تدفقت أشعة الشمس الباهرة من خلال النوافذ المزينة بزجاج ملون فخم بألوان شتى.
داخل قاعة مأدبة ضخمة، تتسع بسهولة لمئات الأشخاص، جلس آل “ألبيرتون” على طاولة طعام طويلة لدرجة أن من في طرفها لا يكاد يرى الطرف الآخر. هناك كان الدوق وزوجته وبناتهما الاثنتان، “ماريان” و”غريس”، يتناولون الطعام.
“… غريس، لديّ أمر أود إخبارك به.”
قطع دوق ألبيرتون الصمت المفروض على مائدة الطعام، ليلتفت فجأة إلى ابنته الثانية “غريس”.
وعلى عكس والدَيها وأختها الكبرى “ماريان” التي جلست ملاصقة لهما، جلست “غريس” وحيدة في أقصى الطرف البعيد من الطاولة تتناول طعامها بهدوء. عند سماع صوت أبيها، رفعت رأسها ببطء.
“نعم، تفضل يا أبي.”
“جاءنا عرض زواج لكِ، بل والأدهى أن صاحب الجلالة الإمبراطور هو من رتبه.”
تأملت “غريس” والدها الدوق ببرود، وهو يحدثها لأول مرة بصوت يحمل شيئاً من اللطف، يخبرها عن زواجٍ مدبَّر لها.
لقد بلغت العشرين، وهذا أول عرض زواج يصلها، بل ومن قِبل الإمبراطور نفسه. موقف يستحق الدهشة والذهول، لكنها أجابت بلا أدنى انفعال:
“… حقاً؟ ومن هو الخاطب؟”
لم يخفَ على الدوق برودها ولا ردّها الفاتر الذي يكاد يبلغ اللامبالاة. لكنه ما لبث أن رسم ابتسامة ودودة وأجاب:
“إنه دوق “آرثر فيليكس”، ابن عم جلالة الإمبراطور.”
“… يا إلهي!”
“أمعقول؟ الدوق فيليكس نفسه، أقوى فرسان الإمبراطورية وصاحب أوسع المقاطعات؟”
“غريس، يا لها من نعمة كبرى أن تُعرض عليكِ هكذا فرصة!”
وفور أن أنهى الدوق كلماته، أبدت والدتها وأختها “ماريان” حماسة مصطنعة ووجوهاً متألقة، كأنما قد نزل عليهم أرفع الشرف.
غير أن “غريس” لم ترَ في أعينهم إلا رياءً بارداً، فأطلقت في سرها ابتسامة ساخرة متجمدة.
“شرف، هه…”
حتى وإن كان الخاطب يحمل أرفع الألقاب وأقوى النفوذ، أليس هو نفسه الذي يُقال إن كل امرأة ارتبطت به إما ماتت وإما جُنّت؟ أليس هو الذي يُعرف بـ”الدوق الملعون… الوحش”؟ فهل حقاً يمكن تسمية هذا شرفاً؟
رفعت “غريس” بصرها إلى وجوه أسرتها التي كانت تترقب منها رداً، وجوه تتصنع اللطف لأول مرة فقط لتفرض عليها قبول هذا الزواج السياسي.
(حينها لم أكن أدرك… لم أكن أعلم أن رفضي لهذا الزواج كان ممكناً).
نعم، حينها ظنت – بغباء – أنهم يعاملونها كابنة، كعائلة. وحتى اللحظة التي لفظت أنفاسها وهي تموت مسمومة بعد يومين فقط من رفضها الزواج واللجوء إلى الدير، كانت لا تزال تصدق ذلك الوهم.
لكن بعد أن عادت إلى الحياة، بات كل شيء واضحاً.
لقد احتفظ بها آل ألبيرتون داخل العائلة فقط لأنها ابنة “قد” تنجب يوماً طفلاً ذا موهبة سحرية، لا أكثر. كانوا بحاجة إليها لتزويجها بنبلاء أو أمراء يطمعون بذرية تحمل القوة السحرية.
وحين رفضت الزواج السياسي، سقطت قيمتها لديهم تماماً، فصار موتها الوسيلة الأسهل للتخلص منها دون أن يتعرضوا لغضب الإمبراطور بسبب رفض وساطته في الزواج.
الخيارات أمامها: زواج مدبر… أو موت محتم.
وفي حياتها الثانية، ابتسمت “غريس” بهدوء وهي تجيب:
“أجل، إنه خبر مفرح لي حقاً.”
“هل يعني هذا أنكِ موافقة على الزواج؟” قال الدوق وقد تلألأت عيناه بالرضا.
ابتسمت له ابتسامة لطيفة وردّت:
“نعم، سأقبل الزواج منه.”
وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، توردت وجنتاها بحمرة زاهية.
