في داخل العربة، أصلحت غريس زينتها، ثم نزلت منها متأبطة ذراع آرثر الذي قدّم لها المرافقة.
وما إن وطئت قدماها الأرض حتى اقترب منهما رجل يرتدي زيًّا رسميًا فضي اللون، وعلى خصره يتدلى سيف، فحنى جسده محييًا وقال:
“مرحبًا بقدومكما، صاحب السمو الدوق آرثر فيلكس، وصاحبة السمو الدوقة غريس فيلكس. أنا قائد الحرس الإمبراطوري، تريستان ميفيس. لقد كُلّفت بمرافقة بطلَي هذه الحفلة.”
“لم نلتقِ منذ مدة يا لورد تريستان.”
“تشرفتُ بلقائك للمرة الأولى يا لورد تريستان.”
ابتسم الرجل وردّ:
“إذن فلنتوجه الآن إلى قاعة الحفل. كثير من أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء بانتظاركما.”
وبعد تبادل تحية قصيرة معه، تبع آرثر وغريس القائد تريستان وسارا داخل القصر الإمبراطوري.
وبينما كانت غريس تسير متأبطة ذراع آرثر في ممر طويل، أخذت تسرّب نظرات جانبية متفحصة للداخل الفخم للقصر.
(إذن هكذا تبدو أروقة القصر الإمبراطوري… ما أروعها!)
ولأنها لم تُولد بموهبة سحرية، لم تُدعَ يومًا إلى الحفلات التي ترعاها العائلة الإمبراطورية. لذا، فإن ما تراه عيناها الآن من زينة باذخة جعل القصر يبدو لها كأنه عالَم آخر أشبه بعالم فوق النجوم.
وأثناء تجوال نظراتها المندهشة على الأسقف العالية، والثريات الكريستالية، والمنحوتات، إذا بآرثر يتوقف فجأة في منتصف الطريق. توقفت غريس معه بدورها، فالتفتت لترى اللورد تريستان واقفًا أمام باب شاهق لا يُرى أعلاه إلا إذا رفعت رأسها عاليًا.
فتح تريستان الباب قليلًا وقال بلطف:
“تفضلا بالدخول، من هنا.”
“شكرًا لك.”
“ممتنة لك.”
وبعد أن شكراه بإيجاز، دخلا معًا. وما إن اجتازا العتبة حتى غمرتهما أضواء باهرة حولت ليل القصر إلى نهار.
(…يا إلهي!)
إن ما بداخل القاعة كان مختلفًا تمامًا حتى عن الممرات الفخمة التي مرّت بها غريس قبل قليل.
ثريات لا تُحصى تلمع بالكريستال ومئات الشموع المتقدة، لوحات فنية تزين جدرانًا لا يُرى لها نهاية، ستائر ثقيلة تتدلى خلفها نوافذ زجاجية ضخمة تؤدي إلى شرفات… والأهم من ذلك، الزحام المهيب من أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء بملابس مزخرفة وزينة لامعة.
فتحت غريس فاها بدهشة دون أن تشعر.
(تمامًا كرسوم القصص الخيالية التي كنتُ أقرأها وأنا طفلة…)
خفق قلبها حتى خُيِّل إليها أنها أصبحت بطلة إحدى تلك القصص.
لكن سرعان ما انطفأت فرحتها حين تسللت إلى أذنها همسات بعض النبلاء:
“انظروا، تلك هي الدوقة الجديدة لعائلة فيلكس.”
“أجل… يا تُرى كم ستصمد هذه المرة؟”
تشنج قلب غريس، لكن مع ذلك تابعت السير إلى عمق القاعة متأبطة ذراع آرثر، وهي تعض شفتها السفلية.
وبينما تسير، أخذت تلتقط بوضوح همساتهم المسمومة:
“حسنًا… بما أنها الابنة الثانية للدوق ألبرت، فربما ستصمد أكثر من الأخريات.”
