“إن لم تستطيعي النوم… فكيف تشعرين إذن بعد أن وجدتِ ابن أختك؟”
ضحك بخفةٍ وأشار بعينيه كأنه ينتظر إجابتي بشغف.
“مم… أشعر بالارتياح، أعتقد؟”
“هاه، إجابة مملة كالعادة.”
قالها وهو يعبس بشكلٍ طفولي قبل أن يقترب أكثر.
“على الأقل، يمكنكِ أن تذكري شيئًا عن مهارتي البارعة، أو تشكريني على جهدي العظيم في العثور عليه، أليس كذلك؟”
اقترب أكثر وهو يومئ برأسه نحو داميان.
“على كلٍ، نترك المديح لوقتٍ آخر. كما قلت، من المؤكد أنه مستيقظ القوى. لم أُشِر إلى هذا سابقًا لأنك لم تكون ترغب في الحديث عن تلك الأمور أمام الطفل… لكنه أدرك أنك كنت تراقبه في منشأة الامير إنداميون أليس كذلك؟ لا بد أنه حادّ الملاحظة جدًا.”
“وفوق ذلك، هو أذكى مما تظنين. ربما لم تتحي له فرصة الكلام كثيرًا بعد، لذا لم تشعري به بعد، لكن هذا الطفل… ليس كغيره في السابعة من عمره. أعتقد أنه كان أحد أبرز المتدربين في المنشأة. وجدتُ في السجلات أن هناك طفلًا أظهر تفوقًا ملحوظًا حتى قبل ثلاثة أشهر فقط… ثم بدأ أداؤه بالتراجع فجأة. لم أكن متأكدًا وقتها، لكن يبدو أن الحديث كان عنه بالفعل.”
جلس جين متربعًا على الأرض، مسندًا مرفقيه إلى ركبتيه، ويده تسند ذقنه، بينما كانت عيناه تتجهان نحو داميان.
“على الأرجح ذلك الطفل هو ابن أختك. وهو يعرف جيدًا. يدرك أنه لو أظهر قدراته أكثر من هذا فسيجرّ على نفسه المتاعب، لذلك أخفاها عمدًا.”
قطّبت حاجبيّ وسألته بنبرة حذرة:
“ما الذي تعنيه؟ وكيف يمكنك أن تكون واثقًا من هذا؟”
هزّ جين كتفيه بخفة وقال:
“يكفي أن تتبادل معه بضع كلمات لتفهم. عندما يرى الخطر يغلق فمه تمامًا. إنه يعرف أن الصمت أحيانًا هو أفضل وسيلة للدفاع. ثمة مواقف يكون فيها السكوت هو الحلّ الأمثل.”
حدّقت في وجهه دون وعي. كان في ابتسامته شيء غريب، مزيج من الحزن والمرح في آنٍ واحد، شيء يشدّ النظر رغمًا عني.
‘شخص يصعب فهمه كلما حاولت أكثر.’
حاولت أن أبدو هادئة قدر الإمكان وقلت:
“تتصرف وكأنك تعرف كل شيء.”
ضحك جين ضحكة قصيرة وأجاب بلطف:
“لا شيء يصعب معرفته.”
ثم أضاف بصوت مفعم بالدفء:
“نامي الآن يا سيدتي. غدًا علينا أن نتحرك مجددًا.”
أومأت له موافقة، غير أن تفكيري ظل مشغولًا به على نحوٍ مزعج.
—
كان جين على حق. كان عليّ أن أنام أكثر البارحة. التعب الآن يكاد يقتلني.
عضلات ساقي تصرخ من الألم، وأشعر وكأنني الوحيدة التي بالكاد تمشي مستقيمة.
“داميان، هل تمسك بيد خالتك؟”
نظر إليّ الطفل الصغير بطرف عينيه، ثم اقترب بهدوء وأمسك يدي بإحكام.
رغم أن في وجهه لمحة ضجرٍ خفيفة، إلا أن قلبي انقبض بتأثر.
‘كنت أظنه في الرواية طاغيةً لا يطاق، لكنه الآن مجرد ملاك صغير.’
قال جين وهو يتقدمنا الطريق:
“بما أنه النهار، فاحتمال ظهور الوحوش أقل من الأمس. مع أننا لم نواجه أيًّا منها مباشرة البارحة أيضًا.”
ثم مدّ يده بين الحين والآخر ليساعدني على الصعود أو حفظ التوازن.
بدأت أشعر أنني أضعف حتى من داميان الصغير الذي يصعد التلال بخفة.
‘الآن أفهم لماذا كان جين يصرّ البارحة على أنه أقوى مني… لم يكن يمزح بالفعل.’
سألته وأنا أحاول التقاط أنفاسي:
“جين، كم بقي معنا من المال الآن؟”
أجابني بهدوء:
“بعد حساب ثمن الأثر الذي بعناه… أظن أن لدينا حوالي ألف قطعة ذهبية.”
ضحك جين بخفة وقال:
“مالي؟ لا يا سيدتي. أنا الآن موظَّف لديك، وما أنفقته من المال جزء من التكاليف التي كان عليّ تغطيتها. عادةً لا يدفع أصحاب الطلبات نفقات نشاط المرتزقة أيضًا.”
رفعت حاجبيّ بدهشة خفيفة.
‘كنت أظنه من أولئك الذين لا يفكرون إلا في المال، لكن كلما مر الوقت بدا عكس ذلك. حتى المال الذي ظننت أنه سيستولي عليه وحده لم يفعل.’
قال جين وهو يرمق ساقي بنظرة سريعة:
“من الأفضل أن نعبر إلى مملكة سولاين بأسرع ما يمكن يا سيدتي. يبدو أنك بحاجة إلى راحة طويلة بعض الشيء.”
ثم التفت مبتسمًا حين وقعت عيناه على داميان، وأومأ له برأسه في تحية خفيفة.
لكن رغم تلك الإشارة الودودة، ظل داميان محتفظًا بتلك النظرة المتجهمة على وجهه.
قال جين بنبرة مرحة وهو يشير إليّ بوضوح:
“لا داعي لأن تقلق يا سيدي الصغير. أعلم أنك منزعج لأنني تتبعتك، لكنني فعلت ذلك فقط بناءً على أوامر خالتك، فلتغفر لي الآن، أليس كذلك؟”
شعرت بوخزة ضيق في صدري من طريقته وكأنني أنا المذنبة، لكن بما أنه لم يقل شيئًا خاطئًا، اكتفيت بأن أومأت موافقة.
“إنه ليس شخصًا سيئًا.”
فأجاب داميان بهدوء قصير:
“أعرف.”
ثم وقفت أفكر قليلًا. ‘هل يجب أن أبدأ بتقويم حديثه القصير وأجعله يتحدث بأسلوب أكثر لياقة، كما يفعل النبلاء؟’
لكنني سرعان ما تراجعت عن الفكرة. فحتى لو كان ابنًا غير شرعي، إلا أن منزلته أرفع بكثير من جين، لذلك لا يُعد حديثه إليه بتلك البساطة أمرًا غير لائق. بل لعلّه الصواب بعينه.
أما هو، فبدا أنه لا يقول كلماته بدافع الوعي الطبقي، بل بطبعه فحسب.
قال جين وهو يضحك بخفة:
“لا بأس يا سيدتي. ربما أنا ببساطة لا أروق لسيدي الصغير. أليس كذلك؟ في الحقيقة، ربما لست مكروهًا بقدر ما أبدو مزعجًا قليلًا فحسب.”
ثم أغمز لداميان بإحدى عينيه بخبث، فما كان من وجه الطفل إلا أن ازداد عبوسًا.
لكنها لم تكن ملامح كراهية حقيقية، بل أقرب إلى انزعاجٍ طفولي كما قال جين.
‘لكن… من يدري لماذا؟’
تابع جين وهو يضع يده على صدره متصنعًا الفخر:
“آه، لا شك أن السبب هو وسامتي الفائقة. أليس كذلك؟ أعني، بالطبع سيدي الصغير يتمتع بوسامةٍ مميزة هو الآخر، لكن جمالي أكثر نضجًا وعمقًا، لا يمكن مقارنته. لذا، فمجرد وجودي إلى جوار السيدتي لا بد أن يثير غيرته، هاهاها!”
ضحكت رغماً عني وقلت:
“ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟”
هزّ كتفيه بلا مبالاة واستمر في استفزاز داميان بمرحٍ مقصود.
ثم فجأة جلس القرفصاء بجانب الطفل واقترب وجهه من رأسه الصغير قائلًا:
“أنظر، سيدي الصغير ذو ملامح رقيقة وهادئة، أما أنا فملامحي أكثر حدة وتعبيرًا. ألا توافقني؟”
رفع داميان بصره نحو الفراغ بعينين باردتين، ثم مدّ يده الصغيرة ودفع خدّ جين بخفةٍ توحي بالضيق الصريح.
‘هل عليّ أن أشكره لأنه على الأقل جعله يتفاعل؟ أم أطلب منه أن يكفّ عن إغضاب الطفل؟ لا فكرة لدي.’
قال جين متصنعًا الألم:
“آه، يا سيدي، هذا قاسٍ جدًا!”
ثم نفخ وجنتيه بخفة وأدار وجهه متظاهرًا بالزعل، بينما كان داميان ينظر إليه بنظرة تفيض بالشفقة والاحتقار في آنٍ واحد.
عندها غيّرت رأيي تمامًا.
‘يبدو أن جين يعرف ما يفعله فعلًا. فلو استطاع انتزاع كل هذه التعابير من طفلٍ متحفظ كهذا، فهو يؤدي عمله على أكمل وجه. من الأفضل أن أتركه وشأنه.’
التعليقات لهذا الفصل "83"