في تلك الأثناء، كان هناك شخص آخر يترقّب عودة ولي العهد بشغف.
كان الكونت كارما ينظر إلى ابنته بعينين قَلِقتين. روزالينا، التي كانت شاحبة الوجه أصلاً، جلست على الكرسي بعنف وقد ازداد وجهها بياضاً.
منذ عودة ولي العهد وزوجته وبدء الشائعات عن إيفلين، توقفت روزالينا عن الأكل، فصار وجهها نحيفاً وناتئاً.
“هل زال عنكِ الغضب الآن، روزالينا؟”
“لا أظن أن هذا شيء يمكن حله بزوال الغضب، أبي.”
قالت روزالينا ببرود.
منذ أن سمعت أن إيفلين عاقلة، كانت تشعر أن الغدر يأكلها من الداخل.
تلك الفتاة خدعتها تماماً. كانت تتذكر بوضوح المعاناة التي تحملتها في قصر ولية العهد.
حتى في التجمعات الاجتماعية، كانت تشعر بسخرية الناس منها و نظراتهم المليئة بالتهكم.
“يقال انكها كانت لعبة بيد ولية العهد، أليس كذلك؟”
“يبدو كذلك. كانت تتفاخر بنفسها كثيراً. أتذكرون؟ كانت تتصرف وكأنها هي صاحبة السمو بينما كانت مجرد خادمة عند ولية العهد!”
كان شعوراً بالمهانة كأنها جُرّدت من كل ملابسها.
“إنها مسألة شرف بالنسبة لي، أبي. كيف يمكن لولي العهد أن يفعل بي هذا؟ لم يعترض أبداً على أي ظلم تعرض له منزلنا . و ماذا عن الخطوبة التي كانت بيني وبينه؟ حتى لو كانت مجرد كلمات، أليست تلك وعوداً؟”
“يا ابنتي، روزالينا…”
وفوق ذلك، كانت ترتجف من شعورها بالخيانة من قِـبل مورتيغا.
تصرف وكأنه في صفها، لكنه في النهاية تجاهلها تماماً.
رغم أنها أثارت الشكوك حول ولية العهد، لم يحدث شيء على الإطلاق.
لقد خدعتهم تلك المرأة المحتالة جميعاً.
“ولي العهد مخدوع. تلك المرأة استخدمت حيلة غريبة لتخدع الجميع. كما خدعتني، هم جميعاً مخدوعون بها الآن!”
تنهد الكونت كارما.
“لابد أنها تخفي نوايا قذرة. ربما تطمع بشيء آخر. تظاهرت بأنها غير عاقلة، و مع ذلك كانت تلتقي برجال آخرين.”
قالت روزالينا و هي تصرّ على أسنانها. أصبحت القصة التي اخترعتها و كأنها حقيقة مؤكدة.
ظلت تكررها حتى بدأت تصدقها. بل لا بد لها أن تكون كذلك.
يجب على إيفلين أن تتعرض للمهانة التي تعرضت لها روزالينا.
عليها أن تكشف حقيقتها أمام الجميع. وإلا فإن روزالينا لن تحتمل هذا الغيظ.
“سأُري ولي العهد كل شيء. سأُظهر له حقيقة تلك المرأة. نعم، أبي. الجميع يجب أن يعرف. مثل تلك المرأة لا تليق بمكانة ولية العهد، أليس كذلك؟”
ابتسمت روزالينا ابتسامة باردة. ستقلب كل الإهانات التي تلقتها رأساً على عقب بضربة واحدة.
كانت واثقة بنفسها.
****
في وقت متأخر من الليل.
اقترب سيرتين من إيفلين بوجه غارق في التعب. لمس وجهها الصغير النائم بأطراف أصابعه.
منذ عودته إلى العاصمة الإمبراطورية، لم ينعم بأي راحة حقيقية.
رغم أنه كان مستعداً لذلك، إلا أن ترحيب دوق سبيلمان كان أكثر شراسة مما توقع.
وصل الكونت تشينشيس إلى العاصمة بسلام. أقام مؤقتاً في مكان رتبه له سيرتين، وتم تنصيبه رئيساً للمجلس دون مشاكل.
بفضل لقاءاته مع النبلاء، واستخدامه أسلوب الترغيب والترهيب، استطاع أن يسيطر على الوضع.
