كان داميان يبدو في غاية الارتباك، ولعله لم يكن مخطئًا في ذلك. فبعد أن علم إيان بحقيقة هويته، أقام الدنيا ولم يقعدها.
وكأنما أراد أن يُعلن وجود الطفل على الملأ، إذ صار أمهر الحرفيين في سولاين يترددون بلا توقف على المبنى، يدخلون ويخرجون حاملين أدواتهم وقياساتهم.
كان داميان يراقبهم بعينين متسعتين، متضايقًا من كل أولئك الذين يقيسون مقاساته من الرأس حتى القدم. تقاسيم وجهه كانت مليئة بالسخط الصغير البريء.
أما إيان، فوقف أمام جين كأنه يواجه مخلوقًا لا يطيقه. شبك ذراعيه، وأخذ يتفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه بنظرة لا تخلو من ازدراء، حتى شعرتُ أنا بالحرج نيابة عنه.
‘يا للحرج… لكنه محق، تصرفه مفهوم في هذا العالم.’
ولعله حتى جين أدرك ذلك، فوقف باستقامة تامة، منكّس الرأس، دون أن يجرؤ على رفع نظره، مطبقًا أصول الأدب كما لم يفعل من قبل. بدا كمن يتلقى عقوبة لا أكثر.
شعرتُ بانزعاج خفيف في صدري، ورغبت أن أتدخل وأقول شيئًا، لكني تراجعت.
لو فعلت، لبدوتُ حمقاء في نظرهم جميعًا.
‘ففي هذا العالم، منطقي ليس منطقهم.’
إن تصرف جين المتواضع بهذا الشكل كان في مجتمع النبلاء أمرًا طبيعيًا لا يثير أي استغراب.
لم يكن بوسعي إلا أن أراقب بينما كان الخدم يتحركون جيئةً وذهابًا، في حين كان إيان يرمق جين بنظرات قاسية.
هكذا هي الأمور دائمًا.
ما دمتُ قد وُلدتُ من جديد في هذا العالم، فعليّ أن أكبح ذاتي وأتعايش مع هذا القيد الدائم.
‘كم هو خانق هذا الشعور… دائمًا، في كل لحظة.’
أشار إيان بيده بملل، وهو لا يزال يحدّق في جين بازدراء واضح.
“سجّلوا أن النفقات خرجت من حسابي، واحرصوا على أن يبدو… بشريًّا قدر الإمكان.”
كانت نبرته ألين وألطف من نبرات باقي النبلاء، ويبدو أن جين لاحظ ذلك، إذ لم يُبدُ أي انزعاج.
أما أنا، فلو كنت مكانه لكنتُ قد غضبتُ بلا شك. لكنه بدا هادئًا… أو ربما يتظاهر بذلك.
عضضتُ شفتَي السفلى وأنا أحدّق فيه بشعور غير مريح، ثم تلاقت أعيننا للحظة قصيرة.
ولسببٍ ما، أشحتُ نظري على الفور.
‘هل كان ذلك تأنيب ضمير؟ أم شعورًا بالأسف؟ لماذا يخفق قلبي هكذا؟’
حاولتُ أن أُبعد ذهني عنه بقوة.
“قيل لي إنك المرتزق الأشهر في العاصمة، أليس كذلك؟”
سأل إيان بنبرة حادة، فابتسم جين بأدب وانحنى قليلًا.
“قد يبدو تبجحًا أن أقول نعم، لكن إن كنتَ ترى الأمر كذلك، فذلك شرف لي يا سيدي.”
عند سماع كلمة سيدي، التفت داميان الذي كان خاضعًا للخدم بنظرةٍ حادة نحو جين.
كان وجهه متضايقًا على نحوٍ ملحوظ، وكأنه لا يرتاح لرؤية جين في هذا الموقف.
وأنا بدوري فهمت السبب؛ لم يره يومًا من قبل وهو بهذا الخضوع.
‘ليس في هذا خير لتربية الطفل.’
تنهدتُ وأنا جالسة على الأريكة متكئة بذراعيّ، ثم نهضت في النهاية.
التقطتُ بعض الثياب التي جلبها الخدم، وأشرت إليهم قائلة:
“هذه… وهذه… وهذه. اتركوها وارحلوا.”
انحنت الخادمة الواقفة أمامي بسرعة وهي تقول بخضوع:
“نعم، يا سيدتي.”
