ما الذي حدث خلال تلك الأيام القليلة، حتى صارت أختي الصغيرة، الضعيفة والجبانة الذي كانت ترتجف من كلامي، بهذه الجرأة المفاجئة؟ لم أستطع فهمها.
مارِيـانّ صارت أكثر صراحة في سخريتها وقالت:
“يا لغَباؤك يا غريس. هل نسيتي؟ لم تستطع أي امرأة أن تتغلب على لعنة دوق فيلكس. أتظنين أنك قادرة على كسر تلك اللعنة الكامنة في عينيه الغريبتين؟ ثم إن الأمر لا يتوقف عند الدوق فقط، بل يشمل نصيب أخيه أيضاً. أليست اللعنة مضاعفة؟”
فأجابتها غريس بهدوء:
“وما المشكلة في ذلك؟”
“……ماذا؟”
“هل بمجرد النظر إلى تلك العينين، الحمراء والزرقاء، سأُحرق أو أغرق في الحال؟”
“أنتِ……!”
“أنا في الحقيقة لا أفهم سبب كل هذا الضجيج. أما أنا فلا أشعر بشيء.”
ابتسمت غريس بجسارة وهي تجيب ماريانّ التي كانت تحدّق بها بذهول.
وكما قالت، لم يكن بداخلها أي خوف. لأنها في النهاية، ستستغل تلك اللعنة لتنال حريتها.
رفعت غريس صوتها عمداً، كأنها تريد للجميع أن يسمعوا، لا ماريانّ وحدها. عندها أطلقت ماريانّ ضحكة جافة غير مصدقة، قبل أن تقول بشفتين ترتجفان:
“……لقد جننتِ. جننتِ تماماً!”
“آسفة، لكنني الآن في كامل وعيي.”
ابتسمت غريس ابتسامة أوسع لماريانّ التي كانت تشير إليها بيد مرتجفة ووجه مصدوم. لم تعد هي نفس الفتاة السابقة. لم تعد تُجرح من مثل تلك الاستفزازات.
(لقد مررتُ بالموت على أيديكم بالفعل، فهل ما زال هناك ما أخشاه؟)
نعم. لم يعد هناك شيء تخشاه بعد الآن.
ثم نظرت حولها إلى أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء الذين كانوا يتبادلون النظرات والهمسات حولها وحول ماريانّ، وقالت:
“أعذروني، هل تفسحون لي الطريق؟ بعد حديث طويل مع أختي، أحتاج إلى بعض الهواء النقي.”
همس الحاضرون فيما بينهم، ثم تراجعوا ليفسحوا لها المجال.
ابتسمت غريس وهي تتجه نحو الشرفة التي اختارتها مسبقاً. أخيراً، تحررت. ستتمكن الآن من قضاء وقتها كما تشاء حتى يعود آرثر.
راودها هذا التفكير فبدأت تدندن بلحن خافت وهي تمر بين النبلاء، لكن فجأة اصطدمت كتفها بكتف رجل. قطبت جبينها ونظرت إليه.
على عكس بقية النبلاء الذين أظهروا وجوههم، كان هذا الرجل يرتدي زياً أحمر وقبعة عريضة تخفي وجهه. لكنه ظل واقفاً في طريقها يحدق بها.
(ما الأمر؟ هل يحاول استفزازي؟)
قالت له بنبرة مائلة إلى الاستهزاء:
“عفواً، هل تتنحى جانباً؟”
“……آه! المعذرة يا سيدتي.”
“لا بأس.”
لحسن الحظ، لم يكن الأمر افتعالاً للمشاكل. فقد ابتعد فوراً ليترك لها الطريق.
أومأت له غريس إيماءة بسيطة وتجاوزته بخطى هادئة، غير مدركة أنه ظل يتابعها بنظراته وهي تبتعد.
—
تجاهلت غريس كل الأنظار المسلطة عليها وهي تمشي بهدوء وسط الحاضرين. بدا على الكثيرين أنهم يريدون أن يلقوا تعليقاً أو كلمة، لكن لم يكن لديها أدنى رغبة في التعامل معهم. جل ما تريده هو البقاء وحدها قليلاً إلى أن يعود آرثر ويقابل الإمبراطور.
لهذا مضت بوجه متجهم، حتى شعرت بيد تلمس كتفها بلطف. ارتجفت والتفتت فجأة.
