***
كان دوق سبيلمان واثقاً من نفسه. فقد وقف غالبية من حضروا اجتماع مجلس النبلاء في صفه. بعضهم بقي على الحياد، والبعض الآخر وقف في صف سيرتين.
‘كان ماركيز كيلرمان هدفًا مناسباً.’
حتى أولئك الذين وقفوا بثبات إلى جانب سيرتين في السابق، انضموا هذه المرة إلى صف دوق سبيلمان وكأنهم لا يملكون خياراً آخر.
لم يكن يهم إن كان الأمر مؤقتاً. ولم يكن يهم إن كان مجرد تعبير عن الحداد على الماركيز كيلرمان.
لأن هذه المرة الواحدة قد تكون الخطوة التي تقلب الطاولة لصالح سبيلمان.
رفع دوق سبيلمان شفتيه بابتسامة ماكرة.
“افتح الباب، يا سيد مورتيغا.”
قال الدوق بتعجرف. و كانت نظراته نحو مورتيغا، الذي كان يقف حائلاً أمام قصر ولي العهد، مليئة بازدراء خافت.
“من الأفضل لك ألا تقوم بشيء ستندم عليه، يا صاحب السمو.”
“إنها مسألة قد وافق عليها سمو ولي العهد بنفسه. وإن كان الهدف هو إثبات براءته، أفلا ينبغي لكَ أن تبتعد؟ يجب أن تدرك أن الإصرار على المنع يزيد من الشك. فالأسرار عادةً ما تفوح منها رائحة كريهة.”
نظر مورتيغا إلى دوق سبيلمان بنظرة حادة قبل أن يتراجع ببطء. لأنه كان يعلم أنه لا مفر في الوقت الحالي. لكن سيأتي يوم يرد فيه هذا الإهانة.
“أين صاحب السمو ولي العهد؟”
“سيصل قريباً.”
لسببٍ ما، تأخر سيرتين في قصر ولية العهد. لكنه قال إنه لن يتأخر كثيراً.
‘ربما كان يخطط لأمرٍ ما أيضاً.’
و رغم أن سيرتين ربما لا يثق تماماً بمورتيغا، إلا أن الأخير كان يثق به ثقة مطلقة. كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن سيرتين سينجح في أمرٍ ما.
“إذاً، هل يمكننا بدء التفتيش؟ أكرر، كل هذا من أجل صاحب السمو.”
أومأ مورتيغا برأسه. دخل دوق سبيلمان إلى الداخل بعينين مليئتين بالنشوة. ووبدأ رجال وزارة العدل الذين رافقوه بتفتيش قصر ولي العهد.
تقابلت عينا دوق روجر، الذي دخل أخيراً، مع مورتيغا.
قطّب ديميتور جبينه بخفة. علامة على أنه لا يرضى عن الوضع الراهن. و بعد أن حدّق في مورتيغا للحظة قصيرة، دخل هو الآخر.
تنفس مورتيغا الصعداء.
ديميتور لم يخن سيرتين.
كان شعوراً مروّعاً كما لو أنه تأكد بنفسه من هذه الحقيقة. بقي مورتيغا يتجول أمام الباب ويداه خلف ظهره.
وكان بإمكانه سماع صوت يدوس على شرف ومكانة قصر ولي العهد. كأن قلبه يتمزق. فكيف سيكون حال سيرتين عندما يرى هذا المنظر؟ لم يكن يعرف كيف سيواسيه.
وأثناء تململه كجرو بحاجة إلى قضاء حاجته، ظهر سيرتين.
بوجه أكثر هدوءاً مما كان يتوقعه مورتيغا، وبشكلٍ طبيعي تماماً.
وبابتسامته المعهودة.
“هل كنتَ تنتظرني؟”
حتى صوته الناعم كما هو. عندما ضيّق عينيه، ابتسم بسلاسة. نادى عليه مورتيغا بصوتٍ يكاد يبكي دون أن يدري.
“صاحب السمو ولي العهد!”
عندها أشرقت الشمس. وكأن شيئاً لم يحدث، و اخدت أشعتها تتلألأ .
***
كنت أتخيل دائماً لحظة انكشافي. و تخيلت ما سيحدث بعدها أيضاً.
وعندما اقتربت تلك اللحظة فعلاً، أصبحت أكثر هدوءاً. ربما لأنني تخيلتها كثيراً.
من المؤكد أن دوق سبيلمان يعتقد أنه يملك كل الأوراق.
فقد قام بتربية “إيفلين” بالخوف طوال الوقت، ولا بد أنه يعتقد أنها لن تخرج أبداً من قبضته.
وحتى لو كنت عاقلة، فهو يظن أنني سأفهم تهديده و أتحرك حسب رغبته.
لكنني لم أعد إيفلين التي كنت عليها في الماضي.
لم أعد تلك الطفلة المحبوسة في غرفة مغلقة.
وفوق كل ذلك…
لقد جاء شخص في وقت مثالي تماماً.
“إيفلين!”
