لم يمضِ على مجيئي إلى هذا المكان سوى عشرة أيام فقط. وهذا يعني أن لقائي بجدتي إليزابيث لم يتعدَ هذه المدة أيضًا.
لكنني أحببت الجدة أكثر من أي بالغ آخر التقيت به منذ تجسّدي في هذا العالم.
بالطبع، لم ألتقِ بأي بالغ حقيقي غيرها حتى الآن.
مجرد الاستماع إلى حديث الباحث الذي استدعته جدتي كان كفيلاً بتحسين مزاجي. رغم أنني كنت مضطرة لتغطية وجهي بالحجاب.
بعد مغادرة الباحـث، كنت أستمتع بوقت الحديث المنفرد مع جدتي، فهي امرأة ذات علم واسع ورؤية ثاقبة، و كان ذلك الوقت ممتعًا للغاية.
“جدتي، تقصدين أن صناعة الدفاع في سبيلمان ستنهار قريبًا إن استمر الوضع كما هو، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
“إذًا ستتضرر القوة الدفاعية للإمبراطورية أيضًا.”
فأسلحة الإمبراطورية و البارود جميعها تعتمد على صناعات الدفاع في سبيلمان. بالطبع، لم يكن هذا اسمها الأصلي، لكن بعد أن استولى الدوق على الشركة، غيّر اسمها أيضًا.
“نعم. هيكل الإدارة المغلق هو سبب المشكلة.”
كانت سبيلمان و الإمبراطورية تعتمد على تفوقها التقني و تتبع سياسة الانغلاق. فكانوا يحتكرون صناعة الأسلحة و البارود و يديرونها بأنفسهم. لم يسمحوا بتصدير المهارات التقنية و لا باستورادها.
وفوق ذلك، استمروا بهذا النظام الاحتكاري لعدة سنوات. والماء الراكد يتعفن لا محالة. لذا كان من المحتم أن يتم القضاء عليه يوما ما.
رغم أن هذا العمل كان يدرّ دخلًا ثابتًا، فإن تقييم السوق له كان أنه يفقد مستقبله تدريجيًا.
“تقنيات صناعة الدفاع في سبيلمان قد تأخرت بالفعل بنحو خمس سنوات.”
“قد لا يظهر ذلك الآن، لكنه سيصبح أكثر وضوحًا لاحقًا.”
أومأت برأسي بهدوء.
في الرواية الأصلية، بعد أن يُقتل دوق سبيلمان و دوق روجر على يد سيرتين، ترث إيفلين أعمال صناعة الدفاع . لكنها لم تكن تعرف أي شيء عنها، فتم استخدام وكيل عنها، و فـي النهاية تمزقت الأعمال إلى أشلاء.
ذلك الصرح الصناعي الضخم انهار تمامًا.
وفي النهاية، تضعف القوة الدفاعية، و تحدث حروب.
بعد ذلك يتم توقيع اتفاقية سلام و إعلان نهاية الحرب، و ذلك بعد أن يستيقظ رودريك روجر كبطل الرواية و يصبح بطلاً للحرب… هممم، رودريك الآن في السادسة من عمره، إذًا لا يزال هناك عشرون سنة.
ربّتُّ على خدي بلطف.
هل يمكنني أن أُوقف تلك الحرب أيضًا؟
إن واصلت ليكسيا الحفاظ على مكانتها كقوة الإمبراطورية العظمى و استعرضت قوتها الدفاعية القوية، فربما لن يجرؤ أحد على الطمع بها من الأساس.
“… يبدو أن المنصب الذي أتحمله أكثر مسؤولية مما توقعت.”
ابتسمت جدتي الكبرى بلطف.
لم يكن الأمر بسيطًا كأنْ أستعيد ما هو لي فحسب. لهذا السبب، لا يتوقف الناس عن التعلم حتى لحظة موتهم.
كم كنت لأكون محظوظة لو أنني تجسدت كغيري و أنا أحمل ملعقة من الماس في فمي، و أعيش حياة مريحة بينما يتم الإعتناء بي من طرف أفراد عائلتي.
تنهدت بعمق.
“… سأبذل جهدي. سأعمل بجدّ، حقًا.”
فقد ظهر أشخاص يرغبون بمساعدتي، وظهرت أشياء أرغب بحمايتها. بل إن هناك أشياء يجب أن أحميها من أجل حياتي.
“وأنتِ أيضًا، جدتي، عليكِ أن تبقي بجانبي و بجانب سيرتين لفترة طويلة جدًا.”
انفجرت جدتي ضاحكة. التجاعيد التي ظهرت كأثر للزمن ارتسمت برقة على وجهها.
حتى ضحكتها كانت نبيلة. أدركت حينها لماذا لا تزال تُحترم من طبقة النبلاء العليا في هذا المكان.
“أنتِ تجيدين قول الكلمات اللطيفة. حتى أولادي لا يقولون مثلها.”
خدشت خدي بخجل.
“… إنها المرة الأولى. أشعر بسعادة كبيرة لوجود شخص يمكنني مناداته بـ’جدتي’. هل كان شعوري هذا ليشبه نفس شعور أن تكون لي جدة حية؟”
“يا لكِ من فتاة.”
ربّتت الجدة على خدي برفق، و كأنها تجدني لطيفة. كانت نظرتها تغمرها عاطفة هادئة.
من المؤسف أن وقتي في يوريس شارف على الانتهاء. آمل من كل قلبي أن تعود مثل هذه اللحظات مجددًا في المستقبل.
****
“هاه… هاه…!”