“هل نسيتَ؟! تلك الفتاة ـ لا، الدوقة الجديدة ـ وُلدت بلا أية موهبة سحرية.”
“صحيح، وحدها من بين بنات الدوق لم ترث قدرات سحرية. كانت عبئًا على عائلتها.”
“لهذا زُوّجت إلى ذلك الدوق الملعون… الوحش فيلكس. حتى لو كان بأمر الإمبراطور، أي أبٍ يُلقي بابنته المحبوبة في فم الموت أو الجنون؟”
“لو كانت الخطيبة هي الليدي ماريان بدلًا منها، لرفضوا الأمر بالدموع والدم، بل إن الإمبراطور نفسه ما كان ليُصدر القرار أصلًا.”
“بالطبع. فكيف يمكن أن يُعرّضوا فتاة ذات قدرات سحرية للخطر؟ أما هذه، فقد وُلدت بلا شيء، لذا أرسلوها للوحش بارتياح.”
“هاهاها! بهذا تخلصوا من عبء البيت، ونال الدوق ألبرت ثقة الإمبراطور أيضًا. صفقة رابحة من كل الجهات.”
ثم ارتفعت ضحكات أخرى:
“ما رأيكم أن نراهن؟ كم ستصمد هذه المرة قبل أن تموت أو تفقد عقلها؟ أنا أراهن على شهرين.”
“أنا أراهن على شهر فقط. يُقال إنها تقترب حتى من ذلك الأمير الصغير، أليس كذلك؟ لا بد أنها نالت لعنة مضاعفة!”
“حقًا؟ يا للعجب… هل هذا شجاعة أم حماقة؟ كيف تعطي قلبها لذلك الوحش الصغير؟”
كل ما بلغ أذن غريس كان استهزاءً واحتقارًا.
شدّت قبضتها حتى كادت أظافرها تنغرز في كفها، وعضّت شفتها المصبوغة بالأحمر حتى سال منها الدم.
(كيف يتفوهون بمثل هذه الكلمات الحقيرة؟! خاصة حين يسخرون من ليون الصغير… أشعر أن الغضب يعمي عيني!)
وتخيلت للحظة كم سيكون مريحًا لو مزقت تلك الأفواه المستهزئة.
من غير وعي، ضغطت على ذراع آرثر بكل قوتها.
“…!”
همس لها آرثر بهدوء:
“تجاهليهم. ليست كلمات تستحق الإصغاء.”
“…يا صاحب السمو.”
“آسف… لأنك تسمعين مثل هذا الكلام بسببي.”
ثم قبض بلطف على يدها المشدودة بقوة، وربت عليها بحنان.
كان وجهه هادئًا بلا انفعال، كأنه اعتاد مثل هذه الإهانات.
(حتى حين يهينونه هو وأخاه الصغير، لا يغضب…؟)
ارتج صدرها غيظًا، لكنها حين لمحت ملامحه من الجانب أدركت الحقيقة:
إنه لا يغضب ليس لأنه قوي، بل لأنه استسلم منذ زمن.
(تمامًا كما كنتُ أنا قبل موتي… حين توقفت عن طلب الحب من عائلتي بعد أن سئمت الانتظار.)
تنهدت غريس بحزن وهي تدرك أن لا مبالاته ليست إلا قناعًا يخفي جراحًا عميقة.
في تلك اللحظة اقترب جندي بزي رسمي وقال:
“صاحب السمو دوق فيلكس، جلالته يطلب حضورك.”
“جلالته؟”
“أجل. قال إن صخب القاعة لا يسمح بالحديث الجدي، لذا يستدعيك إلى غرفة جانبية.”
“مفهوم… ولكن…”
تردد آرثر ونظر إلى غريس بجانبه. بدا كأنه لا يريد تركها وحيدة. لكنها ابتسمت مطمئنة وقالت:
“لا بأس، اذهب.”
“…مفهوم.”
هز رأسه ببطء ثم تبع الجندي.
