حتى أثناء الحديث، شعرت بأن ذهني قد شُلّ تمامًا، فلم أعد أستطيع فعل أي شيء.
كنت مشوشة. هل كان ذلك فقط لأن البطل لم يكن يشبه الصورة التي رسمتها له في خيالي؟
أم لأن ملامحه كانت تُظهر بوضوح أنه من دمي ولحمي أكثر مما ظننت؟
أو ربما لأنني، في لاوعيي، كنت قد صنّفته مسبقًا على أنه طاغية بلا رحمة، وبطل مختل العقل، وحاولت أن أرسم بيني وبينه خطًا فاصلاً، لكن حين رأيته على الحقيقة بدا لي طفلًا صغيرًا جدًا؟
لم أستطع سوى أن أبتسم بتوتر نحو البطل، مالك هذا العالم وأقواه، الذي كان يقف أمامي متيبسًا في مكانه. فلم يكن بوسعي الآن أن أفعل شيئًا آخر غير ذلك.
كان وحده داميان، في هذا السكون، يحدق بي بعينين حمراوين لا يمكن قراءة ما يدور خلفهما.
‘لماذا هو الوحيد المستيقظ بينما الجميع نائم؟’ تساءلت في نفسي، لكن حين تذكرت القصة الأصلية، بدا الأمر معقولًا. فهو البطل بعد كل شيء، ومن الطبيعي أن يكون مختلفًا.
على أي حال، لم يتبقّ الكثير من الوقت. ‘ماذا أفعل الآن؟ هل عليّ أن أحمله وأهرب؟’
“داميان، صحيح؟”
“…….”
تقدمت خطوة أخرى نحوه. لكن بحق السماء، ماذا وضع ‘جين’ في هذا المزيج؟! بسبب مكونات الجرعة في زجاجة الإكسير، غطّ الجميع في نوم عميق، الكبار منهم والصغار، وكأنهم أُغمي عليهم، إلا أن داميان بدا في كامل وعيه.
أخذت نفسًا عميقًا وحاولت أن أبدو هادئة قدر الإمكان.
“لا بد أنك تشعر بارتباك شديد الآن، لكنني لم آتِ لأؤذيك، فقط… هل أنت بخير؟”
قلت ذلك وأنا أرفع زجاجة ترياق كنت أمسكها بيدي نحو داميان. لكنه لم يجب. اكتفى بالتحديق فيّ بصمت.
الأطفال الذين في مثل عمره عادةً ما تتلألأ عيونهم بالحيوية، وكأن نجوماً تسكنها، أما هو فلم يكن كذلك.
كانت عيناه ميتتين تمامًا، وتلك الحدقات السوداء الغارقة وسط حمرة عينيه كانت مظلمة خالية من أي مشاعر.
توقفت الكلمات في حلقي للحظة، لكنني اقتربت منه على أي حال، وجثوت على ركبتيّ حتى أكون في مستوى نظره، وقلت:
“داميان، هل تخرج مع خالتك من هنا؟”
“…….”
ظل الطفل يحدق بي بصمت. شفتاه المطبقتان لم تتحركا أبدًا.
“آسفة لأنني جئت متأخرة. كان عليّ أن أبحث عنك في وقت أبكر.”
“…….”
مددت يدي نحوه بحذر. عندها فقط تحركت نظرات داميان ببطء نحو يدي، دون أن ينطق بكلمة. لم يظهر على وجهه أي تعبير، سوى أن أصابعه الصغيرة بدأت تتحرك ببطء.
سكن الصمت من جديد في أرجاء القبو، وأنا أراقب حركته بقلق متزايد.
صحيح أن بإمكاني حمله بالقوة والخروج، لكن كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟
“……لماذا؟”
في تلك اللحظة، اخترق صوته أذني كالسهم. وبدأت عيناه تموجان بعاطفة يصعب حتى وصفها.