نادَتني الجدة الكبرى إليزابيث بوجهٍ مفعم بالحيوية.
خرجت مع جوليا و فرسان الحراسة فقط للترحيب بعودة الجدة الكبرى.
أما فيرونيكا و الإمبراطورة، فكانتا الآن في القصر الإمبراطوري. فقد أمر سيرتين بأن تبقيا هناك حتى تنتهي جميع الأمور.
“جدتي.”
أمسكت بكلتا يديها.
“لا بد أن الرحلة كانت متعبة. هل صحتكِ بخير؟”
“بالطبع. الذين رافقوني هم من تعبوا وهم يسايرون سرعة العجائز.”
“أنا سعيدة جداً بعودتكِ سالمة.”
“سمعت أنكِ عانيتِ كثيراً مؤخراً.”
انخفض صوت الجدة الكبرى.
“يقال ان سبيلمان قام بأعمال دنيئة مجدداً، أليس كذلك؟”
“أنا آسفة جداً، جدتي العزيزة. أزعجناكِ بهذه الأمور فور عودتكِ. لا أعلم كيف أبرر لكِ ذلك.”
نظرات مذهولة كانت تتوجه نحوي، أولئك الذين نظروا إلي و أنا أتكلم مع الجدة الكبرى. بعضهم فتح فمه بدهشة، و آخرون فركوا أعينهم. وعندما رأوني على هذه الدرجة من الهدوء، لم يستطيعوا إلا أن يتنهدوا ويطلقوا أصوات الدهشة.
“ليعد كلٌ إلى موقعه و يؤدِّ واجبه.”
قالت جوليا بصوت منخفض و هي تضبط الوضع. وتبادلت نظرات مع جوليا.
“يجب أن تذهبي الآن إلى قصر سيرتين. هل ستكونين بخير؟”
انفجرت الجدة الكبرى ضاحكة.
“أشعر و كأنني أعود للحياة من جديد. الحيوية تسري في جسدي! هيا بنا يا إيفلين. لدينا الكثير من العمل لنقوم به!”
ربتت على يدي. كانت تملك ابتسامة مشرقة أكثر من أي شخص آخر.
لقد كانت عودة إليزابيث ليكسيا.
****
ابتسم دوق سبيلمان ابتسامة خبيثة.
لم يستطع أن يبقى ساكناً من شدة الترقب. فقد وصله تقرير يفيد أن تلك الأميرة الجريئة دخلت قصر ولي العهد. وقيل ان جوليا قد ساعدت إيفلين.
‘هل فهمت التحذير؟ أم أنها ما زالت حمقاء؟’
هذا ما سيكشفه الوقت. فلا وجود لأسرار تبقى إلى الأبد. عاجلاً أم آجلاً، ستُكشف الأسرار. وكان يخطط لاستغلال هذا السر بشكل جيد.
ما يؤسفه قليلاً، أنه كان يجب عليه الإبقاء على زوجته حيّة. لو كانت تلك المرأة لا تزال على قيد الحياة، لكانت وسيلة ممتازة لابتزاز إيفلين.
لكن، لا بأس حتى بدون ذلك. فماذا يمكن لتلك الفتاة الساذجة، التي أدركت الواقع متأخراً، أن تفعل؟
بل حتى لو كانت لا تزال غبية، فلا مشكلة. يمكن استغلالها كما هي الآن.
“أنتم بطيئون جداً! دوق روجر، أليس من الأفضل أن تسرعوا قليلاً؟”
التفت ديميتور، الذي كان واقفاً و يداه خلف ظهره، إلى دوق سبيلمان. في وجهه البارد بدا و كأنه يُشبه دوق روجر السابق. كان ابناً يشبه والده أكثر من أي أحد.
تذكر دوق سبيلمان الرجل العجوز الذي كان يُزعجه بكلامه المزعج، فرفع شفتيه بابتسامة خبيثة.
“بهذا الشكل سنسهر الليل بطوله.”
“يبدو أنه لا شيء مخفي، بما أن شيئاً لم يُعثر عليه. هل هناك داعٍ للعجلة؟ فالجريمة لن تهرب.”
قال ديميتور بصوت منخفض. كانت حركة وزارة العدل نتيجة لسلطة جوليا و ديميتور. لولاهم، لما تمّت الموافقة بهذه السرعة.
حدّق دوق سبيلمان في وجه الرجل الذي خان حتى صديقه القديم.
حين يفكر بذلك، ربما لم يكن يُشبه والده حقاً.
“آه، بالطبع، كلامكَ صحيح.”
“هل أنتَ متأكد حقاً من أن السم تم العثور عليه في قصر ولي العهد؟”
“هل تشككَ بي؟”
تنهد ديميتور.
“أنا لا أشك في الدوق سبيلمان. إنما أشك في ذلك الشخص الذي أدلى بالشهادة. لا شيء يظهر حتى الآن… لماذا أنتَ حساس إلى هذه الدرجة؟ و أنتَ لم تدلِ بالشهادة بنفسك حتى.”
بدأ دوق سبيلمان يعبث بعصاه.
