الفصل 65
كانت الشفتان خفيفتين جدًّا في البداية، لكنّهما سرعان ما أصبحتا ثقيلتين.
رغم أنّه ليس التماس الأوّل، فإنّ التنفّس أصبح صعبًا كأنّه المرّة الأولى.
بسبب اللمسة الغريبة التي التفّت حول خصري ومؤخّر رأسي، فتحتُ فمي دون وعي منّي.
عندما أمسكتُ بطرف الرداء بيد مرتجفة، فركتْ بتلات الزهرة شفتيّ كأنّها تهدّئني قائلةً «لا بأس».
نـــبـــض، نـــبـــض، نـــبـــض، نـــبـــض.
امتلأ العالم بكاملِه بصوت دقات قلبي.
بينما كنتُ أدرك ما الذي نفعله أنا وأشيريل ، لم أستطع تصديقه.
يدٌ تدلّك ظهري بلطف كأنّها تهدّئني أنا التي لم أستطع إغماض عينيّ بشكل صحيح وأوقفتُ أنفاسي، فاجتاح جسدي قشعريرة.
في اللحظة التي كاد فيها ذلك الإحساس الرطب أن يتسلّل إلى داخل فمي…
طق طق طق.
«يا آنسة، جئتُ بالوجبة الخفيفة.»
بصوت رونا المرح، دفعتُ أشيريل بعيدًا بقوّة.
«آه!»
رنّ صوت ارتطام عالٍ «كوادانغ»، لكنّني كنتُ أكثر انشغالًا بترتيب ملامح وجهي كي لا تظهر عليّ شبهة.
«ادخلي!»
دخلت رونا حاملةً صينية في يدها. وضعت الصينية التي تحمل ساندويتشات وعصيرًا على الطاولة، ثمّ نظرت إلى جانبي وانتفضت فجأة.
«هاه! هناك شخص ملقى على الأرض. هل أنادي الطبيب؟»
«أجل، لا. أقصد… لا داعي لاستدعاء الطبيب.»
أشيريل لم يتحرّك قيد أنملة، لكنّه بالتأكيد حيّ، أليس كذلك؟
«حسنًا، فهمتُ. أخبريني إن احتجتِ شيئًا آخر.»
«نعم.»
ما إن أغلقت رونا الباب وخرجت حتى قفز أشيريل واقفًا فجأة. جلب كرسيًا وجلس أمامي مباشرة، ثمّ أظهر مؤخّر رأسه.
«ليز، لقد ظهرت لي كتلة.»
عندما ضغطتُ بقوّة على الجزء المنتفخ، انتفض أشيريل مذعورًا.
«آآآآآخ!»
«يا آنسة! ما الذي حدث؟!»
ربّما كانت تنتظر خارج الباب، فقد دخلت رونا قبل أن ينتهي الصراخ.
«لا شيء.»
ابتسمتُ ابتسامة عريضة بينما أزحتُ يدي عن الكتلة في مؤخّر رأس أشيريل ، فخرجت رونا مجدّدًا وهي تبدو متردّدة.
«هذا قاسٍ جدًّا يا ليز. دفعتني بتلك الوحشيّة، ثمّ تضغطين على مكان الألم.»
«أنا مضطرّة لكتابة ردود على دعوات الحضور، فأرجو أن تبقى هادئًا.»
بسبب الإحراج من الحدث السابق، وبّخته بصوت مرتفع دون داعٍ، فشكّل أشيريل وجهًا باكيًا.
«سأكتب أنا الردود.»
«من أين أتى… هذا.»
الذي رفعه أشيريل كان مظروفًا مختومًا بختم شمع عائلة ستيا.
الخطّ على وجه المظروف كان بلا شكّ خطّ هاروت.
«سأقرأ المحتوى ثم أقرّر.»
فتحتُ المغلف بيدي كعادتي، ثمّ أدركتُ وجود سكّين الورق. حسناً، في المرّة القادمة سأستخدم الأداة بالتأكيد.
الورق الصلب كان من النوع الفاخر جدًّا الذي لا يُباع في السوق ويجب طلبه خصّيصًا.
وحتى الحروف المكتوبة بعناية ووضوح، كلّ شيء في مظهر هذه الرسالة كان يصرخ «هاروت ستيا» بكلّ ما تعنيه الكلمة.
[إلى ليز العزيزة التي أشتاق إليها.
لم أنم ليلة أمس ولو هنيهة بعد أن أرسلتكِ هكذا.
