‘لم أعد أتحمّل أكثر!’
شعرت بوضوح بقوة قبض يد دانتي على ظاهر يدي، ولم أتمالك نفسي ففتحت عيني فجأة.
كيف استمرت تلك اللحظة القصيرة التي بلغت فيه كل الحواس أقصى حد لها؟
كان دانتي يستخدم السحر في تلك اللحظة. و شعرت بالإحساس الغريب نفسه كما في المرة السابقة.
بدأ ذلك الإحساس غير المألوف من ناحية القلب، يدغدغ باطن قدمي، ثم اندفع صاعدًا ليصل إلى قمة رأسي.
ما اختلف هذه المرة هو أن هذا الإحساس لم يكن جديدًا، وكان أكثر قسوةً من ذي قبل.
“آه!”
شعرت وكأن أحدهم يعبث بأحشائي ويرهقها من الداخل. و عندما عبست لا إراديًا، بدأ كايدن يضرب الأرض بقدميه بقلق.
رغم أنني شعرت بالغثيان، إلا أن الألم لم يكن بمثل ما أعتدت عليه. للن أفقد الوعي بهذا القدر.
وبينما كنت أستوعب ما يحدث، انتقل الإحساس الغريب إلى كفّي. ثم اختفى الألم الذي كنت على وشك الاعتياد عليه، وانبثق نورٌ ساطع من يدي.
“واو..…!”
بدأ ذلك الضوء الأبيض الناصع يتسلل تدريجيًا إلى داخل الزجاجة وكأنه مسحور. ثم في لحظة، انبعث وميضٌ قوي جعل فتح العينين أمرًا شبه مستحيل.
بعد ذلك، تغيّر لون السائل داخل الزجاجة من البني الغامق إلى أخضر لامعٍ فاتن. كان جماله يخطف الأنفاس.
ويبدو أن الأمر قد انتهى، إذ سحب دانتي يده. وعندما انفصلت يده الكبيرة التي كانت تحيط بيدي، شعرت ببرودة الهواء يلامس جلدي.
وفي اللحظة نفسها، اهتزت الزجاجة بلطف، واصطدمت حركة السائل داخلها بجدرانها بصوتٍ خافت.
“جميل. من المدهش كيف تغير لونه هكذا.”
“لقد وضعتُ قدرًا لا بأس به من قواكِ السحرية فيه، لذا سيكون فعّالًا. لهذا ربما شعرتِ ببعض الصعوبة، هل أنتِ بخير؟”
ألهذا السبب شعرت بأن معدتي تنقلب؟
“أنا بخير. هذا الألم لا يُقارن بما أعتاد عليه عادة.”
في تلك اللحظة، قاطع كايدن الحديث فجأة.
“مع، مع ذلك، عليكِ أن ترتاحي لعدة أيام على الأقل. الألم الناتج عن استخدام شخص آخر لقواك السحرية قد يكون شديدًا. ربما لا تشعرين به الآن.”
“شكرًا لاهتمامكَ.”
كنت منشغلةً بالتحديق في السائل المتلألئ داخل الزجاجة، فلم أعر قلق كايدن اهتمامًا كبيرًا.
“جميلٌ حقًا.”
***
وضعت منوّمًا تم تصنيعه بصعوبةٍ بعناية وانطلقت نحو قصر الدوق هايفن.
ربما بسبب كل ما حدث خلال اليوم، بدأت أشعر بالنعاس الشديد. وقبل أن أتمكن حتى من إغماض عيني، اهتزت العربة بعنف.
“آااه..…! م، ماذا يحدث؟”
“هل أنتِ بخير يا آنسة إيرفين؟”
“ن، نعم، أنا بخير. لكن ما الذي حدث؟”
هل هاجمنا قطاع طرق؟ ولماذا في هذا اليوم تحديدًا الذي لم أحضر الحرس معي؟
أقبل السائق وهو يلهث نحو العربة ليتفقد حالتي ويشرح الموقف.
“شـ، شخصٌ ما خرج فجأةً إلى الطريق، فاضطررت للتوقف بشكلٍ مفاجئ. أعتذر.”
“ماذا؟ شخص؟!”
أسرعت بالخروج نحو مقدمة العربة. و كان أمام الحصان الذي ما زال ينتحب مرتعشًا، رجل جاثٍ على ركبتيه، يغطي جسده برداءٍ واسع.
“هـ، هل أنت بخير؟”
خطوت نحوه محاولةً الاقتراب، لكنني توقفت فجأة.
‘ذلك الرجل…..يحمل سيفًا. هل هو قاطع طريق؟ أم قاتلٌ مأجور؟’
لا يمكن لسائق العربة، ولا لي أنا التي لا تجيد استخدام السحر، أن نواجه قاتلًا مسلحًا.
لذا لم أقترب أكثر، بل بقيت على مسافةٍ أراقب الرجل الغامض منتظرةً أن يستعيد وعيه.
لا أعلم كم من الوقت مضى، حينها بدأ جسده يرتعش بقوة.
“آه!”
فزعت وكدت أصرخ، لكنني كتمت الصوت بصعوبة.
