“……آه.”
في تلك اللحظة، ظهرت أمام عيني غريس، وقد أصبحت رؤيتها واضحة، صورة الرجل الواقف أمامها، آرثر فيليكس.
لم تتمالك غريس نفسها، فانفلت من بين شفتيها صوت أقرب إلى شهقة أو صرخة صغيرة.
لم يكن مظهره مفاجئاً، فقد كان مطابقاً تماماً لما لمحته من وراء الحجاب. ومع ذلك، السبب الذي جعلها تُصدر ذلك الصوت دون وعي هو أن عينيه، الواضحتين من خلف القناع، كانتا بلونين مختلفين.
عينه اليسرى بلون الياقوت الأزرق الصافي مثل سماء الصيف، أما اليمنى فحمراء متقدة مثل لهيب الجحيم، عين غريبة بلونين مختلفين.
حين التقت غريس بهاتين العينين الساحرتين اللتين كادت تبتلعها، أدركت السبب وراء تسميته بـ “دوق الوحش”.
(لا يمكن أن تكون عيون إنسان…)
ازدردت غريس ريقها الجاف وقد اجتاحها الخوف، وأبعدت نظرها عن تلك العينين الغريبتين.
عندها، بدا أن عينيه، اللتين كانت تحدقان بها دون انقطاع، ارتجفتا قليلاً.
“أيها العريس، السير آرثر غراهام فيليكس، هل تقسم بأن تتخذ الآنسة غريس ماري ألبيرتون زوجة لك، وتعيش معها طوال حياتك؟”
“……نعم.”
لم يلحظ البابا، الذي كان يتلو قسم الزواج بصوت رسمي بارد، التوتر والأنظار المتشابكة بين العروسين.
أجاب آرثر ببطء، بعد لحظة صمت قصيرة، لكن من دون أي تردد في صوته.
غريس، التي استمعت إلى صوته العميق والواضح، وجدت قلبها يهبط إلى قاع لا قرار له.
“إذن، الآنسة غريس ماري ألبيرتون، هل تقسمين بأن تتخذي السير آرثر غراهام فيليكس زوجاً لك، وتعيشي معه طوال حياتك؟”
بمجرد أن أنهى آرثر قسمه، التفت الأسقف نحو غريس وطالبها هي أيضاً بالقسم.
(……ماذا أفعل الآن؟)
هل عليها أن تكذب وتقول “سأعيش معه طوال حياتي” في هذا الزواج المقدس الذي يشرف عليه ممثل الله على الأرض؟ للحظة، فكرت غريس في أن تفرّ من هنا ومن كل شيء.
(لا. لا أستطيع فعل ذلك.)
لكنها تماسكت بسرعة. إذا هربت من حفل الزفاف، فسيعود إليها المصير الذي أفلتت منه بالكاد: الموت بالسم.
(يا إلهي، سامحني إن كذبت عليك هذه المرة الأخيرة.)
ابتلعت غريس ريقها ببطء، وأخذت نفساً عميقاً قصيراً، ثم أعادت نظرها إلى آرثر، إلى عينيه الغريبتين: الأزرق والأحمر. وبعد لحظة من الصمت، أجابت بصوت حازم:
“نعم، سأفعل.”
حين خرج جوابها، اتسعت عينا آرثر قليلاً من خلف القناع، وانفجر الحاضرون من حولهم بالهتاف.
لم تعرف غريس إن كان ذلك الهتاف مباركة أم سخرية، لكنها شعرت بأذنيها تطنّان، فأغمضت عينيها بقوة.
من تلك اللحظة، أصبحت “زوجة دوق الوحش”.
—
* * *
آرثر فيليكس، دوق الشمال، سيّد قلعة فيليكس الشاهقة، وأعظم فرسان الإمبراطورية.
ابن شقيق الإمبراطور الراحل، الذي خرج إلى ساحة المعركة وهو في السابعة عشرة من عمره، ومنذ ذلك الحين لم يعرف الهزيمة أبداً.
لكن، بالإضافة إلى هيبته وقوته، كان مشهوراً أيضاً بمظهره الغريب.
قامته أطول من معظم الرجال برأس كامل تقريباً، وعيناه المختلفتان: اليسرى زرقاء كالصفير، واليمنى حمراء كالروبي.
ورغم براعته التي لا تُضاهى، فإن الناس كانوا يتجنبونه.
لأنهم كانوا يعتقدون أن لعنة تسكن جسده.
بدأت تلك اللعنة المزعومة بموت زوجته الأولى، الأميرة إلكترا من دوقية رويين، التي تزوجها زواجاً سياسياً.
