بقيت إينيس في لاروس مع إليزابيث. تم ذلك بناءً على توصية الطبيب بالراحة. من وجهة نظر إينيس، كانت إصابة إليزابيث شيئًا يدعو للشكر.
“هل يمكنني أن أذهب لرؤية والدي قليلاً، سمو الأميرة؟”
حدقت إليزابيث في إينيس.
رغم التقدم في العمر، كانت عيناها لا تزالان صافيتين و واضحتين، و انعكست صورة إينيس فيهما. ارتجفت إينيس قليلاً ثم انحنت أكثر.
كانت إليزابيث إنسانة جيدة.
عادلة ولا تثير المشكلات بلا سبب. كما أنها كانت متسامحة حتى مع الأخطاء. وكان لها سمعة طيبة بين الخدم، و لم تكن لدى إينيس أي شكاوى طوال فترة خدمتها كوصيفة لها.
لكنها رأت وشعرت بنفسها كيف تعامل إليزابيث إيفلين وسيرتين ، ومدى رقتها. تلك النظرات المليئة بالحب، و النبرة اللطيفة.
أدركت من خلال إليزابيث مدى الفرق بين القائد العادل و البالغ الحنون.
كانت إليزابيث تراقب و تقيّم إينيس. لم تكن طيبة على الإطلاق.
ارتجف قلبها من تلك النظرة التي بدت كأنها تخترق أعماقها.
“…حسنًا. يمكنكِ فعل ذلك قبل الرحيل، إينيس.”
رغم أن صوتها بدا لطيفًا، لم تستطع إينيس أن تسترخي. حاولت أن تبتسم.
“نعم، سمو الأميرة. أسمعك.”
“حين أحضرتكِ إلى جانبي، كان طلبي الوحيد ألا تبوحي بما ترين أو تسمعين أو تشعرين به لأي أحد. حتى لو كان من عائلتك. هل لا تزالين تتذكرين هذا؟”
“نقشته في عظامي، سمو الأميرة. لن أنساه أبدًا.”
قالت إينيس بأجمل صوت ممكن. كان شبيهًا بالصوت الذي كانت تستخدمه عندما تدلل جدتها في صغرها.
“…حسنًا. لا تنسي أبدًا أن العيون المراقبة في كل مكان، فهمتِ؟”
“نعم، سمو الأميرة. أنا أعدك.”
وبعد ذلك الوعد، استطاعت أخيرًا أن تبتعد عن إليزابيث. أسرعت إينيس في خطواتها. شعرت وكأن نظرات تلك العجوز لا تزال تلاحقها. رغم أن نسيم لاروس الدافئ كان يدفئ جسدها، شعرت بالقشعريرة و البرودة.
أرادت أن تبوح بكل الأسرار و تتحرر و ترتاح. لم يكن من شأنها اتخاذ القرار، بل والدها. فقد كان والدها حاميها و سيد تشينشيس.
بللت إينيس شفتيها الجافتين بلسانها. لم تكن يومًا في موضع اتخاذ القرار.
وعندما اقتربت من وجهتها، بدأت تركض على قدميها. لم تستطع التخلص من الخوف، و كأن إليزابيث كانت تلاحقها. لأول مرة شعرت بالكآبة في لاروس.
“يا إينيس! لماذا تتصببين عرقًا هكذا؟”
استقبلها الكونت تشينشيس بوجه مندهش. كان أيضًا يعاني خلال الأسابيع القليلة الماضية. فقد خسر خمسة أرطال من وزنه في أسابيع قليلة فقط.
بعد مغادرة إيفلين و سيرتين، جاء وكلاء سبيلمان القانونيون عدة مرات.
حاصروا كونت تشينشيس و هددوه بالشكاوى القانونية. بعد وفاة نجل دوق سبيلمان، بدا أنهم يريدون تحميل شخص ما المسؤولية. وقرروا أن يكون ذلك الشخص هو الكونت تشينشيس.
“هل تظن أن السماء ستظل كما هي إلى الأبد؟ دوق سبيلمان لا ينسى أبدًا الضغائن. لا تندم لاحقًا.”
نظرة لوكاس الحادة مثل النصل انغرست في قلبه ولم تخرج.
لكن كانت حياة ابنته و ابنه بين يدي سيرتين. كان عليه أن يتحمل هذا الضغط وحده.
و كان الكونت يعلم أن سيرتين لن يحميه. فكل ما حدث كان نتيجة لما فعله ابنه.
وسط كل هذا الاضطراب، انفجرت إينيس بالبكاء.
أبعد الكونت الخدم بسرعة.
“إينيس. ماذا حدث؟ لماذا تبكين هكذا؟”
شعر وكأن صدره ينهار.
“آه، أبي… لا أعلم حقًا ما الذي علي فعله…”
انهمرت الدموع على وجهها المتورد. نظرت إينيس بخوف إلى الباب ثم دفنت رأسها في صدر والدها و تمتمت
“آه… ولية العهد… يبدو أنها استعادت عقلها…”
“…ماذا؟”
شحب وجه الكونت تشينشيس من كلام إينيس. لم يكن أمرًا توقعه أبدًا. أمسك الكونت بكتفي ابنته التي كانت تبكي في حضنه. و أبعدها قليلًا لينظر في عينيها.
“إينيس. تكلمي بوضوح. ما الذي حدث بحق السماء؟”
“أنا أيضًا لا أعرف التفاصيل. فقط يبدو أنها استعادت عقلها… ولي العهد لا يفكر في الابتعاد عنها. وحتى الأميرة إليزابيث تدور في حولها…”
بدأت إينيس تتلعثم وهي تسرد ما رأته وسمعته. وما إن سمع الكونت تشينشيس ذلك حتى شحب وجهه. شعر كما لو أن الدم يتجمع تحت قدميه في شعور مروّع. تدلت يد الكونت تشينشيس بلا قوة.
كان من الأفضل لو لم يعرف الحقيقة. لا يعلم منذ متى استعادت وعيها… اتجهت نظرات الكونت تشينشيس إلى خلف ابنته.
كان و كأنه يرى طوقًا ملتفًا حول عنق إينيس، طوقًا يمكن أن يشدّ في أي لحظة إذا أرادوا من هناك، و يهديها إلى الموت.
كانت إينيس تسير حاليًا فوق سيف ذي حدّين، على نحو خطير. اهتزت نظرات الكونت تشينشيس نحو ابنته التي كانت تذرف الدموع بغزارة، بلا حول ولا قوة.
إيفلين استعادت وعيها.
ولي العهد سيرتين يبدو أنه يقدّر زوجته كثيرًا. بل وربما، أكثر مما يتصور الكونت تشينشيس.
كان الأمر و كأن مؤامرة ضخمة تغطيه كستار.
أمسكت إينيس بكمّ الكونت تشينشيس.
“ماذا نفعل يا أبي؟ ماذا لو أخبرنا دوق سبيلمان بالحقيقة و طلبنا حمايته…”
“لا تتفوهي بحماقات!”
قاطعها الكونت تشينشيس بحدة. سيرتين لن يحميهم.
لكن سبيلمان؟ لا يوجد خيار أسوأ منه.
دوق سبيلمان سيقتلهم. و إن حصل على كل ما يريد، فسيدفعهم إلى مقدمة الحرب. بدا وكأن رأس ابنته الصغيرة سيتطاير أمام عينيه.
“لا تفكري أبدًا في أمر كهذا، إينيس.”
“لكن، أبي…!”
“افعلي ما يُطلب منكِ فقط. ابقي إلى جانب سموّ الأميرة و احتفظي بأنفاسكِ هادئة. لو بقيتِ صامتة، سترين طريقكِ في النهاية. لا تتصرفي بتهور أبدًا. وانسي كل ما قلتِه في هذه الغرفة.”
تنفست إينيس عبر أنفها.
كان والدها الذي يهدئها يبدو مخيفًا على نحو غريب. لا، بدا وكأنه هو من يشعر بالخوف من شيء ما.
“أنتِ لا تعرفين شيئًا. حتى إذا سمعتِ، فأنتِ لم تسمعي. وحتى إذا علمتِ، فأنتِ لا تعلمين. فهمتِ؟”
ارتعشت إينيس. كانت تردد التحذير الذي قالته لها الأميرة إليزابيث تمامًا. أومأت برأسها بخفة.
“يجب أن تحفظي ذلك جيدًا!”
“ن-نعم، أبي…”
“جيد، إذًا…”
زفر الكونت تشينشيس تنهيدة طويلة. كان قلبه يخفق بجنون. ربما كانت إيفلين هي من تحمل المفتاح لكل هذا.
“لست أنا من ينبغي أن يتلقى الاعتذار، أليس كذلك؟”
ربما، فقط ربما، قدّم له سيرتين تلميحًا كافيًا. تلميحًا للنجاة.
أغمض الكونت تشينشيس عينيه الشاحبتين بقوة، ثم فتحهما. بدا له العالم أسودًا.
****
غادر الظل الذي كان مختبئًا أمام مكتب الكونت تشينشيس بهدوء. كما لو أنه سمع كل ما يحتاج سماعه. ثم تسلل ذلك الظل إلى المبنى الجانبي حيث يقيم سيرتين.
ارتسمت على وجه سيرتين ابتسامة ناعمة بعدما سمع كل ما همس به الظل.
“لحسن الحظ، الكونت تشينشيس ليس غبيًا تمامًا.”
و بفضل هذا، نجا الكونت تشينشيس وابنته الصغيرة لبعض الوقت الإضافي. كان هذا أمرًا يبعث على السرور بالنسبة إلى سيرتين أيضًا.
لذا استدعى مساعده.
“راقب مسار الكونت تشينشيس. تأكد من أن سبيلمان لن يتمكن من الضغط عليه أكثر.”
و بما أنه شعر بالسعادة، فلا بأس ببعض الرحمة و المساعدة . لقد اتخذ سيرتين قرارًا يصب في مصلحة شخص ما. لقد كان قرارًا من شأنه أن يجعل ذلك الشخص سعيدًا إذا علم به.
التعليقات لهذا الفصل "88"