و بعد أن ارتجف عدة مرات، فجأة مال بجسده إلى الخلف، ثم رفع ذراعيه عاليًا وفتح فمه على مصراعيه.
“هاااااام.…”
الرجل أطلق تثاؤبًا طويلًا بكل راحةٍ وطمأنينة.
كان نائمًا؟ في لحظةٍ كان من الممكن أن تصدمه فيها العربة؟
وبينما كان يمد جسده بتكاسل ويتثاءب، لمحني واقفةً على بُعد.
“آه! هل أنتِ صاحبة هذه العربة؟”
كان يضع غطاء الرأس بعمق، فلم أتمكن من رؤية وجهه، و كل ما رأيته كان فمه المتسع من التثاؤب.
نهض من مكانه بهدوء، وبدأ ينفض الغبار عن بنطاله. ثم تقدم نحوي.
“هل يمكنكِ إيصالي إلى القرية؟ أقسم أنني لستُ شخصًا غريب الأطوار، فقط تائهٌ ضائع لا أكثر.”
لكنه بدا مريبًا جدًا لدرجة لا يمكن إنكارها، خاصةً أنه يحمل سيفًا باهظ الثمن وسط هذه الجبال النائية.
ربما لاحظ نظراتي المرتابة نحو مقبض السيف، إذ تحدث مبتسمًا دون أن تفارق الابتسامة وجهه،
“لا تقلقي، هذا السيف مجرد زينةٍ لأخيف به قطاع الطرق. لا يمكنني التجول وحدي في هذا الجبل العميق من دون سيف، أليس كذلك؟”
اقترب حتى لم يتبقَ بيننا سوى خطوة، ثم وضع يده على فمه وهمس.
“قد يكون محرجًا قولها بصوت عالٍ، لكنني في الحقيقة لا أجيد استخدام السيوف.”
كذب. هذا الرجل يجيد استخدام السيف، بل يبدو محترفًا فيه أكثر من أي شخصٍ آخر.
رغم أنني لا أملك خبرةً عميقة بالسيوف، إلا أن حركاته تشبه تمامًا الدوق هايفن الشهير بفنون السيف، وحتى إيدن.
بنية جسده، عضلاته، وحتى خطواته…..
‘لماذا يكذب إذًا؟ ما السبب وراء هذا الادعاء؟’
كانت هناك الكثير من الأمور المريبة. وبينما لم أجب عليه بتسرّع، بادرني الرجل بالكلام.
“إن كان وجود السيف يثير قلقكِ، فسأتخلّى عنه. حياتي أهم من هذا السيف.”
ثم، وكأنه جادّ فعلًا، أخرج السيف من خصره دون أي تردد.
“مـ-مهلًا لحظة!”
توقف وهو ما زال ممسكًا بمقبض السيف قبل أن يُسقطه، ونظر إليّ بوضعية ٍمربكة.
“لا ترمه، فقط أعطه للسائق. يبدو ثمينًا.”
الشمس على وشك أن تغيب تمامًا، وسرعان ما سيحلّ الظلام. هذه المنطقة بعيدةٌ عن برج السحر، وقد تظهر فيها الوحوش أو الحيوانات البرية.
صحيحٌ أن الرجل غريب ومريب، لكن لو تركته هنا، فلن أتوقف عن التفكير لاحقًا: هل نجا؟ أم مزّقته الوحوش؟
والأغرب من ذلك، أنني لا أشعر إطلاقًا بأنه رجلٌ خطر.
“شكرًا لكِ، آنستي.”
وعندما يظهر منه بين الحين والآخر هذا الجانب النبيل، تزداد شكوكي.
هو يتعمّد التحدث ببساطة وإخفاء هويته، لكن حركاته وتصرفاته كلها مشبعةٌ بآداب المجتمع الأرستقراطي. فهل لا يدرك ذلك؟ أم يظن أنني لن ألاحظ؟ أم أن له هدفًا من كل هذا؟
“اصعد.”
وهكذا، قررت مرافقة ذلك الرجل المريب. و انطلقت العربة بسرعة نحو القرية.
“ما الذي جاءت آنستي من أجله إلى أعماق هذا الجبل؟ هذا المكان معروفٌ بخروج الوحوش الضخمة، هل كنتِ تنوين الصيد؟ بما أنكِ لا تصطحبين سوى سائق لا يمتلك أي قوة، فلا بد أن لديكِ قدراتٍ خفية، أليس كذلك؟ ربما تحبين فنون القتال؟ يبدو أنكِ تملكين سحرًا مختلفًا عن مظهركِ.”
بعد صعوده إلى العربة، بدأ الرجل بإلقاء سيلٍ من الأسئلة. أما أنا فلم أنطق بكلمةٍ واحدة.
ومع ذلك، لم يُظهر أي علامة على الانزعاج أو الضيق، بل ظل يبتسم بلطف، وما يزال يُخفي وجهه تحت غطاء الرأس العميق.
نعم، ذلك الغطاء. لم يعجبني ذلك الغطاء على الإطلاق.
أنا أُظهر وجهي بالكامل، فلماذا هو يُخفي نفسه بهذا الشكل؟
“إن كنت تنتظر مني أي إجابة، فلتخلع هذا الرداء أولًا. لا أرغب في الحديث مع شخصٍ مريب.”
“هذا…..سيكون صعبًا بعض الشيء.”
“إذًا اصمت.”
رمقته بنظرةٍ حادة نحو ذلك الغطاء المزعج، ثم أدرت وجهي بعيدًا.
وبينما كنت أراقب من نافذة العربة المناظر المتغيرة بسرعة، سمعت فجأة صوتًا مكتومًا من الجهة المقابلة، وكأنه يكتم أنفاسه.
“سواء عرفتِ من أكون أم لا…..عليكِ أن تتظاهري حتى النهاية بأنكِ لا تعرفينني.”
كانت بمثابة تحذير. تحذيرٍ يقول: “لن تجني شيئًا إن حاولتِ التظاهر بأنكِ تعرفينني.”
وكانت أيضًا ثقةً مفرطة بلا مبرر. فهو لم يمنحني حتى احتمال أنني قد لا أعرفه.
“حسنًا. سأفعل.”
فلنرَ إذاً، من أي بيتٍ نبيل أتى هذا المدلّل.
أمسك الرجل بطرف غطاء الرداء. لكنه بدلاً من أن يرضي فضولي، تردد واكتفى بإثارة المزيد من الأسئلة.
كان يحاول أن يرفعه للخلف ثم يضحك بمرارة، و يشد عليه بيده ثم يتركه في اللحظة التالية.
تابعته وأنا أراقبه بشيء من التوتر، إلى أن نفد صبري فجأة ووقفت بغضب.
“آه، لقد نفد صبري فعلًا!”
ومددت يدي لأزيح الغطاء عن رأسه دفعةً واحدة. عندها ظهرت خصلات شعرٍ وردي ناعم ومنتفش.
“هاه.…!”
شهق الرجل بقوة.
وتحت ذلك الشعر الذي يشبه غزل البنات، التقت عيناي بعينيه اللتين تشعّان بلون بحيرةٍ عميقة.
“أنتَ.…”
تحركت شفتاي من تلقاء نفسها. هذا الرجل، أنا متأكدة…..متأكدة….
‘من يكون؟’
كان شخصًا لم أره من قبل.
تبادلنا النظرات لبعض الوقت، ثم جلست في مكاني بتنهيدة عاجزة.
“آنستي؟”
لا، لا يمكن أن يكون لقاؤنا الأول. رغم ملامحه الغريبة، هناك شيءٌ فيه يبعث على الألفة.
لابد أنه شخص التقت به إيرفين في صغرها.
“آنسة كوينيارديل.”
إنه يعرف اسمي الكامل بدقة. لا بد أنه شخص يعرفني جيدًا.
لكن، رغم كل محاولاتي في استرجاع الذاكرة، لم أتمكن من تذكره. وربما لاحظ نظرتي الحائرة، إذ مال برأسه قليلًا وسأل،
“ألّا تذكرين من أكون؟”
أومأت برأسي، فغرق في نوبة ضحكٍ كبيرة، حتى أنه انحنى على مقعد العربة وضحك بصوتٍ مرتفع.
انتظرت حتى هدأ ضحكه، ثم سألته،
“إن كنا قد التقينا من قبل، فأعتذر، لكنني لا أتذكر على الإطلاق. هل يمكنني معرفة اسمكَ؟”
“ههه…..ألم أخبركِ قبل قليل؟ سواء عرفتِني أم لا، عليكِ التظاهر حتى النهاية بأنكِ لا تعرفينني.”
رغم أنه مسح دموع الضحك من عينيه وهو يكرر كم أن الأمر مضحك، إلا أن عينيه كانتا تلمعان ببرودةٍ قاتلة.
هل يعني هذا أنه لا يريدني أن أسأل؟
“أليس هذا غير عادل؟ أنت تعرف اسمي، بينما أنا لا أعرف اسمكَ.”
“ذلك لأنكِ أنتِ من نسيتي من أكون، يا آنستي.”
كلامه صحيح…..وأنا أعلم ذلك!
كنت على وشك قول شيءٍ آخر لمحاولة معرفة اسمه، لكن العربة توقفت فجأة.
“آنستي، لقد وصلنا إلى مدخل القرية. ما الذي تودين فعله؟”
“تابع السير فورًا! يجب أن نحبسه هنا هذا الرجل-!”
لكن الرجل، الذي ظل يبتسم طوال الوقت، استغل توقف العربة وقفز عبر النافذة إلى الخارج.
كان سريعًا جدًا، لم أتمكن حتى من الإمساك به.
“في المرة القادمة التي نلتقي فيها، ستعرفين اسمي، يا آنستي”
لم يبقَ لي سوى النظر إلى ظهره وهو يبتعد، بعد أن استعاد سيفه وغطى رأسه مجددًا.
“أنا متأكدةٌ أنني رأيته من قبل..…”
________________________
شكله طرف ثالث؟ ولا الامير نفسه؟ بس يضحك واضح فرفوش بس قوي 😂
كايدن ينرفزني بس شخصيته تذكرني بالمسحوب عليه في كل مكان بس هو حليو
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 13"