كاثرين ركضت نحونا وهي ترتدي عباءة، وخلفها كان بعض موظفي جين الذين رأيتهم مرة واحدة فقط من قبل، متنكرين بطريقة لا تمتّ للمنطق بصلة. وما إن وصلت حتى انهارو أرضًا، تمسكو بطرف سروال جين، ووجههم مزيج من التأثر واللوم.
“سيدي، هذا ظلم…!”
“أيها الوغد!”
شعرت أن هناك كلمة غير مناسبة في مكانها، فسارعت إلى تغطية أذني داميان بيدي.
“ماذا فعلت هذه المرة بحق السماء! جماعة ‘العقرب الأحمر’ يريدون قتلك حقًا! كاد مقرّ ‘الضفدع الذهبي’ ينهار بالكامل، والزعيم بالكاد استطاع تهدئة الوضع، ألا تعرف ذلك؟”
“نحن لسنا من ‘الضفدع الذهبي’ أصلًا، فما شأننا؟ آه! إنهم سيقتلوننا فعلًا هذه المرة!”
تركتهم يتشاجرون، بينما احتضنت داميان وانسحبت إلى الزقاق الخلفي.
“آنستي! هل أصابكِ مكروه؟ ها؟”
“أنا بخير. ثم تعالي، أعرّفكِ على أحدهم.”
نظرت كاثرين إلى داميان بين ذراعيّ، وجهها ازداد بياضًا كأن الدم جفّ منه. كانت تنظر إليّ ثم إليه مرارًا، كمن يريد أن يتأكد من أمرٍ مرعب لا يجرؤ على تصديقه.
كان يمكنني أن أسمع صرختها الداخلية بوضوح. ‘يا للمصيبة.’
‘الحق يُقال، داميان طفل ذكي ويلتقط الإشارات بسرعة.’
وكما توقعت، تجهم وجهه الصغير وبدت عليه علامات الانزعاج، ثم أسند جبهته على صدري بضيق.
يا ألهي، في السابعة من عمره فقط، ومع ذلك تصرفاته تارة ناضجة وتارة طفولية، يحب القرب واللمس رغم طبيعته الباردة.
ربّتُّ على رأسه برفق بينما همست كاثرين بصوت مرتجف، وجهها ما زال شاحبًا:
“إذًا، هذا هو…؟”
“أجل، كما ظننتِ.”
عند جوابي، انحنت فورًا وهي ترتجف وقالت بصوت متقطع:
“يـ… يشرّفني رؤيتك يا سيدي الصغير! أأ… أنا كاثرين، كنت أخدم الآنسة منذ صغري…!”
“كاثرين، لا تبالغي، تصرّفي بطبيعتك.”
عندها سعلت كاثرين بخجل، ثم انحنت قليلًا بطريقة أكثر هدوءًا وقالت بلطف:
“اسمي كاثرين، يُسعدني لقاؤك.”
فالتفتُّ إلى داميان قائلة:
“داميان ، سلّم على كاثرين، إنها تساعد خالتك منذ وقتٍ طويل، وهي شخص طيب.”
تأملها داميان من رأسها حتى قدميها بنظرة فاحصة، ثم أومأ قليلًا وقال بصوت هادئ:
“مرحبًا.”
حدّقت كاثرين بي بذهول، وجهها يقول بوضوح:
‘حتى لو كان ابنًا غير شرعي، فهو من دمٍ ملكي، كيف ينحني لي ويتحدث هكذا؟ هل هذا طبيعي؟’
لكنني اكتفيت بابتسامة قصيرة.
أما داميان فكان يبدو وكأن كل شيء حوله لا يعنيه، ينظر إلى الفراغ ببرود.
‘يبدو عليه الملل أكثر من أي شيء آخر.’
ثم تنهد بعمق وأسند ذقنه على كتفي كأنه أنهى يومًا طويلًا.
تذكرت للحظة صورة داميان في القصة الأصلية، لكنني سرعان ما طردتها من رأسي.
‘ذلك العالم تركته خلفي منذ زمن، لا فائدة من تذكّره.’
قالت كاثرين أخيرًا، وقد استعادت هدوءها المهني:
“يشرفني لقاؤك، سيدي الصغير.”
أما داميان ، فبعد أن حدّق فيها ببرود للحظة، تذكر ما كنت أقوله له دائمًا عن الأدب، فنزل من بين ذراعي بهدوء وانحنى قليلًا قائلًا باحترام:
“أرجو أن تعتني بي.”
انحنيت إلى مستواه وربتُّ على رأسه بابتسامة عريضة.
‘يقولون إن الأطفال ينمون على المديح، إذًا فلن أتوانى عن ذلك.’
“يا إلهي، كيف يمكن لِداميان نا أن يكون مهذبًا إلى هذا الحد؟ ها؟ إنه حقًا رائع~! كل شيء يفعله جميل! بل حتى كلماته راقية جدًا، ما هذا النضج؟”
كنت أربّت على رأسه بحماس وأنا أمدحه، بينما كانت كاثرين تحدق بي بنظرة خالية من التصديق.
“ماذا؟ ما بكِ؟”
“تفضلي، آنستي.”
أخرجت كاثرين من جيبها قطعة أثرية صغيرة للتنكر، وقدّمتها إليّ. أخذتها منها وأنا أوجه بصري نحو جين.
كان جين مشغولًا بالحديث مع موظفيه، أو بالأحرى—يبدو أن الحديث امتزج ببعض “الحديث الجسدي” أيضًا.
ولاحظت كاثرين نظراتي تلك، فبدأت تشرح لي بلطف ما جرى أثناء غيابي.
“في الأوقات الفارغة، كنت أخلع التنكر وأتجوّل مع أولئك الأشخاص لجمع المعلومات التي طلبتِها. كان لا بدّ من ذلك. لكن خلال تلك الفترة… كما تعلمين.”
ألقت نظرة خاطفة على داميان ، فزفر الأخير بقوة، ثم رفع يديه ليسدّ أذنيه بنفسه.
‘حقًا؟ هل هذا طفل في السابعة؟ ما هذا التصرف؟’
ارتبكت للحظة، وكاثرين بدت في الموقف ذاته أيضًا.
ضحكت بخفة وقلت لها بنظرة توافق، فتابعت كلامها بحذر.
“منظمة ‘العقرب الأحمر’ تقلب الدنيا بحثًا عن أي خيطٍ يتعلق بذلك المرتزق. في العاصمة، ما زال تنظيم ‘الضفدع الذهبي’ أقوى من حيث العدد، لكن بناءً على المعلومات التي زودتِنا بها، فمن المحتمل أن يستخدموا دعم الأمير إنداميون كورقة ضغط ليخنقونا ببطء. كما كنتِ تقولين دائمًا، حتى لو طار العامة في السماء، فلا فرصة لهم عندما يقرر أحد من فوق أن يدوسهم.”
عضضت شفتي بتوتر.
‘صحيح… حتى في القرن الحادي والعشرين على الأرض، لم يكن الوضع مختلفًا. أما هنا، فهو أشدّ قسوة.’
“…دعم من الخلف، إذًا ما نحتاجه الآن هو *ظهرٌ نحتمي به*، أليس كذلك؟”
رفعت كاثرين حاجبها، تحدّق بي بنظرة تقول بوضوح: *“ما الذي تنوين فعله هذه المرة؟”*
“هل بحثتِ أكثر عن الشخصيات التابعة لفصيل الإمبراطور؟ هل وجدتِ أسماء إضافية غير التي ذكرناها من قبل؟”
ترددت كاثرين قليلًا، قبل أن تجيب بوجه متردد:
“وجدتُ بعضهم، لكن… يبدو أن الكونت يميل بشدة إلى التحالف مع آل لوسون.”
خفضت صوتي أكثر، مشيرة بذقني إلى داميان حتى لا يسمعنا.
“سأنشر إشاعة… أنه ابني غير الشرعي. أبي سيعرف أن الأمر غير صحيح، لكن الناس سيصدقون ما يريدون. كما يقولون: لا دخان بلا نار. والناس يحبون الفضائح أكثر من الحقائق.”
اتسعت عينا كاثرين بفزع وهي تمسك بذراعي قائلة بصوت مبحوح:
“آنستي، هل جننتِ؟! هذا سيدمّر سمعتك!”
لكنني قاطعتها بسرعة وأنا أضع يدي على كتفها.
“كاثرين، علينا أن ننظر بعيدًا. لا تري الشجرة فقط، بل انظري إلى الغابة كلها. سمعتي؟ من يهتم؟ السمعة يمكن ترميمها، لكن الحياة لا تعود إن فقدناها.”
“……”
كانت تحدّق بي بنظرة حادة، خليط بين الغضب والعجز.
‘حقًا، هذه الفتاة… لا أفهمها. إما أنها مخلصة أكثر من اللازم، أو أنها فقدت صوابها تمامًا. لا بد أن تختار أحدهما.’
“لماذا تموتين أنتِ يا آنستي؟! سأضحي بحياتي من أجلك!”
“ولمَ تُضحين بحياتك؟ لا داعي لذلك. سنعيش كلتانا حتى نبلغ مئةً وعشرين عامًا، لذا توقفي عن قول أشياء كهذه، ولنعد إلى ما كنا نتحدث عنه…”
نظرت إلى داميان ، الذي كان ما يزال يسدّ أذنيه بيديه الصغيرة، وزفرت بعمق قبل أن أهمس لكاثرين قائلة:
“سأتواصل شخصيًا مع بعض الشخصيات المنتمية إلى فصيل الإمبراطور. الوقت ضيق، لكن لا خيار آخر.”
“آنستي، كيف ستفعلين ذلك وحدك؟”
“لقد التقيتُ بإيان. بطريقةٍ ما… ستُحل الأمور.”
‘يا إلهي، كلما تقدمت في التخطيط، شعرتُ وكأن أحدًا يغرس إبرة في قلبي.’
كان ضميري يؤنبني بشدة لأنني أتصرف في كل هذا دون استشارة داميان نفسه.
لكن مهما فكرت في الأمر، لم يكن أمامي ولا أمامه أي خيار.
‘وإن قال إنه لا يريد أن يصبح إمبراطورًا؟ ماذا بعد؟ إن لم يفعل… سيموت.’
بدت كاثرين وكأنها تشعر بالضيق نفسه، أو ربما كانت تراقب داميان الذي يجلس بهدوء وقد أغلق أذنيه بنفسه، غير مكترث بما يدور حوله.
ربتُّ بخفة على يد كاثرين لألفت انتباهها بنظرةٍ حذرة.
‘لا تنظري إليه هكذا، قد يشعر بالحرج إن لاحظ.’
“…وبالنسبة لوالد الطفل؟”
“سأخبره، طبعًا. لكن مسألة لقائه بالطفل… سأترك القرار لداميان نفسه.”
بصراحة، من الناحية الأخلاقية، كان من الصواب أن أُعلم ولي العهد بوجود داميان .
لكنني كنت أعلم يقينًا أنه إن علم، فسأفقد حق الوصاية عليه بنسبة مئة بالمئة.
وإن حدث ذلك، فسينهار كل شيء خططت له.
رغم أن خططي لم تكن صلبة تمامًا، بل مجرد هيكل هش بالكاد يقف على قدميه، إلا أنني لم أستطع التراجع الآن.
“لكن… يجب أن أخبره *بعد* أن أضع الأساس وأضمن استقرار الموقف. حينها فقط.”
تنهدتُ بعمق وأنا أربّت على رأس داميان ، الذي ما زال يجلس مطأطئ الرأس محدقًا في الأرض بصمت.
“الأمير إنداميون يستخدم منظمة ‘العقرب الأحمر’ كأداةٍ له؟ إذًا علينا أن نتحرك نحو الضوء، إلى مكانٍ أعلى.”
ثم أشرت بيدي بهدوء نحو جين وقلت:
“الضفدع الذهبي.”
“……”
“أليس تنظيمهم أكبر حجمًا من ‘العقرب الأحمر’؟”
رفعت كتفيّ بثقة، وابتسمت بخفة.
‘حسنًا، لنبدأ اللعبة إذًا. لقد عشت مرةً من قبل، بل ودخلت إلى رواية، فكيف لا أستطيع فعل هذا؟’
حتى لو فشلت، سأمضي بعزيمةٍ حتى النهاية… لأنني ببساطة، لا أريد أن أموت.
التعليقات لهذا الفصل "97"