لم يمض عام واحد على زواجهما حتى توفيت بطريقة مأساوية.
في البداية، اعتبر الناس الأمر مجرد نحس. لكن بعد ذلك، كل امرأة اقتربت منه، طمعاً في لقبه وثروته، لم تعش معه أكثر من عام قبل أن تموت أو تفقد عقلها.
هكذا، بدأت الشائعات تنتشر بين النبلاء:
“أي امرأة تقترب من دوق آرثر فيليكس، لا مفر لها من الموت أو الجنون.”
ولأن عينيه الغريبتين كانتا نادرتين، فقد ألصقوا به اللعنة وربطوها بهما.
القناع الأسود، الذي ارتداه في البداية حداداً على زوجته الراحلة، أصبح درعاً يخفي “وجهه الملعون”.
وامتدت تلك الشائعات حتى إلى شقيقه الأصغر ليون فيليكس، الذي ورث منه نفس العينين المختلفتين.
(تلك العينان تحملان لعنة… وكل امرأة ترتبط بهما ستموت أو تجن.)
هرب آرثر فيليكس، مع شقيقه ليون، من همز ولمز النبلاء ومن أصابعهم التي تشير إليهما، ولجأ إلى شمال إمبراطوريته، حيث الثلوج تغطي الأرض نصف العام، عازلاً نفسه في قلعته.
—
* * *
كما بدأ الزواج بلا خطبة أو مراسم مسبقة، انتهى بسرعة خاطفة.
ولم يُسمح لغريس حتى أن تودّع قلعة ألبيرتون، إذ أصرّت عائلتها على أن تنتقل مباشرة إلى أراضي فيليكس.
غريس، التي لم تكن ترغب في البقاء دقيقة واحدة إضافية في بيت عائلتها، وافقت دون تردد، وبدأت الاستعداد للرحيل.
خلعت فستان الزفاف الفاخر الذي لم يبدُ أبداً مناسباً لها، وارتدت ثياباً أكثر راحة لتصعد إلى العربة، حيث التقت صدفة بآرثر.
كان واقفاً مستنداً بلامبالاة إلى جدار الكنيسة، مما جعل غريس تتوقف فجأة وتقول مترددة:
“……عذراً. هل جعلتك تنتظر طويلاً؟”
“لا.”
أجابها بكلمة واحدة باردة، ثم استدار فوراً وسار على السجادة الحمراء الممتدة خارج الكنيسة.
عبست غريس قليلاً من تصرّفه الفظّ، إذ تركها دون حتى أن يقدّم لها ذراعه لمرافقتها، لكنها لحقت به على مضض.
“غريس، عيشي بسعادة.”
“آمل أن تنجبي وريثاً يملك قوة سحرية، غريس. ولا تجعليه يعيش تعيساً مثلك.”
“ماريان! كح……تصرفي جيداً كسيّدة أراضي فيليكس.”
“……نعم، سأفعل.”
وقفت غريس أمام العربة الكبيرة المزينة بشعار النسر، رمز عائلة فيليكس، بينما يودّعها أهلها بكلمات غامضة، لا تدري إن كانت دعاءً أم لعنة.
ابتسموا كما لو كانوا قد تخلصوا أخيراً من عبء ثقيل، فيما اعتلت هي العربة بمساعدة وصيفاتها، متجاهلة كلماتهم.
“……هاه؟”
لكنها لاحظت شيئاً غريباً. العربة، التي تتسع لستة أشخاص، كانت فارغة إلا منها. توقعت أن يكون آرثر قد سبقها إليها، لكنه لم يكن موجوداً.
نظرت إلى السائس الذي كان على وشك إغلاق الباب وسألته:
“عذراً، ألن يركب الدوق معنا؟”
“لا يا سيدتي. لقد صعد سعادته إلى عربته الخاصة هناك في المقدمة.”
“……أوه، فهمت.”
“سننطلق حالاً. أرجو أن تستريحي.”
أغلق السائس الباب وابتعد، فيما أسندت غريس رأسها إلى المقعد الوثير، زافرة نفساً قصيراً.
كان الطريق إلى أراضي فيليكس يستغرق نصف يوم كامل، حتى لو أسرعوا في المسير. كانت قلقة بشأن قضاء ذلك الوقت الطويل في مواجهة آرثر وعينيه الغريبتين، لكنها اكتشفت أن مخاوفها كانت بلا داعٍ.
“……ربما هذا أفضل.”
شعرت بالارتياح لأنها لن تضطر إلى الجلوس أمام تلك العينين المخيفتين طوال الطريق.
