جين حاول جاهدًا ألا يُظهر أي مشاعر. كان قد توقّع بنفسه أنه سيتأثر حتمًا حين تجد روين استيلا ابن أختها.
لكن المشكلة أنّ الأمر كان أشدّ وطأة مما ظنّ. لا يدري لماذا، لكن ماضيه هو نفسه بدأ يتقاطع مع صورة الطفل.
تلك العينان الخاليتان من أي شعور، في وجه طفل صغير، علقتا ببصره.
وفوق ذلك، كانت لدى الصبي ملاحظة حادة على غير العادة. يبدو أن ما قالته روين استيلا لم يكن خطأ تمامًا.
الوريث المستيقظ لعائلة هيرس الإمبراطورية للمرة الأولى منذ ثلاثمئة عام، وفوق هذا ابن غير شرعي.
في هذه الحالة، كان من الطبيعي أن يشعر بنوع من الألفة. لكنه لم يفهم ما الذي يجعل طفلاً في السابعة فقط ينظر إليه بتلك النظرة.
أما روين استيلا فلم تبدُ مهتمة كثيرًا بمدى تفرّد الطفل. أو ربما لم تكن تدرك ماهية ذلك تمامًا.
من الواضح أنّ قوته تفوقها بكثير رغم أنّه لم يَستيقظ بعد، لكنها تعاملُه كما لو كان طفلًا في الرابعة.
ولم يكن هذا بالأمر السيّئ، فالصغير، الذي يبدو ذا طبع حادّ، كان يكتفي بهزّ رأسه بهدوء، وكأنه راضٍ عن الوضع الراهن.
لم يُخبرها جين بحقيقة ما رآه في دار الأيتام حتى لا يُؤلمها، لكن الوضع هناك كان أسوأ بكثير مما تخيّلته.
بالنسبة له، كان هذا متوقعًا إلى حد ما، غير أن معايير القبول تختلف من شخص لآخر.
على أي حال، ما شعر به وهو يراقب داميان، أنّ شخصيته ليست لطيفة تمامًا.
لقد صُدم بالفعل حين بدأ التدريب ورآه يطيح بالأطفال الآخرين من عمره.
حتى وإن كانت منشأة عسكرية صارمة، فهم أطفال على أي حال، ومن المفترض أن يتحدثوا على الأقل مع بعضهم.
لكن الصغير ظل حتى النهاية منزوياً في زاوية كذئب وحيد.
وعمره فقط سبع سنوات.
‘حقًا… التشابه مفرط لدرجة تقشعر لها الأبدان.’
ولهذا تحديدًا كان جين يشعر بعدم الارتياح.
أما معلمه السابق، فكلّ الدلائل تشير إلى أنه مات وهو يحاول حماية هذا الطفل.
‘يا للمفارقة الغريبة… سبب موت الشخص الوحيد الذي كان إلى جانبي… ومع ذلك، فالأمر ليس خطأ هذا الطفل.’
“داميان، اشرب الماء. أحسنت، أحسنت.”
“…….”
ومن الواضح أيضًا أن الطفل، بما يليق بلقب المستيقظ بعد ثلاثمئة عام، أذكى من أقرانه بكثير.
‘إذن فالسيد الصغير بدأ يلمح حقيقتي ويضيق بها صدرًا.’
نظر جين إلى روين استيلا وهي تغمره باللطف، حاملة إليه الماء كل ساعة تقريبًا، وتطعمه بنفسها كما لو كانت تعتني بسيد كبير.
ابتسم جين وهو يراقب المشهد باهتمام.
‘كيف كنت أنا في ذلك العمر؟’
لم يرد حتى أن يتذكر. كان واثقًا أن داميان محظوظ للغاية.
ولا شك أن الصغير نفسه يدرك ذلك أيضًا.
“آه، با الهي ، تشرب الماء جيدًا أيضًا؟ داميان، أنت رائع حقًا.”