ما زلتُ لا أصدّق أنّكِ اخترتِ رجلاً آخر غيري. أظنّ أنّ هذا هو المقصود بأن يشعر المرء أن كلّ شيء كحلم.]
تشبّثتُ بالرسالة وأكملتُ قراءتها حتى النهاية رغم محاولات أشيريل المتكرّرة لانتزاعها.
الجزء الأخير من الرسالة التي كتب فيها هاروت بإسهاب غير معتاد كان مذهلاً.
[حبيبتي ريليز، أنا دائمًا في انتظاركِ.
– دائمًا مخلصٌ لكِ، هاروت.]
«هل جنّ هذا؟ كيف يجرؤ على قول كلام متغطرس لحبيبة شخص آخر؟»
احترقت رسالة هاروت بمظروفها ولم يبقَ منها حتى الغبار.
«ليز، لا تكتبي ردًا على هذا. موافقة؟ سأكتبه أنا.»
كنت قلقة أن يكتب رسالة تحمل لعنة، لكنّني تركته وشأنه.
يبدو أنّ هذا هو الحدّ الأدنى الذي يجعل هاروت يعترف أنني لا أحبّه.
فجأة أدركتُ أنني أعرف خطّ هاروت جيّدًا، لكنّني لا أعرف خطّ أشيريل تقريبًا.
«هل يمكن لسيّد الدوق أن يكتب لي رسالة أيضًا؟»
«رسالة؟ فجأة؟»
«لأنني تلقّيت رسالة من دوق ستيا، صرتُ أريد أن أتلقّى رسالة منك أنت أيضًا.»
كان أشيريل يكتب «هاروت ستيا» على مظروف الرسالة التي أرسلها الآخر، فعبس بين عينيه.
«يجب أن أكتبها بنفسي؟»
«أم أنّك تنوي أن تأمر خادمًا بكتابتها؟ إنّها موجّهة إليّ أنا.»
رأيتُ أشيريل الذي يقول إنّه سيفعل أيّ شيء ما عدا كلمة الفراق، يرتجف، فازدادت رغبتي في مضايقته لأنّ هذا المنظر نادر.
«يبدو أن دوق ستيا أكثر اهتمامًا بكثير. ولو أنّه…»
«سأكتب! حتماً سأكتب!»
صرخ أشيريل بسرعة وسدّ فمي، فبدى كصبي وقع في مأزق.
يا للطف.
لا، ماذا أفكّر فيه الآن!
لكنّه فعلاً لطيف.
عندما صفعتُ خدّي، فغر أشيريل عينيه وأزاح يده.
«هل تفعلين هذا لأنني سددتُ فمكِ؟»
«كلا، كنتُ فقط أهدّئ قلبي المضطرب قليلاً.»
«يعني كنتِ تمحين قلبكِ الذي كاد ينجذب إلى ذلك الوغد هاروت، صحيح؟»
ليس كذلك، لكنّني هززتُ رأسي كأنّه كذلك تقريبًا.
«سأكتب لكِ رسالة كلّ يوم، فامسحي ذلك الوغد من رأسك. لو كان الأمر بيدي لاستخدمتُ تعويذة تمحو الذاكرة، لكن لها آثار جانبيّة فـ سأتحمّل.»
«ما هي الآثار الجانبيّة؟»
«تصبحين غبيّة.»
«حسنًا، لا تستخدمها عليّ أبدًا.»
أجبتُ بحزم.
في النهاية، رفضتُ كلّ الدعوات.
لم أرغب في إرضاء اهتماماتهم الصارخة، ولحسن الحظ لم تأتِ دعوات من العائلة الإمبراطوريّة أو دوقيّات يجب عليّ حضورها.
بدل إضاعة الوقت في أمور تافهة، كان تعلّم السحر والتاريخ أمتع بكثير.
كان دعم أبي الكامل، الذي يحبّ العلم، عاملاً كبيرًا أيضًا.
«ليز، سرعة تعلّمكِ مذهلة، فأشعر بمتعة في التدريس.»
«ذلك بفضل شرح أبي السهل. وأسطورة تأسيس الإمبراطوريّة مثيرة للاهتمام جدًّا.»
«تقصدين قصّة حاكم الحياة ميكايل الذي يحمل الحرارة في جسده، وكيف هزم حاكم الموت ليفياثان الذي يسيطر على البرد والجليد، ثمّ أسّس الإمبراطوريّة؟»
«نعم، وليس مجرّد حكاية قديمة، بل إنّ آثارها ما زالت موجودة في كلّ مكان.»
يقال إنّ الأرواح هي بقايا وجود حاكم الحياة في هذه الأرض، والقوة السحريّة هي بقايا حاكم الموت.
في دروس السحر، إلى جانب السحر العملي، أدرسُ مادّة تُدعى «علم السحر»، وفيها قصص مشابهة.
«الأمر الممتع أيضًا أنّ العلوم مترابطة.»
«لأنكِ تدرسي السحر والتاريخ والأساطير معًا. العلوم تبدو مختلفة لكنّها في النهاية متّصلة.»
في السابق كنتُ أدرس لأنفّذ وصيّة والديّ، وفي هذه الحياة لأبقى على قيد الحياة، لكنّ الدراسة أصبحت ممتعة حقًّا.
«حسنًا، تنتهي دراستنا اليوم هنا.»
وضع أبي أمامي كتابين عليّ قراءتهما قبل الدرس القادم.
***
«ها هو، ليز.»
كان أشيريل قد استقرّ تمامًا في قصر كايدن، وكان يحترم وعدَه بكتابة رسالة كلّ يوم بأمانة.
وإن كان يكتب الرسالة بجانبي، ثمّ يختمها ويسلمها لي.
«تحسّن خطّك كثيرًا. أستطيع الآن تمييز المحتوى جيّدًا.»
عندما تلقّيتُ أول رسالة، فهمتُ لماذا كان يكره كتابة الرسائل؛ كان يكره الكتابة بشدّة، وخطّه فظيع.
«هل يجب أن تقوليها بهذه الطريقة يا ليز؟»
«إنّها مديح.»
«مديح؟ تسمّين هذا مديحًا؟ غريبة. بالتأكيد ليز الخاصّة بي لم تكن وقحة إلى هذا الحدّ.»
لقد تغيّرت شخصيتي من كثرة العيش مع أشيريل ذي الوجه النحاسيّ.
تمتمتُ في سرّي وقرأتُ الرسالة.
همم، اليوم أيضًا مليئة بعبارات «أحبّك».
مهما قرأتُ الاعترافات، لا أعتاد عليها، فيشتعل حلقي.
«تعلّمتُ اليوم في الدرس عن أسطورة تأسيس الإمبراطوريّة.»
«ميكايل وليفياثان؟»
«نعم.»
طويتُ الرسالة ووضعتها في الدرج.
«إذا فكّرنا في الأمر، فأنت تحمل في جسدك الحياة والموت معًا.»
«بالنسبة لي كلاهما يشبه الموت.»
أجاب أشيريل بنبرة فاترة وهو يضع ذقنه على الطاولة بجانبي. عندما ربتُّ على رأسه، استرخى طرفا عينيه فورًا.
«بالنسبة لي، أنتِ هي الحياة يا ليز.»
ما زال يحتاج إلى لمسات جسديّة بشكل دوريّ في أوقات محدّدة، لكن مع ازدياد تواصلنا الجسديّ، نقص صداعه بشكل ملحوظ.
الآن يتباهى قائلاً إنّه صار ينام ليالٍ طويلة نسبيًّا.
مجرّد ساعتين أو ثلاث يعتبرها نومًا عميقًا ويفرح، فأفهم لماذا لا يستطيع إلّا أن يتشبّث بي.
«بالمناسبة ليز، هيّا نذهب لنصنع ملابس متطابقة.»
«فجأة؟»
«عيد رأس السنة قريب.»
«آه…»
في الإمبراطوريّة، من اليوم الأوّل للسنة الجديدة ولأسبوع كامل، يُقام مهرجان ضخم.
يجتمع التجّار من كلّ أنحاء الإمبراطوريّة ويعرضون بضائعهم.
أمّا النبلاء فيجب عليهم حضور الاحتفال الذي يقام في القصر الإمبراطوري في اليوم الأوّل.
سمعتُ أنّه فخم إلى درجة أنّ ملوكًا ونبلاء من دول أخرى يزورونه…
«نحن عشّاق، أليس من الطبيعي أن نصنع ملابس متطابقة؟»
قال أشيريل بخجل وخدوده محمّرة.
«أنا… كنتُ أريد أن أتباهى إذا رزقتُ بصديقة يومًا.»
من الذي تنوي أن تتباهى أمامه بالضبط؟
آسفة لهذا، لكن يا أشيريل ، أنت لا تملك أصدقاء أصلاً.
التعليقات لهذا الفصل " 65"