تجهمت غريس قليلًا بينما راحت تراقب الرجل الذي كان يقترب منها تدريجيًا. كان في داخلها شيء يتساءل: هل يمكن أن يكون شخصًا أعرفه؟
لكنّ الرجل ذو الشعر الأشقر القصير المائل للاحمرار، والعينين الزرقاوين الداكنتين كسماء الليل، والأنف المرتفع الذي يوحي بكبرياء، والفم ذي الانحناءة الوديعة، لم يكن مألوفًا لها على الإطلاق. أجل، كان وسيمًا، ولكن لم يكن ضمن من تعرفهم غريس.
توقّف الرجل على بعد خطوة منها، فحدّقت فيه غريس وقالت:
“هل هناك سبب يجعلني أجيبك، سيد أوين، عن مَن أبحث بالضبط؟”
“…….”
“عذرًا، لكن سأستأذن أولًا. إذا كنت تبحث عن محادثة، فربما من الأفضل أن تكلّم شخصًا آخر. إذن، إلى اللقاء.”
حين أطلقت كلماتها بنبرة حادة قليلًا، ردًا على إلحاحه المتكرر عليها، اكتفى الرجل المسمى أوين بالتحديق في وجهها بصمت.
عندها عقدت غريس حاجبيها بوضوح، واستدارت هذه المرة بلا تردد.
“ألا تعتقدين أنّه من المؤسف أن تُدمّري حياتك بسبب ذلك الدوق الملعون، آرثر فيليكس، يا ليدي غريس؟”
لكن تلك الكلمات جعلتها تتوقف فجأة. التفتت غريس وحدقت في أوين، الذي كان يرمقها بعينيه الزرقاوين الداكنتين المليئتين بالغموض.
“……ماذا تقصد بكلامك هذا؟”
“أعني ما قلته. لا أريد لشخص جميل، طيب، وعادل مثلك أن يدمّر حياته بسبب ذلك الرجل.”
“ماذا؟”
“ما زال الوقت لم يفت بعد. اهربي الآن. وإذا احتجتِ إلى المساعدة… فسأساعدك.”
ما الذي يقوله هذا الرجل؟
أصبح يقف تمامًا في طريقها، يطلق كلمات لا معنى لها. نظرت إليه غريس بذهول، غير مصدّقة جرأته.
وفجأة…
“يا إلهي! من هذا؟! أليس هو سمو ولي العهد؟!”
“مستحيل! إنه حقًا هو! سموّه!”
توقفت الموسيقى، وبينما كان بعض الحاضرين يبحثون عن مكان للراحة، صاحت مجموعة من النساء نحو الجهة التي تقف فيها غريس مع أوين.
رمشت غريس بدهشة، تنظر إلى أوين أمامها، ثم إلى النساء اللواتي اقتربن بسرعة.
أما أوين، الذي شعر بنظراتها، فظهر على وجهه تعبير حرج وفتح فمه كأنه يريد أن يقول شيئًا.
“تشرفنا بلقياكم، سمو ولي العهد!”
“لقد مر وقت طويل!”
“ألم تكونوا تدرسون في إمبراطورية فيلن؟ هل عدتم في إجازة قصيرة؟”
وقبل أن يتمكن أوين من قول شيء لغريس، أحاطت به النساء وبدأن يتحدثن بحماس.
غريس ما زالت مذهولة، تحدق بالرجل أمامها.
ولي العهد؟! هذا الرجل؟
قبل قليل كانت مترددة، لكن ردود فعل النساء جعلتها متيقنة.
ذلك الرجل الوقح لم يكن سوى “إيوجينيـوس كلايف”، الابن الأصغر الوحيد للإمبراطور وولي عهده… والرجل الذي سيصبح زوج شقيقتها ماريان ألبيرتون في المستقبل.
نظرت إليه غريس بدهشة، فيما كان يبادلها النظرات بوجه مرتبك، متجاهلًا تمامًا النساء الملتفات حوله.
……كنتُ غبية. عندما سمعتُ اسمه «أوين» الذي يعني «الميلاد النبيل»، كان عليّ أن أفهم.
لكنها كانت منشغلة للغاية بالبحث عن آرثر، فلم تنتبه.