“…… سيدتي، ألا تعتقدين أنكِ تعاملينه كما لو كان رضيعًا؟”
تدخل جين كعادته بجانب روين استيلا بنبرة ساخرة. كانت في العادة تنظر إليه بوجه متجهم وكأنها تقول: ما هذا الهراء؟
لكن منذ أن وجدت داميان، بدأت تبتسم بين الحين والآخر.
“وما المشكلة؟ هناك الكثير من الناس في الأربعين من عمرهم ويُعاملون كالأطفال. فبعمر السابعة، هو بالتأكيد ما زال طفلاً، أليس كذلك؟”
كان الطفل في حالة مزرية بعد رحلة هروبه، ومع ذلك، وهي تبتسم ببراءة وتلمس أنفه بخفة، بدا المنظر لطيفًا بشكل غير متوقع.
مع أنه من المضحك أن يحكم مرتزق بسيط مثله على ما يستحق الشفقة أو لا.
‘آه، ها هو يحدق بي مجددًا.’
ضحك جين بخفة وهو يستمتع بنظرات داميان المثبتة عليه.
“صحيح. صحيح أن في السابعة يمكن للطفل أن يعمل في الحقول أو يساعد في أعمال المنزل، لكن على ما يبدو في معايير السيدة فهو ما يزال طفلاً.”
تثبّت داميان من النظر إليه من جديد. قد لا يفهم الآخرون السبب، لكن جين كان يعرف جيدًا.
فالصغير يراه أول إنسان يمتلك اهتزازات مانا قريبة من مستواه.
وبما أن جين دائمًا ما يحرص على إخفاء قوته بعناية، فأن يتمكّن طفل من استشعارها بهذا الشكل العلني كان أمرًا غير مألوف حتى له.
‘هل هي قوة دماء عائلة هيرس؟ أم أن هذا الصغير يملك عيونًا ثاقبة فحسب؟’
‘لكن مهلاً… ألا تهتم تلك المرأة بي إطلاقًا؟ أليس من المفترض أن تكون قد لاحظت شيئًا الآن؟ لقد كشفت الكثير دون قصد!’
قطّب جين حاجبيه وهو ينظر إلى روين استيلا . بدت وكأن عقلها خالٍ من أي شك.
لقد فعل أشياء كافية لتثير الريبة — استخدم السحر، وقضى وحيدًا على وحوش صغيرة في الليلة الماضية — أمور يستحيل على مرتزقة عاديين إنجازها، ومع ذلك لم تطرح عليه أي سؤال.
‘لماذا أشعر بالظلم بهذا الشكل؟’
كان يدرك تمامًا أنه لا يوجد ما يستحق الشعور بالظلم، لكن هذا الإدراك جعل إحساسه الغريب أكثر وضوحًا.
“…….”
في تلك اللحظة، شعر جين بنظرة ملتصقة به كظله. عندها فقط أدرك ملامح وجهه التي كان يوجهها إلى مؤخرة رأس روين استيلا .
‘لقد كنت أحدق بها بشكل مباشر جدًا، أليس كذلك؟’
أدار جين وجهه إلى داميان بتعبير ساخر. لكن وجه الصغير بقي كما هو.
ملامح باردة، نظرة متوترة، وانتباه لا يفتر.
لم يكن من الصعب على جين أن يتوقع أن الصغير سيبقى على هذه الحال طَوال الوقت.
“هل أنهيت شرب الماء يا سيد داميان؟”
أخرجت روين استيلا من صدرها منديلًا صغيرًا ومسحت فم الصغير برفق.
أصيب جين بالدهشة الصادقة.
‘هل هذه حقًا سيدة من النبلاء؟ ظننتها مربية أطفال للحظة.’
“داميان، ألا تريد أن تجيب أخاك الكبير؟”
“…… نعم، شربت كله.”
“أحسنت. يا إلهي، أنت رائع جدًا. داميان عبقري حتى في طريقة كلامه الرسمية! واو! كم أنت رائع يا داميان!”
لم يجد جين ما يفعله سوى التحديق في روين استيلا وهي تصفق بحماسة وتضحك، تصنع جلبة كما لو كانت أمام أعجوبة.
امرأة غريبة… غريبة حقًا.
ليست فقط مختلفة عن عامة النبلاء، بل حتى طريقة تفكيرها عصية على الفهم.
“سيدتي، ألا تتعبين؟”
“أستطيع الاحتمال. أنا بخير.”
جين ضيّق عينيه وهو يحدق في روين استيلا بصمت.
أفكاره بدأت تتشابك.
“هل أحملكِ؟”
“هل جننت؟”
“لا، أعني… إن كانت المشكلة هجوم الوحوش، فحتى لو لم يكن لدي ذراعان، يمكنني التعامل معهم. أعتقد أن من الأفضل أن نزيد من سرعتنا ونعبر الحدود نحو المملكة أبكر.”
تجمد وجه روين استيلا بصدمة وعضّت على أسنانها، ثم أومأت بخفة بذقنها بطريقة لا يلاحظها داميان، وكأنها تقول:
‘إذا حملتني، هل سيضطر هو إلى المشي وحده أم ماذا؟’
‘منذ متى أصبحتِ قديسة تتكفلين بطفل عمره سبع سنوات؟ حتى إنه ليس طفلك.’
فكر جين بذلك وهو يطلق “أوه” صغيرة من فمه، مندهشًا.
‘حقًا، طريقة تفكيرها لا تختلف كثيرًا عن تفكير قديسة.’
ضحك ساخرًا في نفسه.
‘قديسة؟ أي قديسة تتذمر من السلطة وتعترض على هياكل القوة؟ لا، لا، هذه ليست قديسة على الإطلاق.’
“…….”
حين شعر مجددًا بنظرة مثبّتة عليه، توقف عن الضحك وارتسم على وجهه تعبير محرج.
عدّل نبرة صوته وتابع:
“سيدي الصغير، أظن أنك تستطيعون السير جيدًا دون أن تمسك السيدة بيدك. وإن لزم الأمر، سأمسك بيدك بنفسي. أليس كذلك، سيدي الصغير؟”
ألقى داميان نظرة جانبية على جين بوجه عابس، شفاهه مائلة إلى الأمام، لكنه في النهاية أومأ برأسه.
وبما أن أحدًا لم يتفاجأ من مناداته بـ ‘السيد الصغير’، بدا واضحًا أن الطفل بدأ يدرك مكانته هو الآخر.
‘أطفال هذه الأيام يفهمون بسرعة.’
ضحك جين بخفة وهو يجلس القرفصاء على الأرض.
“فلننتقل بسرعة.”
“مهلاً، لكن على الأقل الطفل–”
“سيدي الصغير؟”
ابتسم جين لداميان ابتسامة صغيرة، فزفر الصغير زفرة طويلة وفتح فمه بتردد:
“لا بأس. إن تأخرنا… سنعيق الطريق.”
لم يكن جين يعرف نوع التعليم اللغوي الذي تلقاه هذا الصغير، لكن من تعبير وجه روين استيلا ، كان واضحًا أنها تعتزم تصحيح لغته في أقرب وقت.
ضحك جين ضحكة فارغة بينما مال بجسده إلى الخلف بخفة، دافعًا ركبتي روين استيلا ، ليُسقطها برفق على ظهره.
في اللحظة التالية، التصق جسدها الصغير نسبيًا بظهره بإحكام.
“هيا بنا.”
مد جين يده بعفوية وعبث بشعر داميان بعنف بسيط.
رغم أن الصغير بدا منزعجًا، فإنه لم يتلفظ بكلمة.
ضحك جين وهو يقرأ ملامحه كما لو كانت كتابًا مفتوحًا.
التعليقات لهذا الفصل "84"