينا إيرفين بمكرٍ وهي تتابع الحديث بوجه بريء وجميل.
“إنه يوم رائع لتُعتَقل فيه، أليس كذلك؟”
______________________
يوم رايع جدا😭
يجنن كاين رايق اطلق امير 🤏🏻
بس للحين ماركب راسي امير وشعره وردي اركد
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 20"