كان آرثر يحدّق في غريس وكأنه يحاول قراءة ما تخفيه خلف وجهها، ثم نقر بلسانه قصيرًا وقال:
“كما قالت الدوقة، كأمير من العائلة الإمبراطورية لا يمكنني أن أتجرأ على مخالفة أمر جلالته.”
“نعم، صحيح.”
“……حسناً. إذا كان هذا ما ترغبين به يا سيدتي، فسأرسل فورًا رسالة إلى القصر الإمبراطوري أُبدي فيها موافقتي على الحضور بكل سرور.”
“نعم، أرجوك.”
يبدو أن آرثر لم يكن راضيًا تمامًا عن مشاركة غريس، لذلك أعاد السؤال ليتأكد مرة بعد أخرى. لكن أمام إجابة غريس الواثقة من غير أي تردد، لم يجد بُدًا من الإيماء برأسه موافقًا في النهاية.
أطلق بعد ذلك تنهيدة خفيفة جدًا، ثم خفض بصره نحو ليون الذي لا يزال بين ذراعي غريس وقال:
“ليون، هيا اخرج من بين ذراعي السيدة. لا بد أن ذراعيها يؤلمانها الآن.”
“حسناً! أنزليه من فضلك!”
“آه، نعم.”
وما إن قال آرثر ذلك حتى أفلت ليون ذراعي غريس ونزل إلى الأرض مطيعًا.
أحسّت غريس بفراغٍ مفاجئ حين غاب دفء جسده الصغير من بين ذراعيها، ففركت ذراعها بتلقائية. لم يفت ذلك على آرثر، الذي نظر نحو ليون الواقف بجانبه وقال:
“ليون، عندما ترى السيدة مرة أخرى، لا تنسَ أن تشكرها وتدلّك ذراعيها.”
“نعم، يا أخي.”
“حسنًا، يجب أن أذهب الآن. وليون، حان وقت دروسك مع السير رولان في فنون الحرب. سأوصلك إلى المكتبة.”
“……لكنني لا أحب العلوم العسكرية.”
“ومع ذلك، إن أردت أن تصبح فارسًا حقيقيًا للإمبراطورية فعليك أن تتعلمها.”
مدّ آرثر يده بلطف ومسح على شعر ليون الذي كان يُخرج شفته السفلية دلالاً، ثم التفت نحو غريس التي كانت تنظر إلى ليون بإعجاب وقال:
“إذن، أنا وليون سنأخذ طريقنا الآن.”
“……آه، نعم. مع السلامة. ليون، ادرس بجد! سنلتقي مجددًا غدًا!”
“هيهي، نعم!”
“أراكم لاحقًا، يا دوقة.”
كما في لقائه الأول بها، حيّاها آرثر بوجه متصلّب وبنظرة متجنّبة.
بادلت غريس التحية بانحناءة خفيفة مترددة، ثم لوّحت لليون الذي كان يمسك بيد السير أوليفر. فضحك ليون بمرح ولوّح بيده الصغيرة بحماس قبل أن يعدو بخطوات سريعة خلف آرثر.
ضحكت غريس بخفة وهي تراقب ظهر الصغير يبتعد. وما إن غاب آرثر وليون عن نظرها حتى أرسلت سالي، التي كانت تقف بجانبها، إشارة بعينيها وقالت:
“علينا العودة إلى غرفة النوم الآن يا سيدتي. يجب أن نبدأ الاستعداد لحفل الزفاف.”
“……نعم، فهمت.”
أومأت غريس برأسها وتبعت سالي.
بحسب الرسالة، لم يتبقَّ على الحفل الإمبراطوري سوى خمسة أيام.
قبل قليل كانت تقول أمام آرثر بكل جرأة إنها بخير وستحضر، لكن عندما أصبح الأمر حقيقة ملموسة بدأ قلبها يخفق قلقًا وخوفًا.
كانت تخشى اللعنة، وتخشى أيضًا مواجهة عائلتها التي قادتها إلى موتها الأول.
لكن، لم يكن هناك مفر.
فمن أجل أن تعيش حياتها الثانية “على طريقتها” و”كذاتها”، كان عليها أن تواجه هذا الطريق.
(……إذن يجب أن أتمالك نفسي جيدًا.)
عضّت شفتها السفلى في خفاء، وهي تعاهد نفسها على ذلك.
—
عادت غريس إلى غرفة نومها بصحبة سالي.
كان الهواء في الغرفة دافئًا، فقد بدا أن الخدم أوقدوا النار في الموقد منذ قليل، حتى أن برودة يديها بدأت تزول.
خلعت غريس معطفها السميك بسرعة وجلست على المقعد الوثير بجانب النافذة. أخذت سالي المعطف لتعلّقه في الخزانة.
وبينما كانت ترتّب الملابس التفتت فجأة وسألت:
“آه!”
“مم؟ ما الأمر يا سالي؟”
“أين وضعتِ فساتين الحفل التي جلبتِها معك؟ هل هي في تلك الحقيبة؟”
“آه، نعم. لم أخرجها لأنني ظننت أنني لن أحتاجها الآن.”
“أوه، فهمت! عذرًا، كان عليّ أن أرتّبها منذ البداية.”
فتحت سالي الحقيبة وأخرجت فستانًا لتعرضه. كان فستانًا ضيقًا من قماش أزرق داكن مزين بأزرار فضية.
قطّبت حاجبيها وهي تقول:
“لا تقولي إنك حضرتِ الحفلات بهذا الفستان؟”
“……نعم، فعلت.”
“يا إلهي! إنه بسيط جدًا ليُسمى فستان حفلات. حتى وأنا التي لا تفهم في الموضة أستطيع أن أرى أنه متأخر كثيرًا عن آخر صيحات العاصمة.”
“……هاها.”
ضحكت غريس بخجل وحوّلت بصرها بعيدًا.
كان ما قالته صحيحًا، فالفستان كان قديم الطراز جدًا.
والسبب أنها لم تشتره بنفسها، بل كان من بقايا والدتها، دوقة ألبيرتون، التي رمته لها باستهزاء.
(عندما طلبتُ فستانًا لمراسم بلوغي، أخرجته من زاوية الخزانة ورمته في وجهي بتلك النظرة المزعجة…)
تذكرت غريس وجه والدتها حينها وابتسمت بمرارة.
أطلقت سالي تنهيدة قصيرة وقالت بأسف:
“……عذرًا، لقد تجاوزتُ حدودي.”
“لا، لا بأس. كلامك صحيح يا سالي.”
حدّقت غريس في الفستان البسيط، أقرب إلى البؤس منه إلى الأناقة.
فشعرت سالي بالذنب، فقد كانت تظن أن بساطة ملابس سيدتها نابعة من فضيلتها لا من الفقر أو الإهمال.
قالت وهي تتنهد بعمق:
“كان يجب أن أنتبه من قبل. لو علمت بحالك منذ البداية لكنت استدعيت الخياط حال وصولك.”
“إذن لا يمكنني ارتداء هذا الفستان حقًا؟”
“للأسف، نعم. إن حضرتِ به، فلن يتوقف لسان سيدات النبلاء اللواتي يعشقن الثرثرة.”
“……هاها.”
“سأستدعي الخياط غدًا، وسنطلب عدة فساتين جديدة، كما يجب شراء بعض الحُلي أيضًا.”
نظرت غريس إليها بارتباك، فهي تُقدّر اهتمامها، لكن لم يكن شعورُها مريحًا تمامًا.
ففي النهاية، بعد عدة أشهر، ستختفي من هذه الإمبراطورية. فلماذا تهدر أموال الدوقية على فساتين وزينة ستغدو بلا فائدة؟
ترددت قليلًا وقالت بهمس:
“……سالي.”
كانت تفكر في أن تشتري الفستان بنفسها بما تملك من مال قليل، لكن قبل أن تُكمل حديثها—
طَرقٌ خفيف على الباب.
“هل السيدة بالداخل؟”
سُمع صوت من الخارج.
اقتربت سالي من الباب وأجابت:
“نعم، سيدتي هنا.”
“آه، سالي! جيد أنك هنا. هل تفتحين لنا الباب من فضلك؟”
“أوه، نعم بالطبع.”
ما إن فتحت الباب حتى دخل عدة خدم وخادمات يحملون صناديق مخملية كبيرة مكدّسة بين أذرعهم.
وضعوها أمام غريس واحدًا تلو الآخر حتى تكوّمت عشرات الصناديق.
تفاجأت غريس وقالت:
“أوه، ما هذا كله؟”
ابتسم الخدم والخادمات من غير أن يجيبوا، ثم أخذوا يرتبون الصناديق لتكون في مجال نظرها.
وما إن انتهوا من ذلك حتى بدأوا بفتحها واحدًا بعد الآخر.
“آه!”
“……يا إلهي.”
ظهرت أمام عينيها أقمشة فاخرة لصناعة الفساتين، وجلود للأحذية، ومجوهرات مختلفة.
أقمشة حريرية بلون أخضر ربيعي، وأخرى بنفسجية ساحرة، وأخرى وردية كلون زهور الصيف.
جلود مصبوغة بألوان متعددة، عقود وأقراط من الألماس والياقوت والصفير والأماثيست…
وقفت غريس مذهولة أمام الأقمشة والأحذية والمجوهرات، لا يكاد يخلو شيء منها من الفخامة والجمال، ثم قالت بوجه شارد:
“ما… ما هذا كله…؟”
فأجاب أحد الخدم:
“إنها هدية من الدوق لسيادتكِ، سيدتي الدوقة.”
“كـ… كُل هذا؟”
“نعم. وإن لم يَرُق لكِ شيء مما ترين، فأخبرينا فقط، وسنستدعي الصناع مرة أخرى.”
“آه، لا… لا داعي لذلك. هذا أكثر مما يكفي. ليس هناك حاجة لاستدعاء الصناع من جديد.”
ابتسمت الوصيفة الواقفة قربها وقالت:
“إذن، رجاءً اختاري ما يعجبكِ. سنقوم بخياطة الفساتين وصنع الأحذية وفق مقاسكِ.”
حدّقت غريس بالأشياء المكدسة أمامها بعينين متحيّرتين، فما من شيء بينها لا يبدو ثمينًا أو رائعًا إلى درجة تفوق قدرتها على الاختيار.
كانت تدور ببصرها هنا وهناك عاجزة عن أن تمد يدها إلى أيّ منها.
فأمسكت سالي بيد سيدتها وربّتت عليها بحنان وهي تقول بوجه متحمس:
“برأيي، قماش الساتان الوردي مع جلد العجل الأبيض، ومعهما عقد وأقراط من الألماس على شكل قطرات الماء، سيليق بكِ كثيرًا يا سيدتي. ما رأيكِ؟”
“……هـــذا… هكذا تظنين؟”
“لماذا؟ ألا يعجبكِ؟ حسنًا، إذن ما رأيكِ بذلك الحرير الأزرق السماوي (ميكادو) مع أحذية الجلد الأزرق، وعقد الياقوت الأزرق؟ ألن يتناسب تمامًا مع بشرتكِ البيضاء؟ أيهما يروق لكِ أكثر بين الخيارين؟”
“……آه، بالنسبة لي… أظن أن كليهما مناسب.”
لم يسبق لغريس يومًا أن اختارت فستانًا أو مجوهرات بنفسها، لذا لم تعرف كيف تجيب سوى بالموافقة على اقتراح سالي.
حينها وضعت سالي إصبعها على ذقنها لحظةً وكأنها تفكر، ثم ما لبثت أن ابتسمت بوجه متهلل والتفتت نحو الخدم والخادمات الواقفين بانتظار الأوامر:
“إذن، سنحوّل كل ما ترونه هنا إلى فساتين وأحذية لسيدتي!”
“……ماذا؟!”
“أما المجوهرات فضعوها في الخزانة هناك. آه! لكن يجب أن يُخاط فستان الساتان الوردي أولاً وقبل غيره! سأرسل مقاسات سيدتي فورًا.”
“حسنًا، سالي.”
وما إن نطقت سالي بلهجة مفعمة بالحماس حتى بدأ الخدم والخادمات في ترتيب الصناديق بسرعة كما لو كانوا ينتظرون تلك اللحظة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"