وجه اعتاد أن يكون بارداً خالياً من الحياة تحت وطأة ازدراء العائلة، أزهر الآن بابتسامة نقية كالطفلة. كانت تلك ابتسامة من وجد أخيراً فرصة للانعتاق من قدر الموت، ليبدأ حياة ثانية.
بعد أن أنهت طعامها مع عائلتها وعادت إلى غرفتها، كان أول ما فعلته “غريس” هو طرد الجميع من حولها.
“أريد أن أبقى وحدي، اخرجوا جميعاً.”
“كما تأمرين يا آنسة.”
وما إن سمعت الخادمات الأمر حتى انحنين بسرعة وغادرن الغرفة وكأنهن كن بانتظار اللحظة ليخرجن مسرعات، متحمسات لنشر خبر خطبة “الوحش والدوقة الثانية”.
ابتسمت بمرارة وهي تقترب من النافذة، تنظر إلى البحيرة الفسيحة والغابة الممتدة وراءها.
(لم أظن أنني سأرى هذا المنظر الجميل مرة أخرى).
قبل أشهر قليلة فقط، كانت قد رفضت الزواج، وقطعت علاقتها بعائلتها وغادرت القصر لتصبح راهبة.
أرادت أن تتحرر من ثِقَل اسم “ألبيرتون”، رغم أن جسدها حُبس داخل جدران الدير، لكنها حلمت بروح حرة. وما كانت تعلم أن ذلك القرار كان طريقها إلى النهاية.
فبعد يومين فقط من دخولها الدير، وجدت نفسها تموت مسمومة. السم كان مخبأً في كعكة عيد ميلاد قُدمت لها من يد والدتها الدوقة.
لقمة واحدة فقط كافية لإذابة الأحشاء، لكنها أكلت القطعة كاملة فرِحةً باهتمامٍ نادرٍ من أمها. وكانت النتيجة أن لفظت أنفاسها وهي تتلوى في فجر بارد، وحيدة في الدير، تسعل الدم وتستجدي الرب بصلواتها:
(يا رب… أنقذ عبدتك التعيسة… لا أريد أن أموت هكذا).
لم تكن تريد الموت. كان موتها ظلماً كبيراً قبل أن تعرف للحياة طعماً.
حتى لو كان الخيار هو الزواج من “الوحش”، أو حتى من وحش حقيقي، لقبلت به فقط لتبقى حية.
صرخت وتوسلت حتى آخر نفس.
وحين أغمضت عينيها مستسلمة للألم الممزق لأحشائها، فتحتها لتجد نفسها قد “عادت” إلى تلك اللحظة، إلى القصر الفخم، إلى السقف المذهب، إلى سريرها الكبير…
لقد عادت إلى اليوم الذي قُدم لها فيه عرض الزواج من دوق الوحش.
حينها أدركت أن الرب قد استجاب دعاءها.
(لقد عُدت إلى الحياة… فكيف لي أن أكرر نفس الخطأ وأموت ثانية؟)
ومنذ تلك اللحظة بدأت تفكر بجدية: كيف ستنجو هذه المرة؟
بعد يوم كامل من التفكير دون أن تذوق طعاماً أو شراباً، خرجت بقرار واحد: قبول الزواج.
(لقد رفضته سابقاً، وادعيت أنني سألجأ للدير لأتجنب أوامر الإمبراطور… وهذا ما قادني إلى موتي).
إذن، هذه المرة ستقبل. وستتزوج الدوق. وبذلك تنجو من سطوة الإمبراطور ومن مؤامرات عائلتها.
(لكن… ماذا بعد؟ هل سأظل عالقة في زواج بلا حب مع الوحش؟)
وبعد تفكير طويل، وجدت الخطة المثالية: استغلال “اللعنة”.
فالناس يعتقدون أن كل امرأة تقترن بالدوق إما تموت أو تجنّ. إذاً، لمَ لا تتظاهر بالجنون؟
ستخدع الجميع بتمثيلها، ثم تُنفى “طوعاً” إلى جزيرة بعيدة بحجة علاجها. وفي الطريق ستتظاهر بالاختفاء وتهرب لتعيش في الغابة، متوارية عن الأنظار.
وبعد أيام قليلة، سيفتر حماس الناس للبحث عنها، وتصبح حياتها ملكاً لها وحدها.
عندها فقط ستتحرر من لعنة “العاجزة آل ألبيرتون”، وتعيش كـ”غريس” إنسانةً كاملة لا تابعة لأحد.
(خطة مثالية).
ابتسمت برضا، ورفعت صلاتها مجدداً للرب شاكرةً له من أعماق قلبها.
رغم أن قرارها كان سيُثقل كاهل دوق الوحش “آرثر فيليكس”، إلا أن حياتها كانت عندها أَولى وأغلى من أي شعور بالذنب تجاهه.