وبعدما تلقى دوق سبيلمان ضربة قوية في الظهر، ظل هادئاً، مما سمح بإنهاء الأمور بسلاسة.
رغم أنه شخص خبيث و لا يبدو أنه سينسحب بسهولة، إلا أنه كان لا بد من التركيز الآن على المهام. كما كان عليه أن يراجع كل ما حدث أثناء غيابه.
بعد أيام من دون طعام جيد أو راحة، شعر سيرتين بالإرهاق الكامل.
وسط كل تلك الانشغالات، كان يتذكر إيفلين. وجهها المبتسم لا يغيب عن ذهنه.
يتذكر دفئها، ورائحتها. رغم أنها قريبة جداً، لم يكن يستطيع لمسها.
استعار سريرها في هذا الفجر كالسارق، لكن ذلك لم يُشفِ شوقه.
ربما بعد إنهاء النقاش حول وزارة الخارجية في مجلس النبلاء بقيادة الكونت تشينشيس، سيتمكن من التنفس أخيراً.
تحركت إيفلين قليلاً بسبب حركة يد سيرتين.
“همم…”
كتم سيرتين أنفاسه. أراد أن يوقظها، لكنه أراد أيضاً أن يتركها تنام بسلام.
فتحت إيفلين عينيها ببطء. من بين جفنيها المتثاقلين ظهرت عيناها الزمرديتان الجميلتان.
“…مرحباً، إيفلين.”
همس سيرتين بصوت هادئ.
“سيرتين؟”
نادته إيفلين . رمشت بعينيها ببطء.
“متى أتيت؟ هل هذا حلم؟”
ضغط سيرتين شفتيه على شفتيها بلطف، ثم أبعدهما.
“ليس حلماً.”
ضحكت إيفلين بخجل ثم غطّت نفسها بذراعيه.
انتشرت خصلات شعرها الوردية على السرير.
لقد مضى وقت طويل منذ رأى عينيها تلتقيان بعينيه وهي تضحك.
داعب سيرتين رقبتها الصغيرة.
شدّ جسدها الصغير إلى صدره، واستنشق عطرها وكأنه يحاول تعويض ما افتقده.
ما زال الشوق يصرخ في قلبه، رغم كل ما ناله منها الآن. وتلاشت مشاعر الذنب لأنه أيقظها من نومها بهدوء.
“كنت قلقة عليك. سمعت أنكَ لا تأكل جيداً و لا تنام. لكني لم أكن أستطيع فعل شيء…”
ضغط سيرتين بشفتيه على جبين إيفلين.
“اشتقت إليكِ.”
ربما بسبب التعب المتراكم، أو لأن الوقت متأخر جدًا. لكن ما هو مؤكد أن مشاعره الصادقة كانت تظهر من دون أن يدري.
عض سيرتين شفتيه. لم يقل مثل هذه الأشياء لأحد من قبل. أصبح تنفس سيرتين أكثر هدوءًا. انتظر إجابة إيفلين كقط متوتر.
“… وأنا أيضًا.”
أجابت إيفلين وكأنها تتنهد. أبعدت إيفلين رأسها عن ذراعيه و ابتسمت ابتسامة جميلة.
“نحن نعيش في نفس المنزل، لكن لا يبدو الأمر كذلك.”
أطلق سيرتين ضحكة خفيفة. بدت عبارة “العيش في نفس المنزل” غريبة، لكنها أعجبته.
“هل أنهيتَ كل اعمالك؟”
دفن سيرتين شفتيه مجددًا على شفتي إيفلين المتمتمتين. كانت إيفلين تفوح منها رائحة عطرها.
لفّت إيفلين جسدها و عانقته.
تطايرت كل الأفكار والتعب والأشياء الأخرى عديمة الفائدة في هذه اللحظات.
أبعد سيرتين شفتيه.
حدق في إيفلين، التي كانت تتنفس بصعوبة .
حتى في الظلام، استطاع أن يميز ملامحها جيدا.
ضغط سيرتين بشفتيه على جبين إيفلين.
“قل إنكَ اشتقت إليّ مرة أخرى.”
عيناها اللتان ضاقتا بخجل تبدوان محببتين. أطاع سيرتين إيفلين طواعية.
“……اشتقت إليكِ كثيراً، إيفلين.”
التعليقات لهذا الفصل "98"