شبكت ذراعيها وأغمضت عينيها المتعبة، ناوية أن تأخذ قسطاً من الراحة حتى تصل.
—
* * *
انطلقت عربات الموكب التي تحمل الدوق آرثر فيليكس وعروسه الجديدة، غريس ماري فيليكس، عبر الطريق الطويل.
بعد أن قطعت العربة نصف يوم كامل من السير المتواصل، عابرة الجبال والأنهار، وصلت أخيراً إلى بوابة قلعة فيليكس.
وبعد تفتيش قصير، انطلقت مباشرة نحو القصر.
“……أوه.”
في تلك الأثناء، استيقظت غريس من غفوتها، وفتحت نافذة العربة بخفية لتتأمل مناظر قلعة فيليكس.
بالنسبة لها، التي لم ترَ في حياتها السابقة أو الحالية سوى أراضي ألبيرتون في العاصمة والدير الذي قضت فيه آخر أيامها، كانت هذه المناظر غريبة كلياً.
خلافاً للعاصمة، حيث كانت أوراق الأشجار بالكاد بدأت تكتسي بحمرة الخريف، بدا المشهد هنا مختلفاً تماماً:
ثلوج متراكمة تصل حتى علوّ عجلات العربة، منازل حجرية خشنة، دخان أبيض يتصاعد من المداخن نحو سماء حالكة الظلمة… مزيج قاسٍ لكنه في الوقت نفسه دافئ بشكل غريب.
تأملت غريس بعمق البياض المترامي أمامها، فيما هبّت عليها نسمات باردة عبر النافذة المفتوحة.
“سيدتي، لقد وصلنا إلى القصر.”
“فهمت.”
توقفت العربة أخيراً، وجاء صوت السائس من الخارج يعلن الوصول. وما إن فُتح الباب، حتى سارعت غريس إلى ترتيب أطراف فستانها المبعثر.
“……آه.”
“……تفضلي، خذي يدي.”
كان أول ما وقع بصرها عليه عند فتح الباب هو آرثر، الذي كان قد سبقها بعربته الخاصة، وها هو الآن ينتظر أمام القصر.
(غريب… حين ركبنا، بدا وكأنه لن يقدم لي أبداً يداً أو مرافقة.)
أترى أنه يحاول الآن أن يُظهر بعض اللباقة بعد وصولنا إلى القصر؟
وبينما كانت غريس تفكر بحيرة، مدت يدها لتأخذ يده وتنزل من العربة.
“شكــ…”
لكن قبل أن تكمل شكرها، تخلّى آرثر عن يدها فجأة، كأنه يرميها بعيداً. ثم استدار وسار بخطوات واسعة نحو باب القصر المفتوح، من غير أن ينتظرها.
“……هاه!”
“تشرفت بلقائكم يا سيدتي. أنا روبرت هاينتس، كبير خدم قلعة فيليكس.”
“روبرت، أنا سأتولى مرافقتها. عد أنت إلى الجناح الجانبي وتفقد عشاء ليون.”
“……آه، حاضر. كما تأمرون، سيدي.”
“اتبعيني.”
لم يزد آرثر على تلك الكلمات الباردة، وهو يمضي في طريقه دون أن يلتفت إليها.
تطلعت غريس إلى ظهره البعيد مبتسمة بسخرية خافتة. كيف ألقى يدها جانباً بتلك القسوة، وكأن مجرد لمسها يجعله ينفر منها… حتى بدت هي وكأنها “الوحش”، لا هو.
(هل يعتقد هو الآخر أنني مجرد امرأة عادية، بلا أي موهبة سحرية ولا نفع؟)
وهل لذلك يتصرف باستهانة، كأن وجودي لا يساوي شيئاً؟
ساورها الضيق فجأة، لكن سرعان ما هزّت رأسها لتطرد الفكرة. كانت تعلم أن من أسوأ عاداتها أن تبالغ في تأويل تصرفات الآخرين وتعطيها معاني لا تستحق.
(كلا، ليس هذه المرة. في حياتي الجديدة هذه، لن أسمح لنفسي أن أُحبط بسبب أوهام كهذه.)
تماسكت غريس، ثم التفتت نحو كبير الخدم بابتسامة قصيرة وقالت:
“……سأقدّم تحيتي لك بشكل صحيح لاحقاً، يا روبرتس.”
“لا داعي يا سيدتي. الأجدر أن تلحقي بسيدي الدوق الآن.”
اكتفت غريس بإيماءة، ثم أسرعت للحاق بآرثر، الذي كان قد ابتعد كثيراً.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات