بعد فترة صمت، قالت سالي بتردد:
“… لا أتذكر جيداً التواريخ الدقيقة أو الأحداث الصغيرة عن متى وكيف بدأ الأمر يسوء معهن، هل سيكون ذلك على ما يرام؟”
أجابت غريس بلطف:
“نعم. سيكون من المفيد إن أخبرتني بما تتذكرينه، دون إخفاء أي شيء.”
“… حاضر. فهمت. اسألي ما تشائين.”
“إذن، سالي، متى بدأ الأمر يتغير مع السيدات اللواتي تزوجن أو خُطِبن لدوقنا؟”
كانت غريس تفكر بأي سؤال تبدأ، ثم طرحت ما خطر في بالها أولاً. عندها بدت سالي وكأنها تنقب في ذاكرتها قبل أن ترد:
“الأوقات التي توفيت فيها السيدات اختلفت، لذا يصعب علي أن أحدد شيئاً واضحاً، لكن أولئك اللواتي بقين على قيد الحياة وبدأن بالجنون… في العادة يظهر الأمر سريعاً بعد أسبوع، وأحياناً لا يبدأ إلا بعد شهر تقريباً.”
“حقاً؟ وهل يمكنك أن تخبريني كيف بدأ الأمر يظهر عليهن؟”
“… الأمر يختلف. لكل سيدة ظهرت أعراض مغايرة، لذلك لا أستطيع أن أقول إنهن تشاركن شيئاً واحداً. على سبيل المثال: السيدة إلكترا، بعد أسبوعين من الزواج، قالت إنها ترى أوهاماً في غرفة نومها. أما السيدة بيانكا فقد أصبحت تشكو من أن كل ماء أو طعام له طعم دموي أو زنخ، وكانت تثور غضباً. والسيدة رينا كانت تشعر أن جسدها كله مليء بالقمل أو الحكة فكانت لا تتوقف عن خدش نفسها.”
“لكن في الحقيقة لم يكن هناك شيء، أليس كذلك؟”
“صحيح. رأيتها بنفسي، السيدة إلكترا كانت وحدها في غرفتها، والماء والطعام لم يكن بهما أي مشكلة. لم نجد أي حشرات كذلك.”
“إذن كله كان مجرد أوهام يرونها ويسمعونها ويشعرون بها.”
هزّت غريس رأسها وهي تستوعب ما قيل. ما يجمع بين الحالات لم يكن سوى اضطراب في الحواس. فهل يعني ذلك أن ما أصابهن حقاً كان “اللعنة” المرتبطة بالدوق آرثر فيليكس؟
وبينما كانت غريس تغرق في التفكير بوجه متجهم، سألت سالي من جديد:
“وماذا عن الأشخاص الذين كنّ يلتقينهم؟”
“ماذا تقصدين بالأشخاص؟”
“أعني أنه من الممكن ألا تكون اللعنة السبب وحدها، بل ربما قام أحد أعداء الدوق بإيذائهن عمداً. فهل هناك شخص محدد كنّ جميعاً يعرفنه أو التقينه بعد الزواج؟”
سالي أطرقت قليلاً ثم أجابت:
“… السيدة إلكترا مثلاً، جاءت من دوقية رويين ولم يكن لها تقريباً أي معارف هنا في الإمبراطورية. أما السيدة بيانكا فبطبعها كانت عصبية وحادة المزاج، لذلك كانت تتجنب الاختلاط بالناس. أما السيدة رينا أو السيدة كارين فكنّ أكثر انفتاحاً، لكن يقال إنهن أنهين جميع علاقاتهن الاجتماعية منذ لحظة الخطبة.”
“… أنهين علاقاتهن الاجتماعية؟”
“نعم. ولهذا فإن الأشخاص الوحيدين الذين التقينهم مباشرة بعد الزواج كانوا: جلالة الإمبراطور، أفراد العائلة الإمبراطورية، بعض النبلاء المرتبطين بالأسرة المالكة، وأيضاً والدكِ، دوق ألبيرتون.”
“… والدي؟”
فوجئت غريس حين سمعت اسم والدها يخرج من فم سالي. لكن سالي، وهي تلاحظ استغراب غريس، مالت برأسها قليلاً وقالت كأنها تذكرها بأمر بديهي:
“نعم. ألم تكوني تعرفين؟ أسرة ألبيرتون تحضر دوماً حفلات الزفاف الملكية أو خطوبات الأسر النبيلة الكبرى، فهم يلقون تعاويذ بركة خاصة على العرسان الجدد.”
“… لم أكن أعرف. كما تعلمين يا سالي، لم أولد بقدرات سحرية، ولذلك كنتُ دائماً مُستبعدة من شؤون العائلة الكبيرة.”
“… آه، صحيح. أعذريني، لقد تسرعت في الكلام.”
“لا بأس. … فهمت الآن.”
تجاهلت غريس اعتذار سالي، لكنها أسقطت بصرها تفكر ملياً.
إذا جمعت المعلومات:
كل الزوجات أو الخطيبات أصبن بالجنون في غضون أسبوع إلى شهر من الزواج.
الأشخاص المشتركون الذين قابلوهم قبل ذلك: الإمبراطور، أفراد العائلة المالكة، بعض النبلاء… ووالدها، ربّ أسرة ألبيرتون.
لكن لا عرض كان مشتركاً بينهن، ولا شخص مميز باستثناء والدها.
(… هل يمكن أن يكون والدي؟)
تصلبت ملامح غريس.
(لا، هذا غير ممكن. والدي يركض وراء السلطة دائماً، فكيف يجرؤ على إلقاء لعنة على زوجات أو خطيبات من العائلة الإمبراطورية؟)
فهل يعني ذلك أن ما يحدث بالفعل هو بسبب لعنة تحيط بالدوق آرثر فيليكس نفسه؟
غير أن هناك ما لم يكن ينسجم مع هذه الفرضية: قضية ليون.
فسألت غريس من جديد:
“سالي، سؤال أخير. زوجة الدوق الراحل، أي والدة ليون، قيل إنها توفيت فقط بسبب حمى النفاس… أليس كذلك؟ إذن لماذا يعتبر الناس أن ليون أيضاً ملعون؟”
ابتسمت سالي بمرارة وأجابت:
“هل تعلمين أن السيدة الكبرى، والدة الدوق الحالي، كادت أن تموت أثناء ولادته؟”
“ماذا؟ حقاً؟”
“نعم. نزفت كثيراً أثناء الولادة، حتى أن الطبيب آنذاك طلب تجهيز الكفن لأنه لم يكن يظن أنها ستنجو. يقال إن الدوق السابق، والد الدوق الحالي، كان في قمة اليأس حينها.”
“يا إلهي…”
“لكن، وكأنه معجزة، استعادت السيدة الكبرى وعيها بعد ثلاثة أيام، وتعافت. إلا أن شخصيتها تغيّرت تماماً بعد ذلك؛ من امرأة نشيطة مرحة إلى عصبية وحادة الطباع. وبعد سنوات طويلة، حملت بليون.”
“… آه.”
“ليون، ما ذاك هناك؟”
“إنه شجر!”
“صحيح! هذا يُسمى شجر لاينيـا، ويُقال إنه يظل على نفس هيئته طوال الفصول الأربعة. لذلك يُلقب في العاصمة بشجرة الأشباح. بينما تُنبت الأشجار الأخرى أوراقًا جديدة في الربيع والصيف، يبقى هذا الشجر مجردًا وعاريًا هكذا.”
“حقًا؟”
كان الشتاء قد غطى كل شيء، فلا يُرى سوى الثلج المتساقط بالأمس والأشجار اليابسة المدفونة تحته، ومع ذلك كان الاثنان يتحدثان بدهشة وحماسة كما لو كانا يشاهدان المنظر لأول مرة.
وفي تلك الأثناء، سمع ليون وقع خطوات من الجهة المقابلة للحديقة فاستدار وصاح:
“آه! يا أخي!”
التفتت غريس نحو الصوت، فإذا بآراثر يقف هناك مرتديًا قناعًا أسود. لم يكن يرتدي بزته الرسمية المعتادة، بل ثيابًا أكثر راحة. رفع يده قليلًا بشكل متردد ردًا على مناداة ليون له.
نظرت غريس إليه بدهشة، وحين التقت عيناه بعينيها خفضت بصرها مرتبكة.
ولم يكن ذلك غريبًا، فهذه كانت المرة الأولى التي تراه فيها منذ تلك الليلة حين أخبرها أثناء نزهتهما ألا تقترب منه بصفة ودية، ثم افترقا. الكلمات القاسية التي تبادلاها حينها جعلت الموقف بينهما أكثر جفاءً من لقائهما الأول.
لاحظ آرثر ذلك، فتجمدت ابتسامته قليلًا، لكنه ما لبث أن استعاد ملامحه الطبيعية حين رأى ليون يركض نحوه تاركًا يد غريس.
“هل أنهيت عملك يا أخي؟”
“نعم. أنجزتُ ما كان عاجلًا.”
“إذن تعال تتمشى معنا أنا وأختي الكبرى!”
تشبث ليون بردائه بحماس وثرثر، فابتسم آرثر وربت على رأسه بلطف.
لكن غريس فوجئت بما قاله ليون، واتسعت عيناها دهشة. وحتى آرثر، حين سمع ذلك، تلألأت عيناه المختلفتا اللون من خلف القناع بوميض غريب.
التفت ببطء نحو غريس، فالتقت نظراتهما مجددًا. شعرت غريس بارتباك أكبر أمام عمق عينيه المزدوجتي اللون، وانكمشت ملامحها. كذلك آرثر، بعد أن تجمدت ابتسامته، صرف بصره أولًا نحو ليون الذي كان يتشبث به.
“أقدّر اقتراحك، لكن يا ليون…”
“… لا يمكن؟”
بدا وكأن آرثر يحاول الرفض بلطف، فارتسمت على وجه ليون ملامح قريبة من البكاء. قبض على ردائه بقوة وكأنه يتوسل إليه. تنهد آسر بحرج وأجاب:
“أنا لا أمانع، لكن اختك الكبرى قد تشعر بعدم الارتياح.”
“… حقًا؟”
“نعم.”
حينها التفت ليون بعينيه المتوسلتين نحو غريس:
“هل يزعجك أن تتمشي مع أخي يا أختي؟”
تجمدت غريس في مكانها، ووجدت الطفل قد اقترب منها وتشبث بفستانها ينظر إليها برجاء. حقًا، كان صحيحًا أنها لا تشعر بالراحة مع آرثر، لكنها لم تستطع قول “لا” في وجه وجه ليون الذي بدا على وشك البكاء.
(آه، ماذا أفعل؟)
بين نظرة آرثر الصارمة ووجه ليون المتوسل، زفرت غريس تنهيدة قصيرة ثم انحنت نحو الصغير قائلة:
“لا يا ليون، لا أشعر بعدم الارتياح.”
“إذن يمكننا أن نتمشى جميعًا؟”
“… هاه؟ آه… نعم. فلنتمشَّ.”
“رائع! شكرًا لكِ!”
ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه ليون بعد موافقتها، وقفز فرحًا. ابتسمت غريس بدورها وهي تنظر إلى سعادته الغامرة، وفكرت بأنها أحسنت حين استجابت لرغبته. ربتت على رأسه بحنان، فاستدار ليون بسرعة نحو آرثر وهتف:
“أخي! تعال هنا! لنسير معًا!”
توقف آرثر للحظة ثم اقترب ببطء حتى وقف بالقرب منهم، محافظًا على مسافة خطوة من غريس. عندها وقف ليون بينهما ومد يديه الصغيرتين قائلاً:
“أيدينا! لنمشِ ونحن ممسكون بها، نعم؟”
ولم يمنح كليهما فرصة للرد، إذ قبض بيديه الصغيرتين على أيديهما. رفع رأسه بعينين واسعتين كأنه يرجوهما أن يمضوا هكذا.
تبادل آرثر وغريس نظرات محرجة وهما واقفان بجانبه.
“… إذن، لنبدأ يا سيدتي.”
“… آه، نعم.”
بخطوات مترددة، تحرك آرثر أولًا، ثم تبعه ليون مسرورًا وهو يجذب يد غريس. اضطرت هي بدورها إلى السير بجانبه.
“هيهي.”
وهكذا بدأت نزهة يملؤها الصمت والحرج بين الاثنين، بينما كان ليون وحده يضحك ويهز أيديهما فرحًا.
بالنسبة له، لم يكن هناك أسعد من أن يجتمع في وقت واحد مع أحب شخصين عنده: أخوه وزوجة أخيه.
لم تستطع غريس إلا أن تبتسم حين رأت سعادته.
“أيعجبك الأمر لهذه الدرجة يا ليون؟”
“نعم! أنا سعيد جدًا! كأنه حلم!”
“حقًا؟”
“نعم!”
ضحكت غريس من صدق ابتسامته، لكن ما إن أدارت رأسها حتى التقت عيناها بعيني آرثر … كان يبتسم. ابتسامة هادئة لم ترها على وجهه من قبل، حتى القناع لم يستطع إخفاءها، وعيناه الزاهيتان كالجواهر ازدادت بريقًا. تجمدت غريس في مكانها، تحدق فيه مذهولة.
“آه!”
لكن ليون، الذي واصل المشي وهو ممسك بيديهم، لم ينتبه إلى أنها توقفت، فتعثر وفقد توازنه. فزعت غريس وهتفت:
“أوه! ليون!”
“اللعنة!”
أسرعت لتحتضنه وتتلقى السقوط بدلًا منه، جاثية على الأرض دون أن تهتم إن اتسخ فستانها بالثلج المذاب. أرادت أن تمنع عنه أي أذى حتى لو أصابها هي.
لكنها لم تشعر بأي صدمة متوقعة.
نظرت إلى الأسفل بدهشة، فإذا بليون بين ذراعيها، بينما كان ذراع آرثر القوي يحيط بخصرها وخصر الطفل معًا.فور أن أدركت الموقف، احمر وجهها بشدة وأطلقت صرخة عالية:
“آآه!”
“… ابقي ساكنة لحظة. إن تحركتِ كثيرًا ستسقطين فعلًا.”
قال آرثر بنبرة مطمئنة من خلفها، بينما شد من احتضانه لهما. ثم اعتدل واقفًا وهو يضم الاثنين معًا قبل أن يتركهما ببطء. تطلع إليهما بعينين فاحصتين وسأل:
“هل أنتما بخير يا سيدتي؟ ألم تُصبِي بشيء؟ وأنت يا ليون، لم تتأذَ، صحيح؟”
“نعم، أنا بخير يا أخي.”
“……”
“…… سيدتي؟”
على عكس ليون الذي أجاب بثبات وهو في حضنها، لم يصدر من غريس التي تجمدت ملامحها أي رد. عندها أعاد آرثر السؤال، لتنتبه غريس فجأة وتجيب مرتبكة:
“…… ها؟ آه، نعم. أنا بخير.”
“هل أنتِ بخير حقًا؟ وجهك شديد الاحمرار. إن لم تكوني على ما يرام فسوف أستدعي الطبيب حالًاـ”
“آه، لا! ل، لا داعي. أنا بخير، بخير حقًا. وجهي فقط… فقط لأنك فجأة أمسكتَ بي… أو بالأحرى احتضنتني، ففزعت لا أكثر……!”
قالت ذلك متلعثمة، بينما كان آرثر ينظر إليها بقلق بالغ، مما زادها ارتباكًا واحمرارًا.
عندها تصلبت ملامحه قليلًا وقال بنبرة جادة:
“…… أعتذر. إن كنتِ قد فزعتِ لأنني وضعت يدي على جسدك دون استئذان، فأنا أقدم اعتذاري.”
“…… لا بأس. لم يكن أمامك خيار آخر.”
“مع ذلك……”
“قلتُ لا بأس. حقًا، لا بأس.”
لوّحت غريس بيدها نافية، محاولة إنهاء الموضوع، لكنها ازدادت ارتباكًا بسبب أسلوبه الرسمي في الاعتذار. ولما رآها ترفض مواصلة الحديث عن ذلك، أغلق آرثر فمه أخيرًا.
“……”
سقط الصمت مجددًا بينهما.
خفضت غريس بصرها نحو رأس ليون المستكين في حضنها، بينما آرثر أدار وجهه مبتعدًا، متيبس الملامح.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"