كان “جين” يعبث بالخاتم في إصبعه، وهو يحدّق بذهول في “داميان ” الذي كان يلوّح بسيفٍ يكاد يكون بطول جسده.
“…….”
‘ترى ما الذي تعلمه في القاعدة العسكرية حتى صار أساسه متينًا إلى هذا الحد وهو مجرد طفل؟’
وحين فحص “جين” تدفقَ الطاقة السحرية في جسد الفتى، لاحظ وجود طاقةٍ غريبةٍ متشابكةٍ بها، طاقةٌ لا يُفترض أن تمتزج معها مطلقًا.
‘لابد أن تكون هذه الطاقة مرتبطة بتلك المخلوقات السحرية التي كان الامير إنداميون يدرسها.’
أسند “جين” ذقنه إلى كفه وتنهد بعمق وهو يفكر.
‘يا تُرى، هل “روين إستيلا” تعرف حقيقته أم تجهلها؟ على أي حال، تسليمه إليّ كان قرارًا صائبًا تمامًا.’
بصراحة، ما من أحدٍ في هذه القارة قادرٍ على تحمّل تلك الطاقة السحرية سواه.
لكن المشكلة أنّه إن أخطأ قليلاً، فقد يموت ميتةً مفاجئة.
لم يكن قد استيقظ بعد، غير أنّ طبيعته القوية —أو ربما دماء أسرة إستيلا التي تجري في عروقه— جعلت كمية السحر داخله كبيرةً للغاية.
ويبدو أن المنشأة كانت تحقنه دوريًا بطاقةٍ مجهولة المصدر، ولهذا بدأت قدرته على التحمل تبلغ حدّها الأقصى.
لم يكن “جين” يعرف التفاصيل، لكنه تخيّل الأمر كأنك تصب ماءً باردًا على زيتٍ يغلي — أي: تضيف سحرًا إلى طاقةٍ تغلي أصلًا، ثم تواصل تسخينها بلا توقف.
في الوقت الحالي، ما تزال طاقته السحرية الوفيرة تمنع الانفجار، لكن إن استمرّ الأمر، فسوف ينفجر حتمًا.
قال “جين”:
“سيدي الصغير، هل رأسك بخير؟”
فتوقّف “داميان ” عن التلويح بسيفه وقطّب حاجبيه.
كانت ردة فعله مألوفةً جدًا، تعبير شخصٍ معتادٍ على كبت الألم.
أشار “جين” بإصبعه إلى منطقة المعدة وسأل:
“أظن أن الوقت قد حان لظهور الأعراض. ألا تشعر بالغثيان؟”
عضّ “داميان ” شفتَيه بقوة دون أن يجيب، فتنهد “جين” طويلاً.
‘لماذا بحق السماء أجد نفسي متورطًا بهذا العمق مع أسرة إستيلا؟’
ثم خطر بباله صوتٌ خفيفٌ، مرحٌ، لن يسمعه ثانيةً أبدًا.
‘إذا قضيت حياتك تشكو المجتمع فقط، فلن ينتهي بك الحال إلا بالتعفن يا هذا. تخلّص من أسباب تذمرك بدلًا من التذمر! لا تملك الشجاعة لتفعل، ومع ذلك تصرخ خذوا حياتي~؟ في النهاية أنت الخاسر الوحيد، أيها الغبي. حتى إن أنقذتك، فماذا بعد؟ آه يا لحظي العاثر.’
‘كفّ عن التدخل.’
‘أوه؟ أنظر إليه! بأي عينين تحدق بي هكذا؟ لا حياة فيهما! هل أنت سمكة مسلوقة؟ أرِني بريقًا في عينيك، هيا، لامعًا ومليئًا بالحيوية!’
ولما رآه “جين” —ذلك الابن غير الشرعي لوليّ العهد— يحدّق فيه بعينين تشبهان عينيه في الماضي، لم يجد بُدًّا من أن يمسح وجهه بيديه بتعب.
قال بهدوء:
“لن يُتخلّى عنك، لذا تكلم بصراحة.”
كان الطفل يمتلك عقلًا ذكيًا جدًا، لكن “جين” لم يشأ أن يمنح هذا الشعور الغامض اسمًا.
لأن في ذلك جرحًا لكبريائه.
قال الفتى:
“سأتدبر أمري بنفسي.”