وبينما كانت تفكّر نادمة في نبرتها الحادة معه قبل قليل، عادت إلى ذهنها كلماته «الوقحة» التي قالها.
[――ـ الوحش. «ذلك» وحش.]
“……!”
وفجأة، دوّى الصوت المرعب في أذنها مجددًا. نفس الصوت الذي سمعته من قبل. ارتعبت غريس وسارعت إلى سد أذنيها بكلتي يديها.
[للقضاء على الوحش، يجب أن يُغمر بدم «العروس».]
[……هل هذا ضروري حقًا؟]
[نعم. للأسف، لا يوجد سوى هذه الطريقة.]
لكن مهما ضغطت على أذنيها، لم يتوقف الصوت. بل على العكس، صار أوضح فأوضح. وكلما ازداد وضوحه، تصاعدت معه أصوات غريبة ومزعجة لا يمكن تفسيرها.
ـ ززز… ززز… صرير حاد.
[إلى متى علينا أن نستمر بهذا؟! في النهاية قد …!]
[اصبر قليلًا فقط. الخطة حقيقية.]
[لكن لم يعد لدينا وقت!]
[لا تقلق. لديّ فكرة جيدة.]
تزايدت الأصوات الغريبة، ومعها ازداد ارتجاف جسد غريس رعبًا. لم تعد تحتمل. أرادت تمزيق أذنيها لتوقف الضجيج.
يجب أن أهرب. يجب أن أبتعد عن هذا الصوت بأي شكل.
بدأت تتراجع بخطوات متعثرة.
[ابتهج! لقد وجدناها أخيرًا. تلك «العروس»!]
وفجأة، اسودّت رؤيتها بالكامل. ثم أضاء أمامها لهب أخضر زمردي، ظهر خلاله وجه رجل شرير يرتدي رداءً أسودًا، يبتسم إليها مثل وحش يتأهب للانقضاض… ثم اختفى.
“ــــ كياااااه!”
وفي اللحظة نفسها، اجتاحها ألم حاد كأن قلبها يُنتزع حيًا من صدرها. لم تستطع احتماله، فانقطع وعيها وسقط جسدها الهزيل أرضًا كغصن يابس.
—
سقوط غريس مع صرختها شلّ الحفل بأكمله.
أزاح أوين بسرعة النساء من حوله واندفع نحوها، يمسك بجسدها المترهل، يصفع وجهها وينادي بقلق:
“يا ليدي غريس! استفيقي!”
“……زوجتي!”
بين الحشود ظهر آرثر، الذي كان يبحث عنها منذ البداية.
بعد انتهاء الرقصة الأولى كان قد فقدها وسط الحضور، وظل يجوب القاعة الكبيرة باحثًا عنها، إلى أن سمع الصرخات واسمها.
شق طريقه بين الناس الذين التفّوا حول غريس وأوين، وتجمّد وجهه عندما رآها ساقطة.
لكن ما إن لاحظ أنها بين ذراعي أوين، حتى توقف في مكانه فجأة. نظر إليهما أولًا باستغراب، ثم سرعان ما تحول نظره إلى أوين ببرود قاتل، قبل أن ينحني له باحترام.
“تشرفت بلقياكم، سمو ولي العهد.”
“لقد مر وقت طويل، دوق فيليكس.”
ردّ أوين، بينما سارع آرثر للجلوس بجانب غريس. مدّ ذراعيه نحوها وقال لأوين:
“الآن وقد جئتُ، سأهتم بها بنفسي. أرجو أن تسلّمني إياها.”
لكن أوين لم يُفلتها.
فتجهّم آرثر، وبسط ذراعيه أكثر، بنظرة باردة تكاد تُعتبر وقاحة تجاه ولي العهد.
غير أنّ أوين شدّ قبضته أكثر على جسد غريس، مما أثار استياء آرثر، وبدت على ملامحه إشارة غضب مكبوت.
وفجأة…
“صحيح! سموكم، أعطوا تلك المرأة الملعونة إلى دوق الوحش فورًا!”
“تمامًا! ماذا لو انتقلت اللعنة الفظيعة إليكم؟!”
“……ماذا؟”
صاحت النساء النبيلات اللاتي كنّ حول أوين منذ قليل.
