في مأدبة العشاء الأخيرة في يوريس، تمت دعوة جميع أفراد عائلة كورتيس. كانت أول مرة ألتقي فيها بأقارب الجدة الكبرى إليزابيث.
لا زلت أشعر بخيبة أمل لأنني لم أستطع التصرف إلا كطفلة.
“لو كنتِ بعقلك فقط… إنه لأمر مؤسف، أمي.”
“ألا يمكنكَ كبح لسانك؟”
أشارت الجدة الكبرى بحدة. كان هو رئيس شركة كورتيس التجارية.
“على أي حال، إنها لا تفهم شيئًا…”
“روستوس.”
عندما تحدثت الجدة الكبرى بحدة، أغلق رئيس القافلة التجارية فمه بإحكام. ومن خلال وجهه المبتسم على نحو محرج، أدركت كيف ينظرون إلي.
حسنًا، ماذا عساي أفعل؟
رغم أنني شعرت بقلق الجدة الكبرى عليّ، إلا أن هذا كان خياري.
نعم، لأنه خياري، فأنا أتحمله.
ومع ذلك، شعرت أن أيامي في يوريس كانت وكأنها حلم. لقد كانت مكانًا تعلمت فيه الكثير، وحصلت فيه على الكثير.
مكان لا أعلم متى سأعود إليه.
أعتقد أنني سأشتاق إليه كثيرًا.
****
تم تحميل النبيذ الذي أهدانا إياه ولي عهد يوريس بكميات كبيرة على السفينة. كما تم تحميل صناديق من النبيذ المعطر برائحة البرتقال.
ودعنا بابتسامة أكثر إشراقًا من تلك التي استقبلنا بها.
“يؤسفني أن هذا كل ما يمكنني تقديمه كهدية.”
“إنه كافٍ.”
تبادل سيرتين و ولي العهد المصافحة. وبينما كانا يتحادثان، تبادلت أنا و ولية العهد التحية أيضًا.
عانقتني ولية العهد بقوة و تحدثت بصوت مرتجف.
“كنت سعيدة لأنني شعرت أنني حصلت على صديقة جيدة.”
كانت من الأشخاص القلائل الذين نظروا إليّ دون تحامل في يوريس. وفي الوقت نفسه، كانت تذكرني بِجوليا.
“أتمنى أن تعيشي حياة سعيدة حيثما تذهبين، سموّ الأميرة.”
“هم! شكرًا. سأعيش حياة سعيدة جدًا جدًا!”
بادلتها العناق و ربتُّ على ظهرها.
“هل هذا بمثابة بركة منكِ لي؟”
“بالطبع. نحن صديقتان!”
ضحكت ولية العهد ببهجة.
ثم، بعد أن ترددت قليلًا، وقفت على أطراف أصابعها و قبّلت جبيني. ثم قبّلت ظاهر يدي.
“ليباركك حاكم الشفاء، و لترافقكِ النعمة التي منحني إياها. أتمنى حقًا أن تستعيدي عافيتكِ ، سموّ الأميرة.”
ضحكت ولية العهد بوجهٍ يوشك على البكاء. إنها حقًا نقية مثل نسيم البحر في يوريس.
“شكرًا لك.”
كانت كلماتي نابعة من القلب.
بعد وداعنا لولي العهد و زوجته، أبحرت السفينة بعد وقت قصير.
بدأت يوريس تبتعد ببطء خلف السفينة التي تمخر عباب البحر المتماوج.
بقيت متكئة على الدرابزين حتى اختفى الناس تمامًا كالنقاط الصغيرة.
كان سيرتين واقفًا بصمت إلى جانبي.
“…هل سيكون هناك يوم يمكننا فيه العودة؟”
“إن كنتِ تتمنين ذلك.”
نقر سيرتين لسانه بأسف.
“في المستقبل القريب، لا بد أن نعود.”
كم سيكون رائعًا لو تحقق كلام سيرتين.
القدوم إلى الغرب لم يكن قرارًا سهلًا.
وضع سيرتين الحالي لم يكن مبشرًا جدًا. كانت الأفاعي التي تستعد للانقضاض في أي لحظة تعجّ من حوله.
لقد كانت رحلة واستراحة ممكنة فقط لأن طلب الجدة الكبرى إليزابيث و تقاطعات المصالح المختلفة اجتمعت معًا.
أتمنى أن تؤثر هذه الرحلة بشكل كبير على حياته و خياراته.
“.. ولية العهد حقًا شخص رائع . بشكل مدهش. كانت تشبه نسيم البحر في يوريس. كان بإمكاننا أن نصبح صديقتين.”
عبث سيرتين بشعري.
تقلصت عيناي من أثر لمسته الهادئة.
تحطّمت يوريس كما لو كانت حلمًا، تمامًا كما تحطمت الأمواج البيضاء.
جذبني سيرتين إلى حضنه.
“إنهم أناس طيبون.”
قالها سيرتين بصوت خافت.
“لقد ذكّرونا أيضًا إلى أي درجة كان سبيلمان يستخف بالعائلة الإمبراطورية طوال تلك الفترة.”
أضاف بجملة باردة
“من العار أن نرفع رؤوسنا.”
وضعت يدي على ظاهر يده. و ألصقت ظهري في صدره القوي.
شعرت بالدفء يتسرب فهدأت نفسي.
كنت على دراية بما تعرضت له يوريس من ظلم طوال تلك الفترة.