“إلى أين تذهبين، سيدتي؟”
لحسن حظها، كان من أمسك بها هو آرثر.
أمالت رأسها قليلاً، تحدّق فيه وهو ينظر إليها مباشرة، ثم أطلقت صوتاً قصيراً يشبه التعجب وقالت:
“آه، هل رأيت؟”
“……أعتذر.”
يبدو أنه رأى ما جرى بينها وبين ماريانّ قبل قليل. ابتسمت بمرارة وسألته:
“ولماذا تعتذر؟”
“……لأني تركتك تسمعين مثل تلك الكلمات بسبب غيابي.”
“لا بأس. ليس الأمر كما تظن. لم أعد أتأثر بما تقوله أختي. ……ثم…”
“……؟”
“لقد رأيت بنفسك، أليس كذلك؟ في النهاية أنا من فازت.”
ثم أضافت بمرح كي لا يقلق، ورفعت كتفيها بشكل مبالغ فيه وابتسمت.
عندها، رمقها آرثر لوهلة بوجه مذهول قبل أن يبتسم بدوره قائلاً:
“صحيح. لقد فزتِ، وبطريقة رائعة أيضاً.”
“……!”
“أنتِ مذهلة. أحسنتِ حقاً.”
في تلك اللحظة شعرت غريس أن عقلها صار أبيض تماماً، وحرارة غريبة صعدت إلى وجنتيها.
لم تتذكر أنه ابتسم لها من قبل بتلك العذوبة.
ارتبك قلبها، ليس لأنها تحبه، بل لأنها للمرة الأولى تجد شخصاً يقف في صفها. لذلك لم تعرف كيف ترد، وبقيت شفتيها تتحركان بلا صوت.
وبينما كان آرثر يبتسم لها، عادت ملامحه لتتصلب بارتباك.
عندها دوى صوت من عند المدخل:
“جلالة الإمبراطور قادم! فلينحنِ الجميع!”
خيم الصمت على القاعة في لحظة.
التفتت غريس وآرثر معاً نحو مصدر الصوت.
هناك ظهر الإمبراطور، يضع تاجاً ذهبياً ويرتدي عباءة ملكية حمراء طويلة، يسير محاطاً بعدد من أتباعه، بينهم والد غريس، دوق ألبيرتون.
شدّت غريس بصرها نحو الإمبراطور ووالدها المرافق له.
كان الإمبراطور قد بلغ الستين تقريباً، على مشارف الشيخوخة. عيناه حادتان، وتجاعيد عميقة تعلو جبينه وزوايا فمه، تمنحه هيئة متعجرفة متصلبة.
وبمساعدة الخدم، صعد العرش الموضوع على المنصة العليا ببطء، وجلس متفحصاً الحضور بنظرة قاسية، ثم قال:
“أرى أن الجميع حضر.”
أجابه دوق ألبيرتون بابتسامة ممالقة:
“وكيف لا يا مولاي؟ لا يوجد نبيل يتجرأ على التغيب عن حفلة يقيمها جلالتكم.”
تجاهل الإمبراطور مجاملته وسأل:
“وأين بطل هذه الحفلة، دوق فيلكس وزوجته الجديدة؟”
فورها تراجع النبلاء المحيطون، ليُظهروا آرثر وغريس الواقفين في الخلف.
نظر آرثر سريعاً إلى غريس بجانبه، ثم أعلن بصوت ثابت:
“هنا نحن يا مولاي.”
“اقتربا.”
أمر الإمبراطور باقتضاب.
وضعت غريس يدها على ذراع آرثر الممدودة، وتقدما معاً نحو العرش.
لم تكن سوى خطوات قليلة، لكنها بدت ثقيلة تحت الصمت المهيب.
عند وصولهما، انحنيا معاً احتراماً.
“الدوق آرثر فيلكس، ينحني أمام جلالة الإمبراطور.”
“الدوقة غريس فيلكس، تنحني أمام جلالة الإمبراطور.”
قال الإمبراطور بصوت مهيب:
“ارفَعَا رأسيكما.”
رفعت غريس رأسها مع آرثر، فالتقت عيناها بعيني الإمبراطور مباشرة.