في تلك اللحظة، تحوّل نظر إيان إليّ فجأة وقال بحدة:
“روين؟ ما الذي تفعلينه؟ دعيهم وشأنهم.”
قلت ببرود:
“الطفل متعب. قولي لهم أن يتوقفوا عن الإزعاج ويغادروا.”
تغيرت ملامح داميان للحظة، وكأنه تفاجأ.
ربما بدوتُ له مثل مُعلمةٍ لطيفة أكثر مما يجب طوال الوقت، ولم يكن معتادًا أن أتكلم بتلك الجدية.
‘حسنًا، طبيعي أن لا يرتاح فورًا. كل شيء جديد عليه.’
نظرتُ إليه بابتسامة باهتة.
وحين أدرك إيان أنني لا أمزح، زفر بعمق ثم قال للخدم بنبرةٍ منهكة:
“قلت لهم أن يخرجوا، فليخرجوا إذن.”
بمجرد أن قال ذلك، بدأ الخدم بجمع الأمتعة التي كانوا قد بعثروها من قبل، ثم خرجوا جميعًا على عجل.
‘هاه… أخيرًا بعض الهدوء.’
تقدّمت نحو داميان ، الذي ظلّ واقفًا بوجه متبرّم من الموقف الغريب، محاوِلةً أن أجلسه على الأريكة ليسترخي.
لكن لو أن إيان لم يتفوه بذلك الكلام، لكان الأمر سار بسلاسة.
“ما بالك لا تخرج؟”
“…آه، نعم.”
مددتُ يدي نحو داميان ، ثم حدّقت بدهشة بين إيان وجين.
‘لماذا يطردونه؟’
ذلك الرجل الذي كان يثرثر بلا توقف عندما كنتُ أنا من أعطي الأوامر، صار الآن يتهيأ للخروج فور أن أمره إيان بذلك.
“إيان، لماذا تطرد المرتزق؟ دعه يقترب.”
قلت ذلك وأنا في حالة ارتباك، أحضن داميان بين ذراعي.
رفع جين رأسه بهدوء، وقد بدا وكأنه يتساءل في نفسه لماذا يُستدعى في مثل هذا الموقف.
“نعم، سيدتي.”
مهما يكن من أمر، فالأمر أمر، وهكذا اقترب جين بخطوات واثقة ووقف إلى جانبي بانحناءةٍ مهيبة كما لو كان شخصًا آخر تمامًا.
“ولماذا المرتزق؟”
سأل إيان، وقد بدا كأنه يتحدث بدافع الفضول الحقيقي.
أجبته وأنا أجلس داميان بهدوء على الأريكة محاوِلةً أن أبدو غير متوترة.
“لقد استأجرتُه بنفسي بصفته حارسًا شخصيًا، فلا داعي لأن يُعامل كأحد الخدم.”
بادرني إيان بالرد فورًا:
“آه، حارس؟ إن كنتِ تبحثين عن حارس، فسأعين لكِ يوستيان. إنه فارس تلقى تدريبًا مباشرًا من العائلة، ويحمل لقبًا أيضًا. أليس ذلك أفضل من مرتزق؟
أعلم ظروفك يا روين، لكن من المعيب تمامًا أن تعتمد الآنسة النبيلة من بيت إستيلّا على مرتزق لحمايتها. هذا أمر غير مقبول.”
ألقيت نظرةً جانبية نحو جين دون قصد.
لم يظهر عليه أي انفعال، واقفًا هناك بثباتٍ مهيب كتمثالٍ منحوت.
‘كأنه لا يهتم مطلقًا بما يُقال.’
على العكس، كان داميان هو من بدا متأثرًا، وإن كان بطريقته الخاصة — وجهه يحمل تعبيرًا واضحًا بالضيق، لا بالقلق.
“إيان، أيمكنك أن تفكر قليلًا قبل أن تتكلم؟ لقد جئتُ إلى سولاين خلسةً فقط لأراك، ثم تقول لي الآن فارس من بيت كونت؟”
انكمش وجه إيان بترددٍ، وأغلق فمه للحظة دون أن يرد.
ثم أطلق زفرةً عميقة وكأنه يحاول تهدئة غضبه، وقال بصوتٍ منخفض:
“روين، أفهم ما تحاولين قوله، لكن ما زلتِ… مع مرتزق… آه…”
توقف فجأةً وحدّق في جين مرة أخرى.