ردّ “جين”:
“عادةً، الأطفال في السابعة لا يستطيعون تدبّر أمرهم. ثم إن خالتكِ طلبت مني شخصيًا الاعتناء بك، لذا عليّ مراقبة حالتك، فتعاون معي قليلًا، أليس كذلك؟”
صحيح أن من كان “مستيقظًا” قد يستطيع في السابعة أن يعتمد على نفسه، فقد كان “جين” كذلك في عمره — عاش ونجا بمفرده.
فما بالك بطفلٍ يحمل دماء العائلة الإمبراطورية ممزوجةً بدم إستيلا؟ ما لم يتآمر عليه أحد لقتله عمدًا، فسيتمكن من النجاة بسهولة.
تابع “جين” قائلًا:
“كما ترى، خالتكِ شخص مميز أكثر مما تظن. إنها تميل للبقاء بجانبك أغلب الوقت، لذا إن أظهرت أنك متألم فستقلق عليك، أليس كذلك؟”
ارتجف “داميان ” للحظة عند سماع ذلك.
ومهما بلغ من الذكاء، فالطفل يبقى طفلًا في النهاية.
‘لأنك ذكي فستعرف أفضل. لو تُركت هنا من قِبَل روين إستيلا فسوف تُرمى إلى حالة أسوأ بكثير.’
لكن روين إستيلا ليست كذلك…
ارتسم على وجهه عبوس لا إرادي. ما الذي يحسده بالضبط؟ ألا يستحسن أن يشعر بالغيرة من طفلٍ في السابعة؟
حاول ‘جين’ إخفاء ما في داخله بابتسامة مجهدة. في المواقف المحرجة، أفضل حل هو الابتسام بلا تردد.
“متى لاحظت ذلك؟”
“هل هذا مهم؟ أخبرني بما جرى حتى الآن. أليس بيننا علاقة سرية من خادم وسيد؟”
اقترب ‘جين’ من ‘داميان ‘ بابتسامة مائعة ثم جلس مفترشًا الأرض أمامه وقال بكل هدوء:
“سيدة إستيلا تحاول قدر الإمكان ألا تغرس فيك ذكريات تُؤذيك، لكن بصراحة، أليس أنت نفسك لا تعلم ما الذي يقلقها ويحذّرها؟”
عند قول ‘جين’ ذلك، ارتعشت حواجب ‘داميان ‘ الجميلة المرتبة بدقةٍ أكثر من سنّه، كما لو أن القول أصابه في محله.
“السيدة تحمل مبدأً غريبًا نوعًا ما بالنسبة لنا المجرمين. ليس ذلك سيئًا بالطبع. بل على العكس، أظنني أحترمها جدًا؛ قلّما يهتم أحد النبلاء بالبسطاء إلى هذا الحد.”
ضغط ‘جين’ بإصبعه على صدر ‘داميان ‘ قرب منطقة الصدر وبدأ يركز. بما أنه موظف لدى روين إستيلا ، كان يجب أن يُخبر بصراحة عن حالة ‘داميان ‘، لكن لو فعل ذلك فقد يُعرّي هويته الحقيقية.
بالرغم من أنه فعل بالفعل الكثير الذي قد يكشفه…
‘لماذا ليستُ فضوليًة؟’ ارتفعت في صدره مشاعر بسيطة من الظلم ثم كتمها؛ لم يكن لديه سبب عادل لتبرير امتناعه.
نزع ‘جين’ يده من صدر ‘داميان ‘ وقال:
“كما تعلم، طاقتان مختلطتان الآن، لذا فالمجموع الكلي للمانا والقدرة التدميرية قد ازدادا لكن الوضع غير مستقر للغاية. ألم أخبرك بذلك سابقًا؟”
فغضّ ‘داميان ‘ وجهه بطبعه الحاد وأطبق على شفته. لم يستطع ‘جين’ إلا أن يبتسم بصوت خافت. يا له من طبع.
“والآن نحن على شفا الانفجار، ولا أعرف طريقة لتحكّم هذا القوة!” قال ‘جين’ مبتسمًا ابتسامة واسعة، فقطب ‘داميان ‘ جبينه وردّ بحدة:
“ما الذي تقترح أن نفعل؟”
‘جين’ رفع كتفيه مبديًا لا مبالاة متظاهرًا:
“ما الذي سنفعله غير أن نبحث عن طريقة بدايةً من اليوم. ألا أستطيع أنا أن أعود لتلك القاعدة العسكرية وأحضر طاقةً مجهولةً أخرى لأحقنها فيك؟ هذا أمرٌ لا يبدو مناسبًا للجسم أصلاً.”