“تسك.تسك. دوق روجر.”
نظر إليه سبيلمان بعينين باردتين. وطرق الأرض بخفة بعصاه، كأنه يحاول تغيير الجو.
“فكر جيداً بمن تمسك بيده الآن، أيهما سيكون أفضل لنا؟ أليس من الأفضل أن لا نُظهر العداء و نحن على وشك أن نصبح أصهاراً؟”
رد ديميتور ببرود
“ابدأ بحل مشكلة التبني أولاً. لا رغبة لي مطلقاً بأن أرى ابنة خادمة تصبح زوجة ابني. و إن لم تكن تستخف بي، فستتفهم كلامي.”
“بالطبع. سيُحل هذا الأمر قريباً، فلا تقلق كثيراً.”
وأثناء حديث الرجلين، وصل سيرتين. وكان مورتيغا قريباً جداً منه من الخلف. لكن ملامحه لم تكن كسابقها حين كان خاضعاً، بل استعادت حدتها.
“صاحب السمو ولي العهد. لقد تأخرت.”
“هل كان من الضروري أن أكون هنا؟”
أطلق سيرتين ابتسامة هادئة.
“لا أعتقد أنهم يحتاجونني لتفتيش غرفتي. بل ربما وجودي سيجعلهم غير مرتاحين.”
تحول هدوء سيرتين إلى مصدر قلق لدوق سبيلمان.
أخذ دوق سبيلمان يُدلك عصاه. لقد ضغط على سيرتين بما فيه الكفاية البارحة. كاد يضع النصل على عنقه وظن أنه كسر ذلك الهدوء المزعج.
‘لا يوجد طريق للهرب.’
هذا كله مجرد عرض. وإن لم يتم العثور على السم، فإن أحد رجال سبيلمان المندسين بين فرق التفتيش سيخفيه. في النهاية، سيتم العثور على دليل.
وسيرتين يعرف بلا شك أنه وقع في فخ، فلماذا…
“أنا فقط أراعي راحتكم.”
ما معنى هذا الهدوء؟
حينها فقط بدأ شعور غير مفسَّر بالقلق يتسلل. بدأ الشرخ الذي بدأ في مكان ما يظهر.
****
“وجد… وجدناه!”
صوتٌ مليء بالنشوة.
تجمّع الناس الذين كانوا يهمسون حول نقطة واحدة. كان مشهداً مضحكاً للغاية. تبادل سيرتين و إليزابيث نظرة خاطفة و تحية بالإيماء.
خرج دوق سبيلمان من بين الحشود وهو يحمل زجاجة.
“عُثر على هذا في مكتب صاحب السمو، ولي العهد. هل يمكنني التحقق مما تحتويه الزجاجة، كما تم الاتفاق عليه؟”
تنهد دوق سبيلمان بصوت منخفض. ثم حدّق بي و بالجدة الكبرى إليزابيث بعينين مصدومتين.
لكنه لم يكن يبدو راغباً بإنهاء المسرحية الآن، فواصل حديثه.
“تأكدوا بسرعة. تحققوا مما إذا كان ما بداخل الزجاجة هو نفس السم الذي تسمّم به الماركيز كيلرمان، أم لا.”
خرج طبيب من بين الحضور و تفقد المسحوق الموجود في الزجاجة.
كان أحد أطباء القصر. بسط أدواته على الأرض وبدأ العمل، ثم أطلق صرخة حادة.
“ن-نعم! إنه نفس السم! تفاعل مع دم ماركيز كيلرمان!”
تبع ذلك صمتٌ عميق. الجميع نظر إلى سيرتين بعيون غريبة وغير مألوفة.
تبادلت نظرات مع سيرتين فرفع شفتيه بابتسامة. كان من الطبيعي أن يكون سماً.
في البداية، كنت أنوي ملء الزجاجة بالسكر لمجرد إيقاع دوق سبيلمان.
لكن عندما أدركنا أنه كان فخاً للإيقاع بي و بسيرتين معاً، أدركنا أن الحيلة السطحية لن تنجح. أردنا أن نرد له الصاع صاعين.
طالما أنني سأُكشف، فليكن بالطريقة التي أريدها، على المسرح الذي صنعته بنفسي، و بالدور الذي اخترته بنفسي.
“صاحب السمو ولي العهد، أعتقد أن الأمر يتطلب شرحاً وافياً. أنتَ متهم بالتورط في مقتل الماركيز كيلرمان…”
“لحظة من فضلك.”
قلت ذلك بصوت واضح ، لا كطفلة تتظاهر.
فتوجهت إليّ الأنظار. وبدأت الدهشة تتسلل إلى أعينهم.
طَق طَق.
“أنا أعرف بشأن تلك الزجاجة.”
لقد صدم الجميع.
اليوم أخطط لإظهار أفضل أداء لدي.
“أنتِ…….”
الآن أصبحت الشخصية الرئيسية. ابتسمت على نطاق واسع عندما شاهدت تعابير وجه دوق سبيلمان تتجمد.
التعليقات لهذا الفصل "95"