كان مورتيغا يحدق بعربة الخيول بوجه متوتر. العربة التي نُقش عليها شعار ولي العهد كانت تقترب تدريجياً.
كان يشعر و كأن دقات قلبه تنبض في أذنيه.
“هاه. لقد رأيت هذا الوجه طوال حياتي. و رافقت عودته من ساحة المعركة عدة مرات، لكني لا أظن أنني شعرت بهذا التوتر من قبل.”
وكان الأمر نفسه بالنسبة لفيرونيكا. أومأ مورتيغا برأسه بحماسة على كلماتها.
كان الوقت في نهاية الصيف. زهور السهام الذهبية التي غطت حديقة الإمبراطور قد ذبلت، وأوراق خضراء زاهية بدأت بالبروز من جديد. كان الوقت الذي تستعد فيه الأشجار لاستقبال الخريف وتنضج فيه الثمار.
كان الأمر كما لو أنهما عادا إلى أيام الطفولة.
ذلك التوتر الذي يشبه انتظار الوالدين مع نتائج الامتحانات عاد بالكامل.
“…أعتقد أن توبيخ الوالدين كان أهون على الأقل.”
خلال تلك الفترة التي خططا فيها لبعض الأمور، أصبح الاثنان أكثر قربًا قليلًا.
كما خفّت حدة حذر مورتيغا تجاه فيرونيكا. بعد انتهاء محاكمة دوق سبيلمان، ساعدت فيرونيكا مورتيغا في لقاء موظفي وزارة العدل.
وبالرغم من أن مكانتها كان فقط أميرة بالاسم، إلا أنه لم يكن هناك باب يُغلق في وجهها. يمكن القول إن الانتصار الذي تحقق كان ثمرة تعاونهما المشترك.
“أشعر أن قلبي سيخرج من صدري. هوو، هوو.”
ابتسمت فيرونيكا بخفة. قبضت يدها ببطء.
وأخيرًا توقفت العربة.
نزل سيرتين، ثم نزلت إفلين من بعده. وبما أن وجهها كان يبتسم بارتياح، يبدو أن الرحلة لم تكن سيئة.
أما وجه سيرتين فكان غامضًا. مما يعني أنه لم يمكن قراءة مشاعره إطلاقًا.
تقدمت فيرونيكا خطوة إلى الأمام.
“لابد أنكَ تعبتَ كثيرًا. هل كانت الرحلة جيدة؟”
“…لم يكن هناك حاجة للخروج لاستقبالنا.”
“مرحبًا، فير! مضى وقت طويل!”
تخطّت إفلين سيرتين الذي كان على وشك إطلاق كلمات باردة، و قفزت فجأة. شعرها الزهري المميز كان يتمايل مع نسمات الصيف.
رمشت فيرونيكا بعينيها. الجو الذي كاد أن يصبح باردًا تغيّر فجأة بفضل إفلين.
“هل كنتِ بخير طوال هذا الوقت؟ فير، اشتقت إليكِ كثيرًا!”
نبرة صوتها العالية المليئة بالبهجة جعلت قلبها يهدأ فجأة.
“…وأنا أيضًا اشتقت إليكِ، إفلين. هل عدتِ بصحة جيدة؟ لم يحدث شيء سيء؟ لم يضايقكِ أحد؟”
تدفقت الكلمات من فيرونيكا دون أن تدرك.
“هممم، لا! استمتعت كثيرًا! وأكلت أشياء لذيذة بكميات هائلة! المرة القادمة، تعالي لنذهب معًا، فير!”
شبكت إيفلين ذراعها بذراع فيرونيكا وبدأت تقفز بسعادة.
“…هل حقًا لم يتنمر أحد على إيفلين؟”
كان سؤال فيرونيكا موجهًا إلى سيرتين.
هز سيرتين كتفيه. ربما بسبب تدخل إيفلين، تغير تعبيره أيضًا و أصبح أكثر لطفًا.
تبدد التوتر. حتى مورتيغا اقترب مترددًا وشارك في الحديث.
“هممم. أنا سعيد حقًا لرؤية سموكما بخير.”
“سمعت أن أمورًا ممتعة حدثت في العاصمة خلال غيابي.”
بدأ سيرتين الحديث بصوت منخفض. عندها لمع بريق في عيني فيرونيكا و مورتيغا.
تراجع سيرتين قليلًا. اقترب الاثنان منه وكأنهما كلاب فرحة برؤية صاحبها. كان من الممكن تخيل ذيول تهتز خلفهما.
“نعم! سمو ولي العهد، أنا و سمو الأميرة فيرونيكا حققنا إنجازًا عظيمًا! لن ترى أفعال أوغستين الوقحة مجددًا!”
“كان يجب أن ترى كم كنت بارعة في التفاوض مع دوق سبيلمان! عندما تخلى عن محاكمة ابنه بدلًا من طلب الأدلة… كم كان ذلك إحساسًا رائعًا… وكان الأمر أسهل كثيرًا بفضل مساعدة مورتيغا!”
“لا، سمو ولي العهد! بدون مساعدة سمو الأميرة، لم أكن لأتمكن من إقناع وزير العدل! كان يجب أن ترى بنفسكَ كيف أمسكت سمو الأميرة بنقطة ضعفه!”
تحدث الاثنان بحماس، وكأنهما طفلان يتسابقان في التفاخر بإنجازاتهما.
ابتلع سيرتين ضحكة ساخرة.
“أحسنتما.”