استغرب آرثر وسأل بدهشة، لكن أوين التفت إليهن ببرود، وقال بحدة مزمجرًا:
“……ليدي لورين، ليدي ريبيكا. الزمن ليس مناسبًا لكلام وقح كهذا.”
“سموك! أرجوك أن تصغي إلى نصيحة هذه الفتاة! ردود فعلها قبل قليل، تصرفاتها! لقد كانت تحت تأثير اللعنة بلا شك!”
“صحيح يا سموكم! فـ… فجأة صرخت وهي تحدق في الهواء ثم سقطت أرضًا! إن لم يكن ذلك لعنة، فما عساه يكون؟!”
رغم تحذير أوين، كانت النساء يصرخن بوجوه مرتعبة واصفات ما حدث لغريس. كلامهن جعل الحاضرين يتبادلون النظرات المذعورة، ثم أخذوا يتراجعون ببطء إلى الخلف.
“يا إلهي…! كيف يمكن أن يحدث هذا!”
“س… سموكم! أسرعوا، سلّموا زوجة الدوق إلى دوق فيليكس حالًا!”
حتى بعض الرجال، الذين شحب لونهم من الخوف، مدّوا أيديهم يشدّون ثياب أوين، يصرخون به أن يترك غريس من بين ذراعيه.
وفي غمرة ذلك الاضطراب، أفلت أوين دون قصد جسدها من قبضته. عندها انقضّ آرثر بسرعة، مدّ ذراعيه وأخذ جسد غريس المغمى عليها إلى صدره.
ثم ضمها إليه بقوة، كما لو كان يتعهد ألا يتركها أبدًا، وألا يسمح لأي إنسان أن ينتزعها منه ثانية. رفع بصره قليلًا نحو أوين، الذي ما يزال جالسًا بارتباك على الأرض، ورماه بنظرة ثابتة.
وبعدها انحنى له تحية قصيرة وقال:
“إذن، أستأذن أولًا يا سمو ولي العهد. أرجو أن تبلغ جلالة الإمبراطور أنني مضطر للانسحاب قبل الموعد.”
ثم استدار بلا أي تردد، وسار مباشرة نحو باب الخروج من قاعة الحفل.
تابع أوين ظهر آرثر وهو يبتعد، وغمغم ببطء:
“حقًا… عروس هذه المرة شخص جدير بالإعجاب. تكاد تجعلني أشعر أنه من المؤسف أن تكون عروسك أنت.”
ابتسم آرثر ابتسامة باردة قصيرة، ثم أجاب وكأنه يحدّث نفسه:
“وأنا أيضًا أرى ذلك.”
ما إن أنهى كلماته حتى أسرع أكثر في خطواته، وفتح باب القاعة، ثم خرج بلا رجعة.
عضّ أوين على شفته السفلى بغضب حين سمع رد آرثر. لوهلة، بدت تلك الكلمات وكأنها تقول: هي أفضل مني… وأفضل منك أنت أيضًا.
ظل يحدق بالمكان الذي كان آرثر يقف فيه قبل قليل، بعينين باردتين، ثم نهض مترنحًا. حاول بعض الحاضرين مدّ أيديهم لمساعدته على النهوض، لكنه تجاهل جميع تلك الأيادي الممتدة.
“……سموك.”
وبينما كان يزيح الناس بنظراته القاسية ليشق طريقه للخروج، نادته ماريان، خطيبته، وهي بوجه متصلب.
رفع أوين عينيه إليها ببرود، وقال بلا مبالاة:
“لقد مر وقت طويل.”
“……لماذا عدت إلى البلاد من دون أن تبلغني؟”
“ولماذا يجب أن أخبرك بشيء كهذا؟”
“……سموك!”
صرخت ماريان مصعوقة من قسوته، لكنه مضى متجاهلًا كلماتها، عابرًا إلى جانبهـا.
وقفت ماريان في مكانها، وأطلقت ضحكة ساخرة، ثم تابعت ظهره بنظراتها. لم يكن ذلك النظر يشبه نظرة خطيبة لخطيبها المستقبلي. كان مليئًا ببغض بارد، ممزوج بجشع ورغبة لم تخمد.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 20"