حينها، اجتاحتني مشاعر غريبة، أشبه بوخز مؤلم من شعور بالذنب لا أدري مصدره، يضرب قلبي بقوة.
كنت أعلم تمامًا في عقلي أنني لم أرتكب أي خطأ هنا.
لم تكن علاقتي بـ«رانييل» وثيقة إلى تلك الدرجة، ووليّ العهد لم أرَه إلا مرة عابرة في إحدى الحفلات القديمة، فكيف يكون إهمال الطفل خطئي أنا؟
لكن، رغم ذلك…
حين رأيت حال المكان بعينيّ، بدا كل شيء وكأنه خطئي أنا. كان إحساسًا غريبًا جدًا.
‘لو أنني فقط لم أتردد في ذلك الوقت، وبقيت مستيقظة طوال الليل لأبحث عنه أبكر قليلاً…’
“خالتك آسفة.”
“…….”
نظر إليّ الطفل بصمت، ثم بدأت يداه ترتجفان. عندها فقط أدركت غبائي.
‘اللعنة، الجرعة!’
لقد بدا متماسكًا إلى درجة أنني نسيت أن أجعله يشربها. بسرعة فتحت غطاء الزجاجة وسكبت محتواها في فم داميان، ولحسن الحظ لم يقاوم وشربها بهدوء.
‘يا إلهي! كيف نسيت شيئًا كهذا؟ ولماذا أصلًا هو الوحيد الذي لم يتأثر بالنوم؟’
لكن حين نظرت عن كثب، لاحظت أن جسده الصغير كان يرتجف بشدة. ربما استخدم قدرًا كبيرًا من طاقته لمقاومة مفعول جرعة النوم.
“لا تقلق، هذا ليس شيئًا غريبًا. إنه ترياق فقط. داميان، خالتك آسفة جدًا. حاول أن تسترخي، كل شيء بخير، حسنًا؟”
وحين أنهى شرب الدواء، بدا أنه بدأ يسترخي بالفعل، حتى أنه كاد ينهار أرضًا، فسارعت إلى احتضانه وربّتُّ على رأسه.
“ششش، لا بأس، لا بأس يا داميان. أعلم أن كل هذا مفاجئ وغريب بالنسبة لك، لكن… هل يمكنك أن تأتي معي؟”
ما إن قلت ذلك حتى بدأ داميان يقاوم بخفة. وكان ذلك متوقعًا — فمن الطبيعي ألا يثق بي، ما الذي يجعله يذهب مع غريبة هكذا؟
صحيح أن الأطفال في مثل عمره يمكن خداعهم بقطعة حلوى، لكنني لم أكن أعرف حتى كيف أشرح له الموقف، فظللت مترددة، لا أدري ما أقول.
رغم ذلك، حتى لو قال إنه لا يريد الذهاب، فسآخذه معي. لم يكن لدي خيار آخر.
ولو رفض مرافقتي، فسأكون قد أديت واجبي على الأقل. عندها، لو كان البطل يملك ذرة من الضمير، فلن ينتقم من عائلة «إستيلا» بتهمة إهماله، فقد حاولت إنقاذه فعلاً.
‘لقد رفض بنفسه، فماذا يمكنني أن أفعل؟’
لكنني، ولعنةً عليّ، كنت ما زلت إنسانة من هذا العصر، أملك ضميرًا لا يسمح لي بترك طفل في مكانٍ أسوأ من حظيرة حيوانات كهذا.
ثم حدث ذلك.
مدّ داميان يده الصغيرة وأمسك بطرف ثوبي بقوة، وهو يرتجف أكثر فأكثر.
كان يبدو مترددًا…
ثم، فجأة، انهار وجهه على صدري.
“……أمي.”
في تلك اللحظة، شعرت وكأن أحدهم ضربني على رأسي بمطرقة. تجمّدت الكلمات في فمي.
كل ما استطعت فعله هو حمل الطفل، والهرب من هناك، تاركةً خلفي العشرات من الأطفال الآخرين الذين يشبهونه.
عضضت على شفتي بقوة، محاوِلةً إيقاف أي تفكير أو إحساس، ثم ضممت داميان إلى صدري واندفعت نحو الخارج.
“جين!”
ما إن فتحت باب القبو، حتى رأيت جثثًا كثيرة ممددة على الأرض. وسط ذلك المشهد، كان «جين» يقضي على آخر حارس واقف، بوجهٍ بارد خالٍ من التعابير، وخوذته ملقاة في مكان ما.
أسرعت بإخفاء رأس داميان في صدري، حتى لا يرى شيئًا من هذا المنظر.
كان المشهد صادمًا حتى بالنسبة لي، لكنني كنت راشدة، أستطيع تحمّله.
“علينا أن نرحل الآن.”
أمسك «جين» بيدي بقوة، وركض بنا نحو النفق الضيق الذي دخلنا منه قبل قليل.
“تخلصت من كل من رأى وجهي. لا تسأليني كيف فعلت ذلك. على الأرجح سيظنون أن ما حدث من فعل جماعة ’ليزارد‘، لذا لن تكون هناك مشكلة… على الأقل إلى أن يكتشفوا الحقيقة.”
واصلت الركض وأنا أربت بخفة على ظهر داميان بين ذراعيّ. كان ثقيلاً، لكن لم يكن أمامي خيار آخر.
«جين» هو الوحيد بيننا الذي يملك القوة القتالية، أما أنا فكلتا يديّ مشغولتان بحمل الطفل، ولو هاجمنا أحد فلن أستطيع الدفاع عن نفسي.
ولم يكن بوسعي أن أضعه أرضًا وأطلب منه الركض، فكيف يمكن أن أجعل طفلًا في هذا الوضع يركض وحده؟
“داميان، أغمض عينيك. كل شيء بخير.”
مرّرت أصابعي على شعره وأنا أركض بكل ما أوتيت من طاقة. كان قلبي يخفق بجنون من التوتر، ورأسي يدور من فرط الأدرينالين.
‘وماذا الآن؟ ما الذي يجب أن أفعله بعد هذا؟’
‘ولِمَ، بحق السماء، يشبهني إلى هذا الحد بدلًا من أن يشبه والده!’
اللعنة! حتى أنني لا أستطيع معاملته ببرود كما كنت أنوي.
داميان هذا، الذي يستطيع أن يزلزل ضميري بهذا الشكل، لا أستطيع حتى أن أكرهه.
كل ما استطعت فعله هو أن أضمه إليّ بقوة أكبر.
‘تبًا، هذا غير معقول… حقًا غير معقول.’
“بالفعل، إنه ملفت للنظر جدًا.”
قال جين بابتسامة واسعة وهو يركض بجانبي.
“يعني، الشبه واضح تمامًا. لماذا لم تخبريني مسبقًا؟ لو فعلتِ، لما تفاجأتُ هكذا. أوه، احذري رأسك!”
ضغط «جين» على رأسي لأسفل بسرعة، وفجأة دوّى صوت معدني مألوف من بعيد — صوت ارتطام حاد.
“ما هذا؟ ليسوا صراصير كي يظهروا بلا توقف… يبدو أن لديهم مالًا كثيرًا، من عدد الحراس الذين استأجروهم!”
قالها ببرود وكأن الموقف لا يهمه إطلاقًا، بينما كنت أنا على وشك الانفجار من الخوف والتوتر.
ثم أشار بيده إلى الفتحة الضيقة أمامنا بابتسامة صغيرة.
“هيا بنا. علينا استغلال الفوضى الآن، ومغادرة هذه المنطقة بأسرع ما يمكن.”
في تلك اللحظة، شعرت بداميان بين ذراعي يتحرك قليلًا، ينظر إليّ بعينين غارقتين في الحيرة والارتباك.
لكنني سرعان ما أخفيت وجهه في صدري مجددًا وقلت بهدوء:
التعليقات لهذا الفصل "78"