ثم زفر ‘جين’ وقال بجدية:
“أخشى أن السيدة لن تسأل، لذا سأفعل ذلك بدلًا عنها: هل تسمح لي كسريتك أن أطرح عليك سؤالًا بسيطًا؟ أيها السيد الصغير.”
أسقط ‘داميان ‘ السيف الذي كان يحمله بصرخعة على الأرض، ووقف معقودًا ذراعيه ينظر إليه؛ كان ينطق بذلك دعوةً له ليتكلّم.
‘قدّمت تظاهرًا بالوقار أمام روين إستيلا ، فلماذا تصنع مني هكذا وتهتم بي وحدي كأنني من نفس فصيلتك؟’
رغم أن الموقف بدا سخيفًا قليلًا، إلا أن “جين” لم يجد الأمر خاليًا من اللطافة، فآثر أن يتجاهله.
ربما لأن الفتى يُشبه تلك المرأة أكثر مما كان يظن.
“ماذا كنت تفعل هناك بالضبط؟”
“……ماذا؟”
“أعني طريقة الأبحاث أو أساليب التدريب وما شابه ذلك.”
كانت “روين إستيلا ” قد قالت إنها لن تتعجل بالسؤال عن ماضيه المؤلم، وإنها ستنتظر حتى يكون الطفل مستعدًا تمامًا.
لكن بالنسبة إلى “جين”، ‘تفهم ذلك؟ مستحيل.’
رفع “داميان ” كمّه بهدوء، كاشفًا عن آثار الحقن التي بدأت بالكاد تتلاشى.
“كنت أُحقن دوريًا مرة كل أسبوع. نصفنا تقريبًا، خمسة من بين عشرة، لم يتحملوا وتم التخلص منهم.”
كان يتحدث وكأن الأمر لا يعنيه. لا ألم، ولا غضب، ولا حتى ظل انفعال — تمامًا على عكس ما كانت “روين إستيلا ” تخشاه.
كان أقرب إلى اللا مبالاة، أو ربما انعدام الإحساس.
لكن “جين” كان يعرف السبب. لم يكن الفتى بلا مشاعر، بل كان قد تخلّى عنها.
‘ما الفائدة من إظهار الألم أو الغضب؟ في النهاية، ما يعود إليك سوى اللامبالاة.’
قولك “أنا حزين” أو “يؤلمني” أو “لا أريد” لن يُغيّر شيئًا. لا أحد يستمع.
“تقول التخلص؟”
“الانفجار… كما ذكرت أنت.”
قالها “داميان ” وهو يُسدل كمّه بهدوء، وكأن الحديث لا يعنيه.
“أستطيع تحمّله، فلا تُخبر أحدًا.”
ضحك “جين” قائلًا:
“أتظن أنني مجنون لأُخبر السيدة بهذا؟ يجب أن تكون أنت من يخبرها بنفسك. تعلم أن هويتي سرية، أليس كذلك؟”
عبس “داميان ” بوجهه فورًا، بينما لوّح “جين” بيده بلا مبالاة وأردف:
“أعرف سبب صمتك وحرصك، لكن إن كان الأمر بسبب الانفجار، فلا داعي للقلق. لو كانت السيدة تنوي التخلص منك بسبب خطر كهذا، لما عرّضت نفسها للمخاطر وذهبت بنفسها إلى جحرٍ يعجّ بمخلفات تجارب الأمير إنداميون لتأخذك بيدها، أليس كذلك؟”
اشتدّ قبض “داميان ” على يده، و”جين” لم يستطع أن يُقرر إن كان الخوف أو الغضب هو ما جعله يتوتر.
ربّت “جين” على كتفه مبتسمًا بلطف.
“انفجارك المزعوم لا يدخل حتى ضمن قائمة مخاوف السيدة ، لذا من الأفضل أن تصارحها بسرعة. فهي كما ترى، تبالغ في اهتمامها بالآخرين بلا سبب وجيه.”
“…….”
رآه “جين” يعضّ شفتَه بصمت.
“أما بخصوص الانفجار، فسأكون قربك دائمًا، وسنتدبّر الأمر بطريقة ما.”
ابتسم “جين” بثقة عريضة. ‘في النهاية، ما دام لم يستيقظ بعد، فلن يحدث شيء خطير.’
صحيح أنّ هويته قد تنكشف، لكن ‘ما دمتُ لن أموت، فكل شيءٍ مقبول.’
أو هكذا أقنع نفسه على الأقل.
التعليقات لهذا الفصل "99"