84
***
اختفى الأطفال للعب، وبدأت أغنيس وديزي في الدردشة.
كانت معظم الأحاديث تدور حول أمورهم اليومية وفساتين الموضة الأخيرة، وأحاديث عن العاصمة إيتارلين.
كلاهما كان أكثر ارتياحًا وأرخى حذره. فأغنيس لم تعد تتعرق. و يبدو أن شخصيتها تظهر توترها من خلال عدم قدرتها على الجلوس بهدوء.
ربما لهذا السبب تعيش حياةً هادئة في الأوساط الأرستقراطية.
كارليكس كان يكتفي بالإصغاء دون أن يضيف شيئًا. و أحيانًا كان يضيف فقط كلماتٍ بسيطة للموافقة.
عندما استمرت المحادثة في التطرق إلى موضوعاتٍ يومية، أخذت أغنيس تراقبهم بنظراتها.
ساد الصمت قليلاً قبل أن تتحدث.
“يقال أن إمبراطوريتنا تعيد النظر في القوانين لتطوير التجارة. فبالرغم من وجود تجارةٍ حاليًا، إلا أن البضائع والكميات محدودة.”
تباعدت شفتي ديزي قليلاً. كان هذا شيئًا تسمعه لأول مرة.
إمبراطورية أباريلبان تشتهر بإجراءاتِ الهجرة الصارمة مقارنةً بالإمبراطوريات الأخرى، سواء كان الأمر يتعلق بالأشخاص أو البضائع، فهي تسعى دائمًا للحفاظ على نقاء ما يخصها.
“حقًا؟ إمبراطوريتنا لطالما حرصت على تقليل التبادل مع الإمبراطوريات الأخرى إلى الحد الأدنى.”
“ربما بدأت التغيرات تحدث شيئًا فشيئًا. فالإمبراطوريات الأخرى بدأت بالفعل في تعزيز التبادل فيما بينها وجني الفوائد، وإذا بقينا مكتوفي الأيدي، سنتخلف عن الركب.”
كان ذلك صحيحًا.
بينما كانت إمبراطورية أباريلبان تظهر رفضها للتجديد، كانت الإمبراطوريات الأخرى تتجاوز هذا التحدي تدريجيًا.
بالطبع، كانت هناك إمبراطورياتٌ أخرى بقيت مثل أباريلبان، لكن عددها كان يتناقص بمرور الوقت.
“في السوق الدولية الأخيرة، واجه التجار من أباريلبان صعوبة في المنافسة مقارنةً بتجار الإمبراطوريات الأخرى. وعندما وصلت هذه الأخبار إلى الإمبراطور، يبدو أنه أدرك الحاجة إلى اتخاذ بعض الإجراءات.”
ضغط التخلف عن الركب لم يكن شيئًا يمكن تجاهله ببساطة.
ومع ذلك، كان هذا الأمر مفاجئًا. سواء من حيث محاولة الإمبراطور تقبل التغيير، أو من حيث حديث أغنيس عن كل هذا.
زوج أغنيس كان رئيسًا لقافلةٍ تجارية تدعى “رافارتيو”، وهي واحدةٌ من القوافل الكبرى في إمبراطورية أباريلبان.
كان من المعروف أن مواطني الإمبراطورية جميعهم على درايةٍ بهذا الأمر، لذا فإن التفسير الذي قُدّم للتو لا بد أن يكون صحيحًا.
كانت معلومةً نادرة.
بينما كانت ديزي مترددة وتهمّ بطرح سؤال، فتحت أغنيس شفتيها وتحدثت بهدوء.
“شخصيًا، أتمنى أن تصبح التبادلات أكثر نشاطًا. إمبراطورية أباريلبان تبدو وكأنها جزيرةٌ معزولة، كل شيء فيها محدود للغاية.”
“سيدة أغنيس، هل تريدين أن تتحسن صورة قافلة رافارتيو التجارية؟”
في إمبراطورية أباريلبان، لم يكن يُنظر إلى مهنة التاجر باحترامٍ كبير. حتى مع نمو هذا المجال بشكلٍ كبير، لا يزال يُعتبر مهنةً متواضعة.
في الماضي، كان على التجار التعامل مع العديد من المخاطر أثناء تجارة البضائع ونقلها. و كانت طبيعة عملهم تتطلب مواجهة ظروفٍ خطيرة تعرض حياتهم للخطر مرارًا وتكرارًا.
وفي نهاية المطاف، كانت النتيجة هي جلب بضائع من إمبراطوريات أخرى. ولهذا السبب، كانت إمبراطورية أباريلبان تنظر إلى هذا الأمر باستخفاف، وتعتبره تافهًا.
لذلك، على الرغم من أن التجار يسهمون بشكلٍ كبير في تنشيط الاقتصاد، إلا أنهم كانوا يتلقون معاملةً باردة نسبيًا.
“……ليس هذا فقط.”
“إذاً، ما السبب الآخر؟”
كان السؤال مباشرًا.
في تلك اللحظة، مرّ طيفٌ من اليأس على وجه أغنيس. عندها أدرك الجميع الحقيقة.
مرض شارلوت لا يمكن شفاؤه بالطب الموجود في أباريلبان. فالأمل غير موجود تمامًا.
“……إذا أصبحت التبادلات أكثر نشاطًا وزادت التجارة، فلن تكون البضائع فقط ما يأتي إلى إمبراطوريتنا.”
“نعم، وسيأتي الناس أيضًا بشكلٍ متزايد.”
تسللت نبرةٌ من التعقيد إلى صوتها.
ابتسمت أغنيس ابتسامةً باهتة، وأخذت أغنيس تشرح بهدوءٍ وثبات، بينما كانت كتفاها ترتجفان قليلاً.
“كما قالت السيدة ديزي، لا أريد فقط البضائع، بل أتمنى أن تأتي إلينا مواهبٌ و قدراتٌ جديدة أيضًا.”
كانت الدموع تتجمع في عينيها أثناء حديثها، ثم انهمرت دمعةٌ واحدة، حارقة، على خدها.
تظاهرت ديزي بعدم ملاحظة تلك الدموع. وكان كارليكس بجانبها يفعل الشيء نفسه.
احترموا مشاعرها واستمعوا إليها كما كانت تفعل معهم.
“سيدتي، أظن أن الآنسة شارلوت بحاجةٍ للراحة الآن.”
كانت شارلوت، التي حملها الطبيب فيليب بين ذراعيه، تبدو مرهقةً للغاية. حتى ريفر، الذي كان بجانبها، بدا وكأنه يدرك حالتها، فلم يُظهر أي عناد.
أمسك بيد شارلوت بإحكام وقال لها برقة.
“لنلتقي مرة أخرى، شارلوت.”
بدلًا من الإجابة، ارتسم على وجه شارلوت شيءٌ يشبه الابتسامة.
بعد فترةٍ قصيرة، عاد كلٌ من صاموئيل ولوسيانا.
كان صاموئيل يمسك بطرف ثوب لوسيانا، لكنه في النهاية تركه وودعها.
“تعالي لنلعب مرة أخرى، لوسيانا. عديني بذلك.”
***
في وقتٍ مبكر من الصباح، كانت ديزي تقرأ مجلةَ الشائعات بينما تحتسي رشفةً من قهوتها.
استمتعت بيومٍ هادئ، وأغمضت عينيها للحظة. و عادت ذاكرتها الى لقاؤها الأخير مع أغنيس.
كان لقاءً مليئًا بالمفاجآت.
أغنيس، التي كانت تنظر إلى حديث ريفر وشارلوت بتعبيرٍ مليء بالتأثر، لم تتمكن في النهاية من منع دموعها من الانهمار.