لكن جين ظلّ صامتًا كما هو، بملامح جامدة كمنحوتة، لا يظهر على وجهه أي أثر للمشاعر.
“أنت.”
“نعم، سيدي.”
كان إيان طويل القامة في الأصل، لكن مقارنةً بجين بدا وكأنه مضطر لرفع رأسه لينظر إليه.
ومهما يكن، تابع إيان كلامه بوجهٍ متبرّم ونبرةٍ متعالية:
“أنا أغمض الطرف لأنك وقّعتِ معه عقدًا، فلا تدعوه يساور أفكارًا سخيفة.”
غطّيت أذني داميان براحة يدي، مدفوعةً بشعورٍ حدسي بأن ما سيأتي بعد ذلك لن يكون مناسبًا لسماعه.
وفعلًا، اجتاحتني موجة من الخجل، بل أقرب إلى الإهانة.
“أعرف جيدًا طبيعة أولئك العامّة الذين يشبهونه.”
قالها إيان بنبرةٍ متغطرسة، وعلى وجهه ابتسامة استهزاء واضحة وهو ينظر إلى جين.
“دائمًا يحاولون التملّق بأي طريقة، طمعًا في فتات خبزٍ يسقط من المائدة.”
كم هو مثير للسخرية. حين يتحدث إليّ يكون صوته ناعمًا ودافئًا، لكنه الآن…
مع ذلك، وبالمقارنة مع غيره من النبلاء، فأسلوبه هذا يُعدّ مهذبًا نسبيًا.
“ثم إنك لو منحتهم ذلك الفتات بدافع الشفقة، يتوهمون أنه حقّهم، فيتمادون شيئًا فشيئًا.”
ابتسم إيان بسخريةٍ طفيفة وهو يتأمل جين الواقف بلا حراك.
“وفي النهاية، يتسلّقون حتى يحاولوا مدّ أعناقهم إلى مقاماتٍ لا يمكنهم بلوغها. مثل تلك الأسماك الزلقة التي لا تعرف مكانها.”
لم أستطع احتمال ذلك أكثر. خرجت الكلمات من فمي قبل أن أستطيع كبحها.
“إيان، تحلَّ باللباقة قليلًا. لا داعي لأن تتسلّى بإهانة أحد العامة.”
“روين، هل قلت شيئًا خاطئًا؟ ألا تعلمين أن مثل هؤلاء المرتزقة يجب الحذر منهم؟ من الواضح من أين جاءوا، وماذا تعلّموا في أزقة السوق.”
أغمضت عينيّ بقوة.
‘يتحدث عنه بهذه الطريقة أمامه مباشرةً… في هذا العالم لا بأس، لكنني أنا فقط من أشعر بالحرج.’
“على أية حال، هو شخص اخترتُه بنفسي وتعاقدت معه. لا داعي لتقليله إلى هذا الحد، أليس كذلك؟ يبدو أنك تشكّك بذوقي، وهذا لا يُسعدني كثيرًا.”
قال إيان بلهجةٍ متذمّرة:
“روين، أنا فقط قلق عليك، كيف تسيئين فهمي هكذا؟”
فأجبته بهدوءٍ تام:
“إيان، أنت تعرفني. أنا صعبة الإرضاء حين يتعلق الأمر باختيار الناس من حولي. ألم أكتفِ بخادمةٍ واحدة فقط طيلة تسعة عشر عامًا، هي كاثرين؟
ثم أخرج الآن بنفسي إلى الخارج، وأبحث طويلًا لأجد مرتزقًا واحدًا، ابن رانييل تحديدًا، وتظن أنني سأختار شخصًا غير جدير؟ لو كان كذلك، لكنت تخلّصت منه منذ البداية.”
أطبق إيان شفتيه بإحكام، وقد بدا مقتنعًا جزئيًا، لكنه ظل متردّدًا للحظة قبل أن يقول أخيرًا:
“روين، ليس لأنني لا أثق بك، لكن لو كان وجه ذلك المرتزق أقل جاذبية بقليل، مثل حبة بطاطا غير مكتملة النمو، لما قلت شيئًا من الأساس.”
قاطعتُه بحدة قبل أن يتمادى:
“أنا لا أصطحبه معي لأنه وسيم. اخترتُه بناءً على مهارته فقط، فلا تقلق بشأن ذلك. لن أدع أي شيء يعيق زواجي، أبدًا.”
التعليقات لهذا الفصل "92"