استندت إينيس إلى جدار الممر وهي تلهث بشدة.
حين شعرت ببرودة الجدار في راحة يدها، بدأت تستعيد وعيها. كان العرق البارد ينساب من ظهرها، وتوسعت حدقتا عينيها المرتعشتان.
“م… مستحيل.”
عضت إينيس شفتيها بقوة.
من لاروس إلى مملكة يوريس، كان عليها أن تعيش في غرفة مغلقة طوال أسبوعين تقريبًا.
ولأنها لم تكن قادرة على مغادرة الغرفة بسهولة، نادرًا ما صادفت زوجة ولي العهد الشهيرة.
ولم ترَ إيفلين بشكل مباشر إلا بعد وصولها إلى مملكة يوريس.
ظنّت أنها مجرد امرأة جميلة و غبية. لو كانت عاقلة فقط، لكانت قادرة على زعزعة أركان ليكسيا بجمالها.
كانت كـوردة رقيقة متفتحة في بداية الصيف. وجهها الصغير كان محاطًا بشعر وردي، و عيناها الرقيقتان كانتا كبيرتين و واضحتين.
كأنه تم منحها الجمال تعويضًا عن كل تعاسة تعانيها، فجمالها لم يكن قابلاً للجدال.
مؤسف.
لكن كان ذلك مجرد انطباع فحسب.
فإينيس، التي كانت ستصبح وصيفة للأميرة الملكية كتكفير عن جرائم الكونت الشاب تشينشيس، لم تظن أنها ستكون لها أي علاقة مع ولية العهد.
لكن، كان هناك أمر غريب.
ولية العهد كانت تقضي كل يوم تقريبًا مع الأميرة الملكية. ولم تكن الأميرة تنادي على إينيس إلا عندما تقرأ كتابًا قبل النوم.
من خلال مراقبة الأجواء ، بدا أن القصر يخضع لنظام صارم. عدد الخدم قليل، و الطابق الثاني الذي تقيم فيه العائلة المالكة لا يُسمح بالصعود إليه خارج الأوقات المقررة.
عادةً، في مثل هذه الحالات، لا بد من وجود سر.
وهذا السر غالبًا ما يكون مصدر قوة.
لذا، استغلت إينيس لحظة غياب أعين المراقبة لتتسلل إلى الطابق الثاني خلسة. كان ذلك وقت مغادرة الباحث الذي تم استدعائه من قبل الأميرة، فكان توقيتًا مناسبًا لتفادي الأنظار.
كان هناك صوت صغير و مشرق يأتي من داخل الغرفة.
“ستحدث مشكلة قريبًا.”
“يجب أن تبقي إلى جانبي لوقت طويل.”
كان ذلك بلا شك صوت ولية العهد، التي كانت تنادي إينيس بـ”أختي” كطفلة صغيرة.
‘كانت عاقلة!!’
كادت تصرخ، لكنها كتمت صوتها بصعوبة. نظرت إينيس حولها. ثم نزلت مسرعة إلى الطابق الأول واختبأت في مكان ناءٍ عن الأنظار.
كان قلبها يخفق بجنون.
“هل كانت عاقلة منذ البداية؟”
حاولت إينيس أن تسترجع ذاكرتها. لا يمكن أن يكون ذلك. كانت امرأة تتشبث فقط بكم زوجها بتعبير غبي على وجهها، حتى عندما كان الكونت الشاب تشينشيس يهينها.
“أنا خائفة… زوجي…”
كان وجهها، و هي تتمتم بشفتيها كطفلة صغيرة، على وشك أن يذرف الدموع.
عندما كانت بجانب ولي العهد الغاضب، بدت تلك الهيئة الطفولية أكثر وضوحًا. لا يمكن أن يكون ذلك كذبًا.
لا بد أنه كذلك.
ولكن إن لم يكن كذلك…
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها.
ماذا لو كانت قد كتمت كل الإهانات التي وُجهت إليها، كحيوان يخفي جسده متربصًا بالفرصة؟
عاد إلى ذهنها من جديد صورة عينيها المتلألئتين النقيتين بلون الزمرد . و تذكرت أيضًا لحظة التقاء أعينهما.
“هذا جنون…”
يا ترى، كم من السكاكين المسمومة التي تخفيها في أعماقها؟ بدأت كتفا إينيس الرقيقتان ترتجفان بقوة.
“لا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.”
كانت هناك فرضية ثانية. كانت تعرف أن إيفلين ظلت تزور معبد الشفاء باستمرار في الآونة الأخيرة.
مملكة يوريس كانت دومًا تؤمن بحاكم الشفاء. ولا تزال تؤمن بقوته.
ماذا لو كان حاكم يوريس هو من اعتنى بإيفلين؟ وماذا لو أنها أصبحت تتحسن تدريجيًا في هذا المكان بالفعل؟
كان هذا التفسير أكثر معقولية. ويبدو أقل خطورة بكثير.
‘أيًا كانت الحقيقة، فهذا سر خطير للغاية.’
ومما لا شك فيه أن هذا الأمر سيكون مصدر قوة لتشينشيس.
الآن، أصبح الأمر بيد والدها ليقرر كيف سيستخدم هذه المعلومة.
“النجاة هو الهدف، إينيس. لا تقومي بأفعال متهورة. لكن لا تنسي تشينشيس أيضًا. عليكِ ألا تفوتي أيّ فرصة.”
لا بد أنه كان يقصد أن تتزوج رجلاً من عائلة جيدة. لكن الفرص… تأتي بأشكال عديدة، كما هو الحال الآن.
التعليقات لهذا الفصل "85"