التقت إليزابيث بأبنائها بعد وقت طويل. طوال الفترة الماضية، كانت ترفض زياراتهم بحجة الإزعاج.
كان في ذلك بعض الاعتبار لإيفلين، لكن السبب الحقيقي كان أنها كانت منزعجة حقًا. ففي هذا العمر، قد يكون من المتعب الاستماع إلى تذمر الأبناء البالغين.
ومع ذلك، شعرت أنه يجب عليها أن ترى وجوههم قبل مغادرتها ليوريس، فخرجت بمفردها.
عندما انتشر خبر ظهور إليزابيث في المقر الرئيسي لقافلة كورتيس، توافد أبناؤها. وبنظراتهم البريئة، ذكّروها بأيام طفولتهم.
“أمي، هل سترحلين حقًا؟”
“مملكة يوريس مكان أفضل بكثير، أمي! إذا ذهبتِ إلى هناك، لن نعرف متى سنراكِ مجددًا!”
“حتى أن حفيدكِ سيولد قريبًا، حقًا…”
“كفى.”
سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، لم يتغيروا كثيرًا.
تنهدت إليزابيث بهدوء. لقد وزعت قافلة كورتيس كلها على أبنائها. ولحسن الحظ، لم تكن هناك مشاكل كبيرة في الميراث، و كانت علاقتهم جيدة.
من البداية، هي وزوجها ربّيا أبناءهم بحيث لا يطمعون أكثر من اللازم، ولا يتنافسون أو يتحدثون بالسوء عن بعضهم البعض. سينبلي أطفالها هؤلاء كل منهم بلاءً حسنًا بطريقته الخاصة.
لقد أنهت إليزابيث كل ما كان عليها فعله في يوريس. فكما وعدت زوجها الراحل، ربّت أبناءها جيدًا.
اعتقدت إليزابيث أن اليوم الذي نجت فيه من الوباء ورأت حلم إيفلين لأول مرة، كان بمثابة ولادة جديدة لها.
فقد تم منحها عمرًا إضافيًا، مقابل أن تقوم بمهمة.
“توقفوا عن التذمر. كم أعماركم الآن، وما زلتم تلاحقونني؟ و تسألون متى سنلتقي؟ لديكم عدة سفن تابعة لقافلة كورتيس. يمكنكم القدوم إلى ليكسيا في أي وقت. هل يجب أن أكون هنا كي تستطيعوا رؤيتي؟ لماذا لا تفكرون أنتم بالمجيء إليّ؟”
تمتمت إليزابيث بلسانها. فصمت أبناؤها بوجوه ممتعضة.
“مع ذلك…”
“هل تحبين ابن ابن أخيكِ إلى هذا الحد؟”
“تسك تسك. أي كلام سخيف هذا؟ قد تكون يوريس وطنكم، لكن ليكسيا هي وطني. أليس من الطبيعي أن أرغب في رؤية والديّ الراحلين قبل أن أموت؟”
سكت الأبناء أمام كلمات إليزابيث.
“ليكسيا أيضًا مكان يعيش فيه البشر. لذا يمكنكم المجيء.”
“هذا صحيح، ولكن… آه. أشعر وكأن ولي العهد قد سرق والدتنا.”
“توقف عن الغيرة من ابن أخيك الصغير بلا سبب.”
هزّت إليزابيث رأسها.
“…هل يحتاج ولي العهد إلى والدتي؟”
“لا بد أن يكون هناك شخص بالغ يقف بجانبه. حتى هو.”
بالطبع، كان لدى سيرتين حليف لطيف و عزيز للغاية إلى جانبه حاليًا.
“أتمنى ألا يكرهك أحد.”
قالت تلك الحليفة بعيون لامعة وشفاه مشدودة، بنبرة لطيفة لا يمكن مقاومتها. عندما فكرت إليزابيث في إيفلين، ارتسمت ابتسامة على شفتيها.
“هاه.”
“أمي؟”
لوّحت إليزابيث بيدها.
لقد كانت دائمًا تتأكد من أن إيفلين لا تضمر الشر لسيرتين. لا، في الواقع، إيفلين كانت تظهر ذلك باستمرار.
عاشت إليزابيث عمرًا يمكن اعتباره طويلًا أو قصيرًا، لكن لم تكن هناك طريقة لتخطئ بها في فهم نظرة إيفلين إلى سيرتين.
أعني، المودة التي تتألق بشكل ساطع. لقد احببت تلك الطفلة سيرتسن حقًا. فهي لا تدخر جهداً في وضع سيرتين، الذي كان محاطاً بالأشواك الحادة وأدار ظهره للعالم، على الطريق الصحيح أمام العالم.
ربما أصبح تعبير وجه سيرتين أكثر استرخاءً من ذي قبل بفضل إيفلين.
“لو كان في العالم أطفال مثلها فقط، كم سيكون ذلك رائعاً.”
“لا أفهم ما تعنينه.”
“لا داعي لأن تفهم. كم عدد المرات التي تذهب وتعود فيها قافلة كورتيس إلى ميناء لاروس؟”
” حوالي أربع مرات في السنة يشمل ذلك الذهاب و الإياب.”