كان ذلك تصرفًا وضيعًا يليق بدوق سبيلمان. أن يخلط الحجارة بالحبوب لتزيد الوزن!
كنت قد سمعت عن ذلك أثناء دراستي للتاريخ في كوريا.
لكن أن أعيش في عالم يحدث فيه ذلك بالفعل؟
وأن أكون جزءًا من الطبقة الحاكمة التي ترتكب مثل هذه الفظائع؟
يبدو أن الأشرار يستخدمون نفس الأساليب أينما ذهبنا.
“لم يفت الأوان بعد.”
“لقد فات. لا يمكن تعويض أرواح من ماتوا جوعًا.”
كان سيرتين شخصًا يعرف قيمة الحياة.
مررت أصابعي فوق يده.
“لو لم يدرك سيرتين الأمر، لكان دوق سبيلمان استمر في فعل نفس الشيء. وكان المزيد من الناس سيموتون جوعًا.”
شعرت بالألم.
كان سيرتين يخفي نفسه خلف قناع من البرود، لكنه كان أكثر إنسانية من أي شخص آخر.
لا أستطيع حتى تخيل مدى الألم الذي تحمله ليصل إلى حافة الانهيار.
على الأقل ، طالما أنا موجودة ، لا أريد له أن يسير في ذلك الطريق.
“لا تحزن كثيرًا. فكر في ما يمكنكَ فعله من الآن فصاعدًا.”
هل ستكون كلماتي عزاءً لسيرتين؟
إنه شخص يتحمل مسؤولية تفوق أي فرد من العائلة الإمبراطورية في ليكسيا.
تنهد سيرتين تنهيدة خفيفة.
“يكفي أن لا ننسى.”
قبّل سيرتين رأسي.
كانت تلك القبلة تحمل كل الأجوبة.
انتهت كل الأيام التي قضيناها في يوريس.
وتركت خلفها أفكارًا كثيرة.
****
في ذلك الوقت، في ليكسيا.
كان جيمس يختبئ بوجه متوتر. منذ وفاة أوغستين سبيلمان، كان يترقب بتحفز كل تحركات الدوق. لم يكن شخصًا يمكن أن يُؤخذ على حين غرة.
لذا نشر جيمس جميع أتباعه الممكنين حول الدوق سبيلمان.
“عليّ أن أحقق إنجازًا ما.”
لم ينسَ جيمس وضعه. حياته لم تكن تختلف عن حياة شخص محكوم عليه بالإعدام.
لقد نجا بفضل رحمة ولي العهد. لكن إن لم يثبت فائدته، فسيُقتل.
عضّ على أسنانه بشدة. لن يدع حتى نملة تمر دون أن يلاحظها.
رأى جيمس، الذي كانت عيناه تلمعان، عربة سوداء للأجرة. لم يكن عليها أي نقش، و كانت من العربات الشائعة في العاصمة.
بمعنى آخر، لم تكن عربة تناسب الدخول و تلخروج من منزل دوق سبيلمان، بل كانت عربة رديئة.
“هذه هي!”
توقفت العربة أمام الباب الذي يدخل منه الخدم بحذر. نزل منها رجل مسن بملابس مهترئة، و كان يضع قبعة سوداء تغطي وجهه.
شعره الرمادي لمع تحت ضوء القمر. ثم اختفى خادم من خدم سبيلمان برفقته إلى الداخل.
وفي اللحظة التي همّ فيها سائق العربة بالمغادرة،
أشار جيمس، فأوقف أتباعه العربة.
“م… من أنتم؟!”
“شش!”
جرّ الأتباع الرجل المرتجف إلى الغابة، وأزالوا العربة من الطريق بحرفية. أما البقية فظلوا يراقبون القصر.
“راقبوه حتى النهاية. إن خرج شيء من القصر، ولو كان جثة، اجلبوه.”
غادر جيمس و معه سائق العربة وهو لا يزال متوتر الوجه. بعد أن قاده إلى مقر حصل عليه بالقرب من هناك، مسح جيمس عرقه.
الرجل، المكمم و المقيد، كان ينظر إليه بعينين مذعورتين. انتزع جيمس اللجام من فمه.
“أ… أرجوك، أنقذني! أرجوك فقط لا تقتلني!”
“…يبدو أنكَ ارتكبت أمرًا يستحق الموت، أليس كذلك؟”
هزّ الرجل رأسه بعنف عند هذه الكلمات.
“قل ما تعرفه عن العجوز الذي دخل قصر الدوق سبيلمان قبل قليل. سأقرر بعد أن أسمع.”
نظر إليه السائق المرتعش بعينين مرتجفتين.
“…لا أعرفه جيدًا. أ… أنا فقط أوصلته في الوقت المتفق عليه!”
“من أين ؟”
“…من الساحة.”
“قل كل ما تتذكره. هل تعتقد أنك َ ستنجو بقولكَ هذا فقط؟”
قال جيمس بقسوة و هو يخرج خنجرًا من خصره.
عندما رأى السائق نصل الخنجر الحاد، صرخ فزعًا. دارت عيناه بسرعة، وبدأ جسمه يبتلّ من العرق. ثم صرخ فجأة بصوت حاد
“…الرائحة!!! كانت هناك رائحة دواء خفيفة!!! ابني مدمن أفيون، لذا أعرفها! كانت تلك بالتأكيد رائحة متعاطي المخدرات!”
التعليقات لهذا الفصل "86"