كانت هي أيضًا قد شعرت بذلك. أن الأطفال ليسوا صغارًا كما يبدو.
شارلوت كانت تعاني من مرضٍ ما، وريفر أدرك أيضًا أن ما تعاني منه لم يكن مجرد نزلةٍ بردٍ عادية. ومع ذلك، اقترب منها بطريقتهِ الخاصة، متفهمًا ما تمر به.
أما شارلوت، فقد كانت مهتمةً فقط بعكاز ريفر ولم تُظهر أي شعورٍ بالمسافة أو الحذر تجاهه.
كانت براءتهم، التي يعجز الكبار عن احتضانها، تعطي كلًا منهما الراحة.
‘قالت أغنيس أنه مرضٌ نادر.’
شارلوت، التي كانت تتمتع منذ صغرها بنشاطٍ غير عادي، كانت طفلةً تركض وتلعب بحريةٍ حتى حلول الخريف.
لكنها بدأت تشعر بالمرض فجأة مع دخول موسم تساقط أوراق الشجر على النوافذ.
ذكرت أغنيس أنها في البداية لم تكن تنوي إخفاء الأمر، لكنها توقفت عن التفكير بذلك عندما أظهر شقيقها ترددًا وخشيةً من أن ينتقل المرض إليه من شارلوت.
وقد اعترف الطبيب فيليب، وهو طبيبٌ مشهور حتى في إمبراطورية أباريلبان، بأنه لا يوجد علاجٌ للمرض حتى الآن، لكنه أكد أنه ليس مرضًا معديًا.
ومع ذلك، لم يتغير سلوك شقيقها.
إذا كان أحد أفراد العائلة قد أبدى هذا النوع من السلوك، فمن الطبيعي أن تكون شارلوت قد شعرت بالصدمة.
لذلك، أصبح من المفهوم لماذا لم تكن أغنيس تتحدث عن المرض مباشرةً رغم صراحتها الزائدة في كثير من الأمور.
‘لحسن الحظ، أصبح للأطفال أصدقاء جيدون. إنهم جميعًا لطفاءَ للغاية.’
صاموئيل الجريء ولوسيانا الخجولة، ريفر المشرق و شارلوت المُبهجة.
تشابهاتهم واختلافاتهم كانت تبدو وكأنها تحمل معنى عميقًا، مما جعلهم ينسجمون معًا بشكلٍ رائع.
لو شُفيت شارلوت من مرضها، لكان الأمر مثاليًا، ولكن التفكير في الصداقة التي تتعمق بينهم كان كافيًا لجعل الوضع مُرضيًا في الوقت الحالي.
“ديزي.”
فتحت عينيها بسرعة. و الصوت الذي رنّ بالقرب منها وكأنه يلامس خدها جعلها تدرك مدى قربه.
“ماذا تفعل!”
متى اقترب بهذا الشكل؟!
كان أنفه على وشك أن يلامس خدها، مما جعل ديزي تشعر بالدهشة. فضربته بقبضتها على صدره.
بعد ثلاث ضربات، تراجع كارليكس ببطء.
“لماذا تقترب دون أن تُظهر أي إشارة؟ لقد أخفتني!”
ربّتت ديزي على صدرها بخفةٍ محاولةً لتهدئة نفسها، ونظرت إليه بغضب.
كارليكس، الذي كان ينظر إليها بهدوء، أجاب ببرود.
“القلب لا يسقط بسهولة.”
“رغم هذا، مع تراكم هذه التجارب، يمكن أن يسقط في النهاية، أليس كذلك؟”
في السابق، كانت تشعر بقدومه ولو قليلاً، لكن هذه المرة لم تستطع الإحساس بشيءٍ على الإطلاق.
لم تستطع التفكير سوى أن كارليكس تعمّد إخفاء وجوده أثناء اقترابه. لكنها لم تكن تعرف لماذا فعل ذلك.
“في المرة القادمة، أصدر صوتًا عند قدومك.”