لم تكن تتوقع هذا التلاقي المفاجئ، فخفضت بصرها على عجل. لكن الإمبراطور ابتسم وقال:
“آرثر، يبدو أن عروسك هذه خجولة للغاية.”
“نعم، لذلك أرجو أن تتجنبوا المزاح القاسي معها، يا مولاي.”
“هاها! لم تتلقَّ مباركتيما بعد، ومع ذلك أنت تحرص عليها بهذه الدرجة؟ يبدو أنني وُفقت في هذه الزيجة أكثر من أي مرة سابقة.”
ابتسم الإمبراطور ضاحكاً بعد إجابة آرثر، ثم أنزل بصره بنظرة أكثر وضوحاً على غريس التي كانت تقف إلى جانبه.
شعرت غريس بكتفيها تنكمشان من تلقاء نفسها تحت تلك النظرة الحادة.
لم يكن السبب فقط أنه في حياتها الأولى كان هو السبب الذي قادها إلى الموت، ولا لأنها خافت أن تغضب هذا الرجل، سيد الإمبراطورية المطلق، فينزل بها الضرر مرة أخرى. بل لأنها أحست أن نظرته إليها كانت أكثر إلحاحاً وملتصقة بها مما يجب.
(……تماماً مثل أفعى تترقب فريستها.)
ارتجفت غريس من خوف مجهول السبب، وشدت على ذراع آرثر بقوة وكأنها تتعلق به.
ضحك الإمبراطور بصوت عالٍ قائلاً:
“هاهاها! يبدو أن عليّ أن أمنح هذين العاشقين بركتي سريعاً. دوق ألبيرتون! قم بمنحهم البركة! والأفضل أن تضيف إليهم دعاءً بقدوم وريث في أسرع وقت!”
“مفهوم، يا جلالة الإمبراطور. سأقيم الطقس حالاً.”
قهقه الإمبراطور بصوت مرتفع، ثم نادى على دوق ألبيرتون الواقف بجانبه.
فانحنى الدوق احتراماً، وهو الذي ظل طوال الوقت واقفاً بوجه خالٍ من التعابير، ثم بدأ بخطوات بطيئة ينزل من على منصة العرش متوجهاً نحو آرثر وغريس.
ارتابت غريس وتراجعت بخطوة إلى الخلف وهي تراقب اقتراب والدها، عينيها تحملان حذراً شديداً.
“…….”
تلاقت عيناها بعينيه. نظرة باردة خالية من أي عاطفة، حتى ليصعب على من يراها أن يصدق أنهما أب وابنة.
لكن سرعان ما كان دوق ألبيرتون هو من قطع ذلك التواصل البارد، فصرف بصره بلا مبالاة، ولوّح بيده في الهواء ليستدعي كتاباً.
لقد كان الكتاب المقدس للبركة.
أوقفه أمام آرثر وغريس، ثم قال بنبرة رسمية:
“دوق آرثر فيلكس، ودوقة غريس فيلكس. ضعوا أيديكم على كتاب البركة.”
مدّ آرثر يده أولاً ووضعها على الكتاب، ثم تبعته غريس لتضع يدها فوق يده.
بعد أن تأكد الدوق من أن يديهما مستقرتان على الكتاب، رفع صوته معلناً:
“بصفتي ممثل جلالة الإمبراطور العظيم، أنا فيتزجيرالد ألبيرتون، كبير سحرة الإمبراطورية، أمنحكما بركتي.”
ثم رفع كلتا يديه بخشوع، وبدأ بترديد تعاويذ بصوت خفيض.
أصغت غريس باهتمام إلى بعض الكلمات المتناثرة التي تعرفت عليها، فهي قد درست من قبل لغة السحر القديمة في طفولتها.
[―――.]
(……هاه؟)
لكن كلما استمر في تلاوة التعويذة، شعرت غريس أن عقلها يتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى صار فارغاً تماماً.
صحيح أن الكلمات التي تُسمع بوضوح هي كلمات بركة، وصحيح أن الهالة السحرية المنبعثة نقية وطاهرة. لكن…
مع ذلك بدأت روحها تغرق في الضباب.
رأسها يثقل، بصرها يعتم. بدا وكأن شخصاً ما يغلق كل أفكارها وحواسها واحداً تلو الآخر.
أحست وكأن كل شيء من حولها يختفي دفعة واحدة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 17"