كان الوقت متأخرًا جدًا ليزورني أحد.
في الحقيقة، لم أتوقع أن يأتي أحد لزيارتي في لاروس. ولكن يبدو أن رجال سيرتين قد فتحوا الطريق بسلاسة ، مما يدل على أن الأمر لا يشكل خطرًا عليّ.
من جاء لزيارتي كان الكونت تشينشيس.
“والد إينيس!”
ناديت ببراءة في تلك اللحظة.
سقط الكونت تشينشيس على الأرض و كأنه انهار فجأة. بدا كما لو أن أنفاسه المرتجفة تتناثر على الأرض، ما يعني أن تنفسه كان غير مستقر و سريع للغاية.
“صاحبة السمو!”
صرخ الكونت تشينشيس بصوت مفعم بالانفعال. ما الذي يحدث فجأة؟ جلست على الأريكة بارتباك. لم أتلقَ أي تنبيه من سيرتين.
قال الكونت تشينشيس برجاء.
“أرجوكِ، أرجوكِ اعتني بابنتي! فقط احمي حياة إينيس! إذا فعلتِ ذلك فقط، فإن تشينشيس في لاروس سيكرس حياته لصاحبة السمو مدى الحياة! سامحيني على وقاحة ابني و على جهلي! أرجوكِ سامحيي يا صاحبة السمو!”
ضرب الكونت تشينشيس جبينه بالأرض بقوة. مع أن السجادة كانت ناعمة ، إلا أن الصوت كان مسموعًا. ارتجفت وأنا أحدق في الكونت تشينشيس.
ما الذي حدث بحق السماء؟ كان الموقف مفاجئًا جدًا لدرجة أن عقلي تجمد. يريد مني أن أحمي إينيس؟
لا يعقل. هل تسببت إينيس في مشكلة ما؟ لكن حتى وإن حدث ذلك، لا يوجد مبرر يجعل الكونت يأتي إليّ بهذه الطريقة.
أنا متأكدة من أن الكونت لم يكن يعلم أنني في كامل وعيي.
ظل الكونت يكرر نفس الكلمات، يرجوني أن أحمي حياة إينيس.
إينيس ليست خادمتي، بل هي خادمة صاحبة السمو الجدة الكبرى إليزابيث.
عبست بحاجبي.
‘لا يعقل…’
حالما تبددت دهشتي، شعرت كما لو أن الضباب انقشع عن ذهني.
هل من الممكن أن تكون إينيس قد عرفت حقيقتي؟
لكنني لم أكن متأكدة. فقط نظرت إلى الكونت بصمت. كان يبكي الآن. كان يبدو كأب مستعد للتخلي عن كل شيء من أجل حماية حياة ابنته.
لم يكن لدي والدان مثله من قبل. ربما لهذا السبب، شعرت ببعض الغيرة من إينيس. في الحقيقة، كانت إينيس تعني لي أكثر من كونها مجرد قيد يمكنني استخدامه في لاروس. كنت أفكر في جعل لاروس نقطة انطلاق لتطوير صناعة الأسلحة التابعة لعائلة سبيلمان.
لذا، لم يكن من السيئ أن أُقيم علاقة مع تشينشيس. و لم يكن من السيئ أن أكون حذرة.
“إينيس صديقتي الجيدة.”
قلت ذلك بصوت طفولي. رمشت بعينَي ببراءة.
“إينيس لن تُصاب بأي أذى!”
فتح الكونت تشينشيس عينيه على مصراعيهما.
“جدتي تحب إينيس.”
هل كان هذا جوابًا كافيًا؟ لكن الكونت سأل بإصرار:
“… وهل تحبينها أنتِ يا صاحبة السمو؟”
وكأنه لن يهدأ حتى يسمع إجابتي.
“أمم، نعم، أنا أيضًا أحبها!”
عندها فقط ارتخى جسد الكونت تشينشيس. حدقت فيه و هو ينهار. قال بصوت مرتجف
“شكرًا، شكرًا جزيلًا يا صاحبة السمو. لن أنسى هذا الفضل أبدًا. أنا و عائلتي، و إينيس، لن نخون صاحبة السمو أبدًا.”
قال الكونت تشينشيس ذلك بصوت مبلل بالدموع. شعرت و كأن دموعه تتسرب إلى أطراف حذائي.
كان شعورًا غريبًا و غامضًا. أن يخافني أحدهم… و كأن قوة لم أكن أدرك أنني أملكها باتت الآن في يدي.
أن أمتلك القوة للتحكم في حياة شخص ما.
لم يكن ذلك شعورًا مفرحًا تمامًا. بل أدركت أن هذه القوة تأتي معها مسؤولية كبيرة.
كانت إينيس تشينشيس أول شخص يُشعرني بهذا النوع الجديد من المسؤولية.
تمامًا كما كان سيرتين يتغير، كنت أنا أيضًا أتغير في نواحٍ مختلفة. بإرادتي، وأحيانًا دونها.
****
عندما وصلنا إلى نقطة في الطريق المؤدي من لاروس إلى العاصمة، بعد ثلاثة أيام من مغادرتنا لاروس، كانت أفكاري لا تزال مشوشة.
“تحية لسيدي.”