راقبت غريس ظهره وهو يبتعد وسط الحشد، ثم زفرت طويلًا وبدأت تبحث بعينيها عن مكان هادئ بعيد عن الأنظار والهمسات.
وبعد أن اختبأت لبعض الوقت خلف أجساد الفرسان طويلي القامة، وجدت شرفة فارغة فابتسمت.
(سأبقى هناك حتى يعود آرثر.)
خطت بخفة متجهة نحوها، لكن فجأة دوى صوت مألوف قرب أذنها:
“أوه! غريس! كنتِ هنا!”
التفتت غريس بتجهم خفيف، لترى أختها الكبرى ماريان تتقدم نحوها بوجه متألق كأنها سعيدة حقًا بلقائها.
“…مر وقت طويل يا أختي. كيف حالكِ؟”
“أنا بخير. وأنتِ، كيف كنتِ؟”
“بخير بفضلكِ.”
أجابت غريس بصوت بارد مقتضب على تحية أختها الشكلية.
للعيان، بدت ماريان كأخت كبرى لطيفة، حنونة، تسأل عن حال أختها الصغرى التي تزوجت وباتت تعيش بعيدًا.
لكن في حقيقتها، كانت عيناها الباردتان تمتلئان بازدراء واضح وهي تتفحّص مظهر غريس من رأسها حتى قدميها.
ثم رفعت إحدى حاجبيها باستهزاء، وأخذت تجول ببصرها في جسد أختها بنظرة أكثر فجاجة قبل أن تقول:
“أرى… يبدو أنك بخير فعلًا. فستانك… جواهرك… وحتى وجهك. يبدو أن دوق فيلكس يعاملك بلطف، أليس كذلك؟”
ابتسمت غريس وأجابت بنبرة هادئة:
“أجل. كما ترين… إنه يغدق عليّ بما يفوق استحقاقي.”
“حقًا؟ هذا أمر مفرح. ألا تشعرين بالخوف؟”
“الخوف؟ أبدًا. بل على العكس… أشعر براحة كبيرة هنا. بخلاف قصر آل ألبرتون، فإن عائلة فيلكس يعاملونني بقدر من الاحترام والكرامة. لو كنت أعلم أن الأمر سيكون هكذا، لتمنيت لو تزوجت وغادرت منزل العائلة منذ زمن بعيد.”
تظاهرت غريس بملامح عروس سكرى بالسعادة، وردّت على كلام ماريان بابتسامة مصطنعة.
للحظة وجيزة، ظهر على ملامح ماريان عبوس صريح شوه جمالها المصطنع، لكن سرعان ما تماسكت وغيرت تعابيرها لتبدو قلقة، وقالت وهي تحدق في أختها:
“غريس… ما الذي تقولينه؟ متى حرمناك نحن عائلتك من مكانتك؟ ألم نعاملك دومًا كريمة؟”
ضحكت غريس بسخرية باردة وردّت:
“لا أدري… إن كان إطعامي مثل الماشية، ومنحي ثيابًا بالية لرميها عليّ يعدّ في نظركم معاملة كريمة، فربما أنتم محقون.”
“إذن… ما تريدين قوله أنكِ لم تعودي مثل ماشية تُربّى لتُذبح؟”
“على الأقل تخلصتُ من كوني الابنة المنبوذة. لقد أصبحتُ زوجة أحد أفراد العائلة الإمبراطورية.”
“…ها. مثير للسخرية. أتسعدين بكونك زوجة لأمير ملعون، لا يُعلم حتى إن كنت ستصمدين لعام واحد؟”
أجابت غريس بهدوء، وهي تبتسم وكأنها غير مبالية:
“سواء صمدتُ عامًا، أو عشرة أعوام… لا أحد يعلم. وربما، من يدري؟ قد أعيش مائة عام.”
وما إن ردّت غريس بهذا البرود الواثق، حتى انكشفت ملامح ماريان الحقيقية، وتلاشت قناعها المصطنع، لتظهر دواخلها المظلمة صريحة وواضحة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"