الفصل 79
فستانٌ كريميٌّ مثله تمامًا، لكنّ التّزيين بالزّمرد بدلًا من الياقوت… همم؟
لاحظ أشيريل دهشتي فورًا، فخلع العقد والأقراط الحمراء عنّي بنفسه.
“لنغيّر المجوهرات إلى هذه.”
في طرفة عين ظهر في يده عقد زمرديّ فخمٌ أبهى بكثير من السّابق، فالتفّ حول عنقي كأنّه صنع ليكون هناك.
علّق لي الأقراط بنفسه، ثمّ مدّ يده اليمنى إلى الأمام واليسرى إلى الخلف وابتسم ابتسامة هلاليّة.
“هل نذهب، انستي؟”
احمرّت رقبتي بنار، لكنّني رفعتُ ذقني بتكبّر ووضعتُ يدي المُغطّاة بالقفّاز الأبيض فوق يده.
“يشرفني، سيّدي.”
قلبي على وشك الانفجار!
شعره الأبيض الفضيّ اللاّمع، رموشه الطّويلة، أنفه الحادّ، وشفتاه الورديّتان الهادئتان… كلّه مثاليّ جدًّا.
على فكرة، متى سيعود والداي؟ كنتُ أظنّ أنّهما سيكونان في القصر قبل موسم الحفلات، لكن…
أنا قلقة عليهما، لكن لا أعرف مكانهما فلا أستطيع التّواصل، هل كان يجب أن أطلب من أشيريل أن يبحث عنهما؟ لكنّني شعرتُ أنّ ذلك تجسّس فلم أفعل.
قبل أن ينتهي اضطراب أفكاري، وصلنا إلى القصر الإمبراطوريّ.
في الأصل لا تُسمح للعربات بدخول القصر الدّاخليّ، لكن اليوم استثناء، لأنّ الحفل يُقام في القاعة الكبرى داخل القصر نفسه.
كانت الشّمس تغرب رويدًا رويدًا.
“يدخل صاحب السّموّ دوق ديلات أشيريل و الآنسة ريليز كايدن!”
عبرنا الباب المفتوح على مصراعيه خلف صوت الحاجب الرّنّان. بدءًا من المقرّبين منّا وصولًا إلى النّبلاء الكبار في عمق القاعة، التفّت إلينا كلّ الأنظار.
ليس لدينا معارف كثر، فالأفضل أن نبقى في مكان هادئ.
“من هنا، سيّد أشيريل!”
لوّح ماثيو من بعيد بفرح.
بدل ردائه المعتاد الرّثّ، كان يرتدي ملابس رسميّة أنيقة، لدرجة أنّني لو مررتُ به في الشّارع لما عرفته.
“غريب أن أراك خارج المعهد، كنتُ أظنّك عالقًا في المختبر.”
“أنا؟ وريث عائلة روهات، لا مفرّ من الحضور.”
“أنت وريث كونتيّة روهات؟!”
“نعم، هل هناك مشكلة؟”
كان دائمًا مختفيًا في المعهد، وأكبر منّي بسنوات ولم يتزوّج بعد، فظننته من عائلة متواضعة، ابنًا ثانيًا أو ثالثًا على الأقلّ!
“لا، تبدو منعشًا ووسيمًا.”
“هههه، شكرًا. أنتِ أيضًا جميلة جدًّا يا ريليز.”
“ابتعد عن خطيبتي.”
اقتحم أشيريل الحديث فجأة، فتراجع ماثيو خطوة وهو يصرخ “هيييييك!”
يبدو أنّ أشيريل أرهقه حقًّا في السابق.
عائلة روهات مشهورة بالأدوات السّحريّة المنزليّة، لذا من الطّبيعي أن تُنتج سحرة بكثرة.
ظهر المزيد من زملاء المعهد، وقيل لي إنّ الأستاذ سيصل متأخّرًا قليلًا.
ثمّ ظهر ضيفٌ آخر نسيته تمامًا…
“مرحبًا، ريليز.”
الخبير في استفزاز أشيريل، سار.
غريبٌ أن أراه بالزيّ الإمبراطوريّ بدلًا من عضلاته العاريّة المعتادة.
“مرحبًا، صاحب السّموّ الأمير.”
بسبب أعين النّاس استخدمتُ الصّيغة الرّسميّة، فارتعش سار قليلًا لكنّه أومأ.
“منذ زمن. كيف حالكِ؟”
“بفضل اهتمام سموّك. هل انتقلتَ بسلام؟”
“نعم، أملأ الآن قصرًا نظيفًا في غرب العاصمة. تعالي للزّيارة متى شئتِ.”
“يشرفني.”
كأنّني انسة نبيلة حقًّا، آه، أنا لستُ انسة نبيلة بالأساس؟
كرّرتُ لنفسي أنّني انسة وتبادلتُ الحديث الأنيق مع سار حسب تعاليم معلمة بولايت.
نحن الاثنان كنا نركضان في صحراء متفجّرة، فالمشهد الآن مضحك جدًّا.
“لماذا تضحكين فجأة؟”
“تذكّرتُ أيّام نركض فيها في رمال تنفجر.”
ابتسم سار بدوره.
“صحيح، أختي ليز. تحدّثي براحة، نحن أصدقاء.”
“رغم ذلك، نادني ريليز، نحن في مكان رسميّ.”
عبس سار لكنّه لم يعترض.
عبس أشيريل الذي كان صامتًا، ثمّ التصق بي فجأة وابتسم ابتسامة عريضة. آه، كان هادئًا جدًّا، كان ينتظر.
نظرتُ حول القاعة فرأيتُ هاروت في الجهة المقابلة، فأدرتُ وجهي بسرعة كي لا يشعر.
همس.