ضمت “غريس” يديها بهدوء وأغمضت عينيها.
(يا رب، سامحني… إنني أريد أن أعيش).
أرجوك، ساعدني لأحيا هذه الحياة الثانية التي منحتني إياها كاملة غير منقوصة.
هكذا، واظبت “غريس” على الصلاة بلا انقطاع، تقمع في قلبها كلاً من الخوف المتصاعد وومضات تأنيب الضمير تجاه دوق الوحش.
—
ما إن وافقت “غريس” على عرض الزواج، حتى انطلقت الاستعدادات على نحو سريع وخاطف.
فقد التقت رغبة الإمبراطور – في إنقاذ ابن عمه التعيس الذي كانت كل خطوبة له تنتهي بموت أو جنون خطيبته – مع رغبة أسرة ألبيرتون – في التخلص من عار ابنتهم الوحيدة التي وُلدت دون موهبة سحرية – التقتا التقاءً مثالياً.
ولهذا، اختُزلت جميع الطقوس التقليدية المرهقة للزواج، من تبادل الهدايا بين العروسين، وتجهيز فستان الزفاف في بيت العروس، وإقامة حفلة وداع للابنة المقبلة على الزواج… اختُزلت كلها في غضون ثلاثة أيام فقط.
وبعد أسبوع واحد من موافقة “غريس”، أقيم حفل زواجها من دوق “آرثر فيليكس” في الكاتدرائية العظمى بمدينة “كينغ ساينترا”، عاصمة الإمبراطورية.
كانت الكاتدرائية، التي شُيّدت مع تأسيس الإمبراطورية، مزدانة بأبهى أنواع الورود البيضاء من زنابق وباقات ورد أبيض فاخر، وقد تدلت الأستار البيضاء الناصعة في أرجاء المكان لتضفي على الحفل بركة سماوية.
ومهما قيل في الخفاء من شائعات مظلمة، فقد كان هذا – في الظاهر – زواج أعظم فرسان الإمبراطورية من ابنة أعرق عائلات السحرة الشرعيين. لذا، جاء الحفل أبهى وأفخم من أي زفاف آخر عرفته الكاتدرائية.
العروس “غريس” ارتدت فستاناً أبيض محتشماً يغطي العنق والذراعين، وتدلى منها حجاب طويل لا يقل عن ثلاثة أمتار، وهي تقف عند بوابة الكاتدرائية في انتظار المناداة عليها.
وبجوارها، أسندتها خادمتان لمساعدتها على التقدم.
“لتتفضل الآن العروس، الآنسة غريس ألبيرتون، بالدخول إلى قدس الأقداس.”
هكذا انطلق صوت نائب الأسقف من داخل الكاتدرائية.
استندت “غريس” إلى مساعدتيها، وخطت خطوة إثر أخرى نحو المنصة حيث يقف الأسقف. تقدمت بخفة وثبات، متجاهلة العيون الكثيرة المصوبة إليها من كل صوب، إلى أن بلغت المنصة.
وعندها فقط، التقت عيناها لأول مرة بوجه عريسها، دوق الوحش.
(… هذا إذن هو دوق الوحش).
نسيت “غريس” خوفها للحظة، مأخوذةً بمشهد “آرثر فيليكس” الذي لم تره من قبل.
ومن خلف حجابها السميك، لمحت قواماً شامخاً يزيد طولاً عنها برأس ونصف، جسد قوي يليق بلقب “أعظم فرسان الإمبراطورية”.
كان يرتدي زياً عسكرياً أسود يعلوه معطف بنفسجي داكن، وقد غطى وجهه كله بقناع أسود. مظهره كان أقرب إلى فارس يحضر حفلاً تنكرياً سرياً لا إلى عريس في زفاف.
(لكن… أليست الشائعات تقول إن مجرد الاقتراب منه يُجمّد الجسد رهبةً من رائحة الدماء واللعنة التي تلاحقه؟)
غير أن ما رأته بعينيها كان مغايراً. فمن خلف القناع بدا فمه متيبساً بتوتر واضح، توتر بشري عادي، لا وحشي.
ولفرط غرابة الأمر، ظلّت “غريس” تحدق فيه بفضول، مطيلة النظر بغير وعي إلى درجة تكاد تُعد وقاحة.
عندها ارتعشت عيناه من خلف القناع، متوترة كأنما يتهرب من نظراتها النافذة.
“لتقم الآنسة غريس ألبيرتون بكشف حجابها وتنظر في عيني زوجها السيد آرثر فيليكس.”
طال التحديق بينهما حتى نطق الأسقف، معلناً بدء آخر مراحل الطقس المقدس للزواج.
وعندما مالت “غريس” قليلاً إلى الأمام، أسرعت الخادمتان برفع الحجاب الطويل عن وجهها، كأنهما كانتا تترقبان تلك اللحظة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات