حدّقت غريس بذهول في الخدم والوصيفات الذين كانوا يتحركون بسرعة، وكذلك في سالي التي كانت منشغلة بينهم، دون أن تتمكّن حتى من قول شيء.
وحين أنهوا الترتيب وغادروا غرفة النوم، التفتت غريس إلى سالي التي كانت تبتسم ابتسامة مشرقة بجانبها، وصاحت:
“سـ.. سالي! لِـمَ.. لماذا فعلتِ هذا؟”
“نعم؟ ماذا تقصدين؟”
“أن.. أن تحوّلي كل ذلك إلى فساتين وأحذية! بل وحتى المجوهرات أيضًا! كيـ.. كيف يمكنني أن أقبل بكل هذا؟!”
“يا إلهي، ما الذي تقولينه يا سيدتي! أنتِ زوجة دوق آرثر فيليكس، ابن عم جلالة الإمبراطور وأعظم فارس في الإمبراطورية، فكيف تفزعين من هذه الكمية البسيطة من الفساتين والأحذية؟! بل إنكِ تستحقين ما هو أرفع وأغلى من هذا بكثير!”
“……لكـ.. لكن الأمر مبالغ فيه بعض الشيء يا سالي. كان يكفيني فستان واحد فقط……”
“يا إلهي، كيف يكون فستان واحد كافيًا؟ بعد أن يتم الاعتراف بك رسميًا كزوجة دوق فيليكس في حفل التهنئة بالزفاف أمام جلالة الإمبراطور، ستمطر عليكِ دعوات الحفلات من العائلة الإمبراطورية والنبلاء! هل تنوين حضور كل تلك الحفلات بفستان واحد؟”
“……هل سيكون هناك حقًا من يدعوني إلى هذا الحد؟”
“طبعًا، سيكونون كُثر!”
ردّت سالي ساخرة على اعتراض غريس المتردد.
أرادت غريس أن تقول: (من يدري إن كان هناك من يرغب فعلًا بدعوتي؟ بل ومن يدري إن كنت سأبقى في هذا القصر طويلًا لأحضر كل تلك الحفلات أصلًا؟) لكنها التزمت الصمت.
فبدت سالي مقتنعة أن إقناعها قد نجح، فابتسمت برضا وجذبت يد غريس.
“الآن اقتنعتِ، صحيح؟ هيا، هيا. قفي وارفعي ذراعيكِ إلى الجانبين. يجب أن أقيسك سريعًا لنفصّل الفساتين.”
“……حسنًا، فهمت.”
“إذن سأبحث حالًا عن شريط القياس! ابقي واقفة بلا حراك!”
ومع ملامح يعلوها الحماس، جذبت سالي ذراع غريس. فاستسلمت الأخيرة أخيرًا ونهضت وفتحت ذراعيها.
ركضت سالي بخفة نحو طاولة الزينة تبحث عن شريط القياس، فأخذت غريس تحدّق بها بدهشة ثم ابتسمت بخفة.
لم يكن الأمر أكثر من مساعدة لتجهيزها، لكن سالي كانت مندفعة كأن الأمر يخصها شخصيًا، وهذا بدا لغريس لطيفًا ومثيرًا للامتنان.
—
قضت الأيام التالية في تجربة الفساتين والأحذية التي أرسلها الخياطون والصنّاع، وضبط الحُلي لتناسب جسدها. وبينما كان الوقت يمر مسرعًا، حلّ صباح حفل التهنئة بالزفاف.
استيقظت غريس أبكر من المعتاد، وبمساعدة سالي استحمت ثم ارتدت فستان ساتان زهريّ فاتح.
بعدها جلست أمام طاولة الزينة، فرفعت سالي شعرها وثبّتته بزينة على شكل وردة من الحرير، ثم علّقت حول عنقها عقدًا من الألماس قائلة:
“يا إلهي… كم أنتِ رائعة الجمال.”
“هذا مديح مبالغ فيه يا سالي.”
“مبالغ فيه؟! الجميع سيظن أن الحاكمة نزلت الى الارض!”
احمرّ وجه غريس قليلًا من هذا الثناء المبالغ فيه، وابتسمت بخجل وهي تعبث بعقدها.
في تلك اللحظة، سُمِع طرق خفيف على الباب، تبعه صوت آرثر من الخارج:
“هل انتهيتِ من الاستعداد، يا سيدتي؟”
“نعم! لحظة واحدة فقط يا دوق! ……هيا، أمسكي بيدي لتنهضي.”
أجابت سالي وهي تمسك يد غريس برفق لتساعدها على النهوض.
وبخطوات هادئة دعمتها حتى وصلت أمام باب الغرفة. ثم فتحت سالي الباب بحذر.
“……!”
وعند انفتاح الباب، وقع بصر غريس على آرثر.
لم يكن يرتدي زيه الأسود المعتاد، بل زيًا أزرق غامقًا مطرّزًا بأزرار لؤلؤية، وزيّن صدره بعشرات الشارات، وشعره مصففًا للخلف. بدا أكثر وسامة ورزانة من المعتاد.
أما شعره الأنيق المسدل للخلف وعينيه المختلفتي اللونين، الأزرق والأحمر، والظاهرتين خلف القناع… فقد أضافتا عليه اليوم طابعًا غامضًا أكثر من كونه مخيفًا.
(هل هذا ما يسمونه السحر الذي يُسقط ضحايا الوحوش؟)
لم تستطع غريس أن تحوّل بصرها عنه.
لكن المدهش أن آرثر أيضًا كان يحدّق فيها بطريقة مغايرة لعادة نظراته الحادة؛ عيناه المتألقتان بدتا هذه المرة غائمتين، مركّزتين عليها بفتور غريب.
وبينما كانا يحدّقان ببعضهما في صمت، كأنهما فقدا التركيز، ضحكت سالي بخفوت، ثم مالت بوجهها متظاهرة بالمكر وقالت:
“يا إلهي، دوقي العزيز. صحيح أن سيدتي فاتنة، لكن لا ينبغي أن تحدّق بها بهذا الشكل، ستُحرجها.”
“……!”
“وأنتِ أيضًا يا سيدتي. صحيح أن الدوق يبدو وسيمًا اليوم أكثر من المعتاد، لكن إن ظللتِ تحدّقين به هكذا فسوف يعتبرك الناس سيدة غير محتشمة.”
“……سـ.. سالي! ليـ.. ليس الأمر كذلك!”
احمرّ وجه غريس بشدة وصاحت غاضبة، بينما كتمت سالي ضحكتها وهي تنظر ما بين غريس الخجلة وآرثر الذي بدا أكثر صرامة من المعتاد.
ثم نزعت يد غريس من يدها، ووضعتها فوق ذراع آرثر قائلة:
“إذن، سأكمل تجهيز أغراض سيدتي. يا دوق، أرجوك اصطحبها أنت إلى العربة.”
“……لا بأس لو حملتُ الأغراض معها.”
“يا للعجب! كيف يمكن أن نسمح لدوق نبيل بمثل هذا العمل؟ ……هيا، اصطحبها بسرعة، ستتأخران.”
وبدون أن تمنحهما وقتًا، دفعت سالي ظهر غريس لتخرج مع آرثر. ثم أغلقت الباب خلفهما بلا تردد.
فبقيت غريس مع آرثر وحدهما في الممر. نظرت إلى الأرض بارتباك وقد خنقها التوتر.
شعرت وكأن أنفاسها تضيق، وجسدها يلتوي من الحرج، وهي بجانبه.
وكان هو الآخر يحدّق بصمت في يدها المعلّقة على ذراعه.
ففكرت غريس:
(لو كان الأمر يزعجه هكذا، لِمَ لا يقول ذلك؟ ……لكن، ألم يعانق خصري قبل أيام من غير تردّد؟)
هل يزعجه أن تكون المبادرة منها هي هذه المرة؟
شعرت بالضيق لهذا التفكير، فعضّت شفتها وأنزلت يدها من على ذراعه.
لكن قبل أن تفلت يدها تمامًا، قبض آرثر عليها بقوة وثبّتها على ذراعه.
“……!”
ارتجفت غريس من الدهشة، فحوّلت بصرها إليه. لكنه تجنّب عينيها وسعل بخفة، ثم قال وهو يضغط على يدها:
“……لقد تأخرنا. فلنذهب.”
“……آ.. أجل.”
أجابت غريس مرتبكة، وأومأت برأسها.
فتحرك آرثر أولًا بخطوات بطيئة، كأنه يراعي كعبها العالي.
فشدّت غريس قبضتها قليلًا على ذراعه وسارت إلى جانبه.
كان شعورًا غريبًا… كانت محرجة، لكنها لم ترغب في أن تفلت يده.
(إنه فقط لأني أخشى أن أتعثر.)
نعم… بالتأكيد هذا هو السبب.
لذلك كان قلبها يخفق بتلك الطريقة الغريبة، أو هكذا حاولت إقناع نفسها.
—
خرج الاثنان معًا من القصر، وسارا عبر الحديقة حتى وصلا إلى البوابة الرئيسية.
هناك، كان بعض من خدم قصر فيليكس ينتظرون بجوار العربة. وما إن رأى ليون قدومهما حتى اندفع نحوهما مسرعًا.
“أخي! أختي زوجة أخي!”
“ليون! تمهّل! ستقع!”
أسرعت غريس نحوه لتلحق به قبل أن يتعثر وهو يركض مترنحًا. وما إن اقترب منها حتى أسرع أكثر، وارتمى في حضنها، غائصًا وسط فستانها الواسع الطويل.
حين رأت غريس هذا المشهد اللطيف، ضحكت بصوت مسموع، ومدّت يدها تمسح شعر ليون الطويل. عندها رفع الطفل رأسه من الفستان الذي دفن وجهه فيه، وأطلق همهمة إعجاب بعينيه الكبيرتين المتألقتين، ثم قال:
“واو! أنتِ جميلة جدًّا اليوم!”
“حقًا؟”
“نعم! تشبهين وردة تفتّحت للتو! ……آه، لا، بل أشبه بجوهرة متلألئة… لا، بل أشبه بملكة الجنيات!”
“يا للعجب، هذا شرف عظيم لي يا لورد ليون الصغير.”
انحنت غريس قليلًا متعمدة استخدام صيغة الاحترام، وقد شعرت بالخجل من صراحة مدحه.
فضحك ليون ضحكة عالية مرحة، ثم عانق ساقيها الصغيرتين بقوة أكبر، وكأنه يرفض أن يتركها.
فمدّ آرثر، الذي كان يقف بجوارها، يده بخفة وعبث بشعر ليون وهو يقول:
“حسنًا يا ليون، دع زوجة أخيك الآن.”
“ألا يمكنني البقاء هكذا قليلًا فقط؟”
“آسف يا صغيري، لكن لا يمكن اليوم. عليّ أنا أختك أن نحضر الحفل الذي يستضيفه جلالته الإمبراطور.”
“……بشأن ذلك، ألا يمكنني الذهاب معكما؟”
رفع ليون رأسه ثانية وهو على وشك البكاء، يحدّق بآرثر بنظرات متوسلة.
كان من الممكن أن يلين القلب أمام تلك النظرة، لكن آرثر هزّ رأسه بحزم مجيبًا:
“آسف يا ليون، لا يمكن هذه المرة أيضًا.”
“ولماذا؟”
“لأن الدعوة وُجِّهت لي ولزوجتي فقط.”
“……هل جلالته أيضًا لا يحبني لأني طفل ملعون؟ لذلك لم يدعُني؟”
خفض ليون رأسه، وتقلّص وجهه بحزن عميق، وقد بدا منكسرًا.
فتألم وجه آرثر، وانعكس في ملامحه شعور بالأسى. أما غريس، التي كانت تراقب الحديث بينهما، فقد عقدت حاجبيها بارتباك.
(غريب… على حدّ علمي، كان اسم ليون موجودًا في قائمة المدعوين.)
لكن آرثر أكّد أن الدعوة لم تصله، ويبدو أنه لا ينوي اصطحاب الطفل.
نظرت غريس إلى آرثر تطلب منه تفسيرًا وهي تحرك يدها الموضوعة على ذراعه.
فأدار رأسه نحوها، ثم غطّى إحدى عينيه بيده.
(……آه. فهمت الآن.)
بمجرد رؤيتها تلك الإشارة، أدركت غريس كل شيء.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"