“ماذا عن المواد التي تتدفق نحو العاصمة؟”
“ليست كثيرة. حالياً، ليكسيا تحت سيطرة كونت كارما. في الواقع، لم يكن لكِ أو لوالدي اهتمام كبير بليكسيا طوال هذه المدة.”
ضيّقت إليزابيث عينيها. إذا كانت ستقدم العون لسيرتين، فالأفضل أن يكون دعماً حقيقياً.
الكونت كارما يقف في صف سيرتين، لكنه من النوع الذي يمكن أن ينقلب في أي لحظة. الكونت كما تعرفه إليزابيث، انتهازي.
لو وُجدت قافلة تجارية ذات رأس مال كافٍ يمكنها أن تقف بثبات إلى جانب سيرتين، لكان ذلك أمراً جيداً.
“يجب علينا توسيع نشاطنا في ليكسيا. ضاعفوا حجم التبادل ثلاث مرات. وكذلك الكميات. اختاروا بضائع رخيصة و جيدة الجودة، وضعوا خطة هجومية واستراتيجية.”
“…لكننا سنحتاج إلى جذب مزيد من المستثمرين. أليست البنوك الكبيرة في ليكسيا كلها تحت قبضة دوق سبيلمان؟”
من منظور تجاري، كان من الطبيعي فهم حركة الأموال. حتى الموجودين في يوريس يعرفون من يسيطر على أموال الإمبراطورية.
قالت إليزابيث و كأن الأمر لا يُشكل مشكلة.
“الكونت بريزمان في لاروس عبّر عن رغبته القوية في الاستثمار. تواصلوا مع بنك بريزمان.”
“بنك بريزمان… إنه البنك الأكبر في لاروس، هذا صحيح.”
“إذاً، هذا أمر جيد.”
من أجل كورتيس، و من أجل سيرتين أيضًا.
وربما أيضاً من أجل إيفلين، التي تحمل على وجهها اللطيف الكثير من الأحلام.
إذا كبر بنك بريزمان وانتقل إلى العاصمة، فقد يفتح ذلك فرصاً أفضل.
ابتسمت إليزابيث ابتسامة خفيفة.
“على أي حال، من الأفضل أن تودعوا أبناء عمومتكم قبل الرحيل، أليس كذلك؟”
“أشكركِ لأنكِ أدركتِ ذلك أخيراً، أمي.”
نظرت إليزابيث بثبات إلى ابنها المتذمر.
“زوجة ولي العهد احتاجت وقتاً لتتأقلم. وكانت بحاجة إلى الراحة أيضاً.”
“آه، هذا…”
“عاملوها من دون تكلف. و ستعاملكم هي بالمثل كذلك. هممم، لا، ربما عدم الحديث معها أيضاً فكرة جيدة. فقط… نعم، لا تتحدثوا معها و لا تُشعروها بعدم الارتياح.”
ظهر الارتباك على وجوه الأبناء.
نظرت إليزابيث إليهم بنظرة مشككة. من الواضح أن زوجة ولي العهد في ليكسيا، التي لم تُعرف سوى من خلال الإشاعات، قد استحوذت على قلب إليزابيث تماماً.
****
في تلك اللحظة، في إمبراطورية ليكسيا.
كان دوق سبيلمان يحدّق بوجه جامد إلى جثة أوغستين. وجه الشاب النائم داخل التابوت المصنوع من خشب العرعر الفاخر. نظرته الباردة كأنما يرى غريباً.
“…لا أعلم كيف أتعامل مع هذا الحزن، سيدي الدوق.”
انحنى الفيكونت بنتلي برأسه وهو في هيئة مرهقة. توجهت نظرة الدوق إليه.
“أنا بخير. أليست ابنتكَ ستبقى إلى جانبي و تؤنس وحدتي؟ إذاً، هل وقّعت على العقد؟”
“…في الواقع، ليس بعد.”
ابتسم الفيكونت بنتلي ابتسامة ضعيفة تكاد تتهاوى.
“كنت منشغلاً بالتحضيرات لجنازة الدوق الشاب أوغستين، ولم أتمكن من التحقق من كل شيء بعد.”
“هل تحتاج إلى التحقق؟ هذا الأمر بيني و بينك. أتمنى أن تُنجز الأمر بسرعة. كما قلت، وحدتي تزداد، ومن يعلم ما قد أفعله إن لم أتحمّلها.”
ربّت الدوق على كتف بنتلي ثم استدار. لم يترك حتى زهرة واحدة لابنه.
كان الدوق يخطط لأن يهدي ابنه رقبة أحدهم بدلاً من زهرة.
تلألأت عيناه.
“لن أدعكَ تذهب وحدك.”
رغم كل شيء، كان ابنه.
“سأضع أحداً بجانبك، مهما كلّف الأمر.”
ما إن خرج تماماً من قاعة الصلاة، حتى بدأ بالبحث عن مساعده.
ثم أعطى تعليماته بصوت منخفض
“سلم الدواء المعدّ للإمبراطور.”
من الواضح أن سيرتين نسي أن حياة الإمبراطور التافه بيده.
إذاً، ألم يحن الوقت ليُريه من يملك اليد العليا؟
لـذلك الأحمق.
التعليقات لهذا الفصل "83"