همم، النّاس ينظرون إليّ وإلى هاروت بالتّناوب. طبيعيّ، فقد تقاتلنا تقاتلًا صاخبًا وها نحن الآن نتجاهل بعضنا، فالجميع فضوليّ.
ثمّ انضمّ إلينا أشيريل الشّهير، ووريث عائلة روهات المرموقة، وسحرة القصر، وأمير أراهين، فازداد عدد النّاظرين إلينا.
نظرات تتفحّص أشيريل وسار كفريسة شهيّة، ونظرات فضوليّة أو عدائيّة تطعنني من كلّ صوب.
“مجد الإمبراطوريّة! يدخل جلالة الإمبراطور وجلالة الإمبراطورة!”
عندما بدأت الأنظار تتحوّل إلينا بنزق، دخل الإمبراطور والإمبراطورة، ثمّ تينس والأمير الثّالث والأميرة. تنفّستُ الصّعداء.
بينما كان الإمبراطور يلقي خطبته الطويلة على المنصّة، كنتُ أقف منتصبة القامة وأرفع ذقني قليلًا لأتحمّل النّظرات الحادّة.
“لرفاهيّة الإمبراطوريّة!”
بانتهاء الجملة الأخيرة تفرّق النّاس إلى جوانب القاعة، لإخلاء منصّة الرّقص الوسطى.
“نرقص؟”
قبل أن أجيب، خطا أشيريل إلى المنصّة. هكذا هو أشيريل دائمًا.
لكنّه على الأقلّ لا يفعل شيئًا أكرهه حقًّا، ولا يضعني في موقف محرج.
رقصنا أغنية واحدة ثمّ خرجنا، فرأينا سارد وأمامه انسة تطلب منه الرّقص.
“وااه، سار يتلقّى طلب رقص.”
“أتمنّى أن يرقص معها ويعجبه الأمر، كي يترككِ وشأنك.”
“قلتُ لك إنّ سار كان يريد استخدامي فقط.”
أخبرته منذ زمن بكلّ ما دار بيني وبين سار في القصر، لكن يبدو أنّ أشيريل ما زال يكرهه.
أنا أيضًا لا أنوي التقرّب من سار أكثر.
إنسان اقترب منّي فقط لأنّه ظنّني صديقة الأمير الإمبراطوريّ ودوق ستيا، وربّما كان له هدف آخر الآن بعد أن أصبحتُ خطيبة دوق ديلات تقريبًا.
لا أحد يعطي شيئًا مجّانًا، فالأمر ليس مفاجئًا، لكنّني لا أريد التعامل معه.
أشيريل وحده يكفيني وزيادة.
“أشيريل.”
ناداه معلمي فجأة، فرح أشيريل لحظة، ثمّ عبس عندما رأى من بجانبه.
“من اليسار: رئيس الوزراء، وزير الجيش ونائبه، وقائد الفرسان اللّعين.”
“تعال لحظة.”
تحت ضغط الأستاذ، تجهّم أشيريل، ثمّ أمسك يدي واتّجهنا نحو ماثيو.
“ليز، ابقي هنا حتّى أعود. مفهوم؟ ماثيو، راقب جيّدًا أيّ أحد يقترب من ليز.”
حتّى تينس ذهب معهم، يبدو أنّ أمرًا كبيرًا يحدث.
لحسن الحظّ لا حرب أهليّة وشيكة، لكن ربّما مشكلة أخرى؟
قريبًا سأخبر معلمي بكلّ ما رأيتُ…
“نلتقي مجدّدًا، آنسة كايدن.”
“تحيّة لجوهرة الإمبراطوريّة الجميلة، صاحبة السّموّ الأميرة.”
انحنيتُ أمام الأميرة التي وقفت أمامي فجأة مع حاشيتها. كرهتُ نظرتها وتمنّيتُ لو أصبح دوقة فورًا.
الدّوق والدوقة ينحنيان للإمبراطور والإمبراطورة فقط.
بسبب غياب والديّ لم نعجّل الخطوبة، فعزمتُ على تعجيل الزّواج على الأقلّ.
“سمعتُ الخبر متأخّرًا، يبدو، تقولين إنّكِ كنتِ خادمة؟”
ابتسمت الأميرة بطرف شفتها الواحدة، وهزّت كأسها برفق.
لحظتُها لاحظتُ أنّ الأميرة وحاشيتها جميعهم يحملون كؤوس نبيذ أحمر.
شعور سيّء جدًّا…
“نلتقي مجدّدًا، صاحبة السّموّ.”
تدخّل ماثيو في الوقت المناسب، فنظرت إليه الأميرة بنزق.
مختلف تمامًا عن المرّة السّابقة التي هربت فيها عندما عرفت أنّني تلميذة ساحر الاعظم. هنا أرضها.
“نريد أن نتبادل الحديث الودّي بين انسات، فسننتقل قليلًا.”
ضحكت الجزرية (الفتاة ذات الشّعر البرتقاليّ) ووقفت خلفي كي لا أتراجع.
“تفضّلي معنا، انسة كايدن.”
“آنسة إيانيك ، كنتُ أتحدّث مع انسة كايدن.”
“يمكنكما بعد. هوهو.”
بل دفعتني الجزرية قليلًا إلى الأمام، فوصلتُ أمام الأميرة مباشرة.
هذا بالتّأكيد مؤامرة، صحيح؟
أعرف، لكنّني عاجزة، فغضبتُ حتّى الجنون.
لكن لا يمكنني إظهار ذلك، فعضضتُ شفتيّ، فأرخَت الفتاة بجانب الأميرة يدها فجأة.
شوووك.
سال النّبيذ الأحمر على فستاني الكريميّ.
التعليقات لهذا الفصل " 79"