“ظننت أنكِ نائمة.”
كارليكس، الذي جلس على طرف الطاولة أمامها، مدّ يده وأخذ مجلة الشائعات التي كانت بين يديها.
رنّ صوته الهادئ والمطمئن بينهما و كأنه يربّت على الأجواء.
“اقتربتُ بصمتٍ لأنني ظننت أنكِ نائمة. لدي شيءٌ لأقوله.”
“إذاً، كنت ستوقظني؟ يبدو أن الأمر عاجل.”
“لا. لم أكن أنوي إيقاظكِ. و الأمر ليس عاجلًا أيضًا. عندما ترتاحين، يجب أن أترككِ لترتاحي.”
كلما واصل كارليكس حديثه، ازدادت صعوبة فهم ما يريد قوله.
اقترب مني دون نيةٍ لإيقاظي؟ إذا لم يكن ينوي الا الجلوس بهدوءٍ، فما الغرض من ذلك إذاً؟
هل كان يحاول المزاح معي؟
رغم أنها كانت تعرف أن شخصيته ليست كذلك، وجدت نفسها تغطي وجهها بيدها بهدوء.
رفع كارليكس حاجبه عند رؤيته لذلك التصرف. و قرأ أفكارها وأمال رأسه يمينًا ويسارًا.
“لا تقلقي. خيالي ليس واسعًا بما يكفي لأفعل ما تفكرين فيه.”
“……سأصدقكَ. لكن ما الأمر؟”
لم يكن من المفترض أن يتحول الأمر إلى جدال. فمنذ لحظات، كانت عيناه البنفسجيتان تراقبان تعابير وجهها. يبدو أن لديه ما يقوله.
تنفس كارليكس بعمق قبل أن يتحدث.
“عاد الفارس بعد أن أنهى تحقيقه في مدينة كورك.”
بمجرد سماع تلك الكلمات، ارتعشت أطراف أصابعها بخفة.
لا يمكن للفرسان أن يبحثوا عن بريغين إلى الأبد. مهما كانت الظروف، كان من الطبيعي أن يعودوا.
حاولت ديزي أن تبقى هادئة.
“إذاً، هل وجدوه؟”
رأت شفتيه تفتحان ببطء. شعرت وكأنه على وشك أن يقول أنهم وجدوه. لكن ذلك كان مجرد شعورٍ لا أكثر.
لم تكن تعلم إذا كان ذلك الشخص يتنفس ويعيش، أو إذا كان جثةً بلا حياة.
في اللحظة التي عضت فيها شفتها السفلى، سمعت صوته الهادئ وهو يتحدث.
“بريغين على قيد الحياة.”
“ماذا! كنتُ أعرف! كنتُ أعلم أنه حي! لم يكن ليموت و يترك هايدن!”
كانت مشاعر القلق والتوتر التي تراكمت طوال الوقت تنفجر في تلك اللحظة.
و اختفى القلق وحلّ مكانه الفرح.
‘ستجمع هايدن وبريغين معًا.’
لكن لم يكن ذلك كل شيء. أخيرًا، سأكون قادرةً على صنع الساعة.
“هذا يكفي. غدًا، لا، ليس غدًا، بعد أربعة أيام، يجب أن-”
في تلك اللحظة، مدّ كارليكس يده بهدوءٍ نحوها، وسحبها نحوه.
لم تكن لمسةً كما كانت من قبل، لا لمسةً خفيفه حيثُ كان يلمسها وبتركها، ولا تلك التي كانت قويةً كما في البداية.
كانت لمسةً ناعمة وسلسة، كما لو أنه تدرب على ذلك، حيث احتضنها بلطفٍ بين ذراعيه. و كانت يده تمسح شعرها برفق ثم تدور ببطء حول عنقها.
________________________
ايه كذاته دلعوني وش الضمه المفاجئه ذي حتى انا استحيت🙈✨
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 84"