أضاء وجه فيرونيكا على الفور.
“حقًا؟ فعلتُ شيئًا جيدًا، أليس كذلك؟”
“نعم. أحسنتِ، فيرونيكا.”
أومأت فيرونيكا برأسها الكبير و الدموع تملأ عينيها.
كان شعور الإنجاز بشيء قامت به بنفسها، إلى جانب مدح سيرتين، أمرًا لا يُقدّر بثمن. لم يعد هو نفسه الرجل الذي كان ينظر إليها سابقًا بازدراء.
مسحت دموعها و تراجعت خطوة إلى الوراء.
مجرد هذه الجملة البسيطة…
لكن بالنسبة إلى فيرونيكا، لم يكن هناك جملة أثمن منها في تلك اللحظة.
حتى مورتيغا، بوجهه المتعطش، توجّه إلى سيرتين.
“هل قمتُ بعمل جيد أنا أيضًا؟ بذلتُ أقصى جهدي، سموك!”
وضع سيرتين يده على جبهته.
“يا إلهي. نعم، أحسنتَ، السير مورتغا. هذا أكثر ما أعجبني مما فعلته هذا العام.”
“أحسنتِ، فير! أحسنتَ، مورتيغا! أنتما رائعان! الأفضل على الإطلاق!”
أكملت إيفلين المديح الناقص. ثم رفعت إبهاميها بكل حيوية.
انفجر مورتيغا بضحكة عريضة.
كان من المستحيل تمييز لمن كانت كلمات الترحيب في هذا اللقاء. وكان عليهم أن يبقوا عالقين في نفس المكان لفترة طويلة.
حدّق سيرتين بمورتيغا و فيرونيكا بتعبير غريب. لم يعلم متى أصبحا قريبين إلى هذا الحد. كان من الواضح أن نوعًا من الألفة المشتركة بدأ ينمو بينهما.
ولأول مرة، شعر بأنه قد عاد حقًا. كانت المرة الأولى التي شعر فيها بالفرح عند عودته إلى المنزل.
في المرة الأخيرة التي عاد فيها، اكتشف وجود عروس لم يتزوجها بنفسه حتى، و قبلها استغرق منه عبور أبواب القلعة أسبوعًا كاملًا.
لكن الآن، لم يكن هناك سوى ضحكات تتردد في الأرجاء.
كانت فيرونيكا تثرثر بحماس مع إيفلين. ووكان وجه شقيقته الذي كانت تتفاخر ببطولاتها مليئًا بالحيوية.
كما بدا أن مورتيغا أيضًا يتحرّق شوقًا ليتحدث. أن يعترف أحدهم بشخص ما و يقبلـه.
أن يتلقى المرء المساعدة من أحد.
مرّر سيرتين يده على شعره بكسل. كانت أشياء يتعلمها من إيفلين. الشك و الثقة. لا يزال سيرتين واقفًا بينهم ، لكنه بدأ يشعر أن بإمكانه… أن يثق بالآخرين أكثر قليلًا.
اتسعت ابتسامة مورتيغا عندما التقت عيناه بنظرة سيرتين الدافئة.
فهو يبدو سعيدًا هكذا.
ربما لم يكن العالم بهذا السوء كما ظنه سيرتين.
****
لم تكن كل الأمور مفرحة بعد العودة.
قبل أن تتبادل مع جوليا الأخبار و التحيات، زارها زائر غير مرحب به في جناحها.
كان دوق سبيلمان.
“أبي!
“مر وقت طويل، صاحبة السمو ولية العهد. يسعدني رؤيتكِ في صحة جيدة. لا بد أنك سمعتِ بما جرى لأوغستين، أليس كذلك؟”
“…لن أرى أوغستين مرة أخرى؟”
“هكذا هو الأمر.”
ابتسم دوق سبيلمان ببرود. لم يبدُ عليه الحزن على أوغستين، و كأن الحداد عليه قد انتهى بالفعل.
هل هذا فعلاً والد فقد ابنه؟
“أمرٌ مؤسف، أليس كذلك؟”
هل كان يتوقع أن تمر الأمور بهذه البساطة، بهذه العبارة فقط؟
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي.
كان الأمر نظيفًا كمن تخلص من غرض مستعمل.
“بما أن مراسم الجنازة قد انتهت، فلا داعي لأن تقلقي بشأنها.”
أخفيت يدي تحت الطاولة.
لو كنت أنا من مات، لكان تصرّف بنفس الطريقة.
بل ربما كان أسوأ حتى.
هل هو مريض نفسي؟ كيف يمكن لإنسان أن يكون هكذا؟
ابتلعت ريقي. شعرت و كأن العرق البارد التصق بأصابعي.
“حتى بدون أوغستين، لديّ ابنتي الجميلة، لذا لا بأس. لا تقلقي عليّ.”
“أوه. طالما أن والدي بخير ، فإيفلين بخير أيضًا!”
“وإذا لبت ابنتي الجميلة لي طلبًا صغيرًا، سأكون أفضل حالًا بكثير.”
نظرة باردة موجهة نحوي.
شعرت و كأن دلوا من الماء البارد صُبّ على ظهري.
مدّ دوق سبيلمان نحوي زجاجة صغيرة. كانت زجاجة شفافة تحتوي على مسحوق أبيض.
“جميلة، أليست كذلك؟”
شعرت بمعدتي تتقلب بسبب عبارته.
التعليقات لهذا الفصل "90"