انضمت إلى مجموعتنا فارسة بوجه شاحب كما لو أنها كانت مريضة لفترة طويلة.
لم يعد سيرتين يخفي أوراقه عني. اختبأت خلفه بوجه مصدوم.
“مر وقت طويل.”
“لقد أنهيت مهمتي وعدت.”
“يسرني أنكِ بخير. ألم يكن من الصعب التحمل بجانب أوغستين؟”
“بفضل اهتمامك، كنت بخير.”
“وصحتك؟”
“بعد أسبوع من الراحة سأكون بخير. شكرًا على قلقك.”
انحنت الفارسة برأسها.
“ستكونين الآن في خدمة صاحبة السمو. لذا سيكون من الجيد أن تستعيدي عافيتكِ بجانبها أيضًا.”
“سأطيع أوامرك. أتشرف بلقائكِ، صاحبة السمو. اسمي جوليا. من الآن فصاعدًا، سأكون في خدمتكِ.”
إنها فارسة تابعة لسيرتين. يبدو أنه يريد أن تبقى بجانبي. أومأت برأسي بارتباك.
“أمم…”
أشعر وكأن من حولي يتزايدون تدريجيًا. تذكرت فجأة ذلك القول: “من يرتدي التاج، عليه أن يتحمل وزنه.”
أصبحت أشعر تدريجيًا بحقيقة أنني الآن وليّة العهد. مثلما غيّرت مصير سيرتين، ها هو أيضًا يتدخل في مصيري.
****
انطلقت العربة مجددًا. قيل انه إن أردنا النوم في نزل لا في العراء، فعلينا أن نُسرع دون تباطؤ.
أثناء المرور بيوريس و لاروس، كانت تعابير سيرتين تتلاشى شيئًا فشيئًا. ابتسامته التي كانت لطيفة تجمدت لتصبح باردة، وعيناه اللتان كانتا تحتويان على نسيم البحر أصبحتا حادتين كالسيف.
لكن الدفء الذي يوجهه نحوي بقي كما هو. وحتى أنفاسه التي تتسلل إليّ كذلك.
“سيرتين.”
دسست رأسي في حضن سيرتين و أنا أتحرك قليلاً.
حاولت التملّص منه و هو يقبلني.
“ما زلتُ لم أسمع شرحك. تلك الفارسة…”
“هل كانت زوجة أوغستين؟”
“صحيح. كانت متخفية ثم عادت.”
كما توقعت.
رشّ سيرتين قُبُلات صغيرة على شفتيّ. وسرعان ما تغيرت الأجواء المحيطة بنا.
“أنت تقصد أنها ستخدمني من الآن فصاعدًا…”
“حسنا إن أردتِ، يمكنكِ إظهار نفسكِ أمامها. ففمها مغلق بإحكام و ولاؤها عميق.”
“آه.”
“انضمامها إلينا يعني أن العاصمة باتت قريبة. إيفلين.”
لمس سيرتين خديّ بعينيه الضبابيتين.
“سأفعل كل ما بوسعي لأحميكِ.”
ضغط شفتيه على شفتيّ. كان في تصرفه شيء من القلق.
آه. الآن فهمت سبب استعجاله. كان يخاف من مستقبل قد لا يستطيع فيه حمايتي.
لقد أصبحتُ ثمينة لديه بهذا القدر. أصبحتُ مصدر قلق سيرتين. و كلما تعمقت مشاعره ، ازداد ذلك العبء عليه.
يا رَجُـلي المسكين.
عانقت سيرتين بإحكام. شعرت أن الظل الذي طارده طوال حياته ما زال يحيط به. من أجل سيرتين، رغبت أن أصبح أقوى. كان ذلك ضروريًا.
****
وصلت إلى دوق سبيلمان أخبارٌ بأن سيرتين سيصل خلال يوم فقط. وكان ذلك بمثابة شرارة البداية. توقيت مناسب تمامًا.
تطلع دوق سبيلمان إلى كبير الخدم الذي دخل وهو يرتجف. كان خادمًا للإمبراطور، و بهذا فهو خادم له أيضًا. كان الشخص الذي مكّنه من الوصول إلى الإمبراطور حتى الآن.
“مر وقت طويل منذ آخر مرة التقينا فيها.”
“…نعم، صحيح.”
لم يستطع كبير الخدم النظر مباشرة إلى الدوق، فانحنى أكثر.
“أنتَ تشرف على كل ما يحدث في القصر الإمبراطوري. لا بد أن عملك شاق.”
“ليس كثيرًا، سيدي. شكرًا لاهتمامك.”
ابتسم دوق سبيلمان ابتسامة عميقة.
“دعوتكَ لأني أريد منكَ طلبًا صغيرًا.”
“تفضل.”
أخرج دوق سبيلمان الأدوية التي أُعدّت مسبقًا. بدا كأن السم يتصاعد من بين شفتيه.
صوته الذي كان يهمس، كان يلتف حول كبير الخدم ويخنق عنقه، وكأن أنفاسه انقطعت وغاب وعيه.
“هل فهمت؟”
“نعم، سيدي.”
لم يكن هناك خيار بالطبع. إذ لم يكن هناك طريق للعودة.
التعليقات لهذا الفصل "89"