في اليوم التالي، حضرت الحفل الترحيبي الذي أقامته مملكة يوريس من أجلي أنا و سيرتين.
كانت البداية إفطارًا متأخرًا.
تناولنا الطعام في بيت زجاجي تفوح فيه رائحة الفواكه برقة.
“جلالة الملك يقدم اعتذاره لانه لم يتمكن من الحضور بسبب مشاكل صحية.”
“لا بأس. أعلم أن جلالته يعاني من مرض مزمن. فلا تقلق حيال ذلك. لقد شرحت لي الجدة الأمر بالفعل.”
أجاب سيرتين بهدوء.
كانت مملكة يوريس تستعد لانتقال سلس للسلطة الملكية. ولي العهد، الذي حضر نيابة عن الملك، لم يكن من المبالغة القول إنه أصبح ملكًا بالفعل.
من المؤكد أنه حضر وهو يمتلك كل السلطات التي يملكها الملك.
“شكرًا لتفهمكم، سمو ولي العهد. نأمل أن تستمتعوا بإقامتكم.”
قاد ولي العهد الأجواء بلطف. الحاضرون في الإفطار كانوا فقط ولي العهد وزوجته، و سيرتين وأنا، و الجدّة الكبرى.
ربما كان ذلك مراعاة لنا لأننا لم نتعافَ بعد من عناء السفر.
زوجة ولي العهد كانت شخصًا هادئًا. كلما التقت عيناها بعينيّ، كانت تبتسم برقة، و كان وجهها يبدو لطيفًا.
“سمو ولية العهد، إذا سمح وقتكِ، ما رأيكِ أن تزوري المعبد معي؟”
“هممم؟ المعبد؟ نذهب للمعبد لنتلو صلاة؟”
أملت رأسي و نـطقت الكلمات وكأنني طفلة. شعرت بنظرات الجدّة الكبرى تلمح إليّ.
لحسن الحظ، كانت تلك النظرات دافئة. كانت تشعر بالقلق عليّ.
“نعم. مملكة يوريس تقدس حاكم الشفاء. وهناك معبد كبير له في العاصمة. والكاهن الأعظم هناك شخص ذو مكانة عالية. بالتأكيد سوف يدعو من أجلكِ يا سمو الأميرة.”
من الواضح أنها تشعر بالأسى من أجلي. كانت لفتة زوجة ولي العهد تجاهي غريبة نوعًا ما.
لم يكن هناك الكثير ممن عاملوني بلطف منذ البداية.
“المعجزات يمكن أن تحدث في أي مكان.”
كانت زوجة ولي العهد تقدم لي هذا الاقتراح بإخلاص. كانت تراقب تعابير سيرتين أثناء حديثها.
“… في الواقع، هو مشهور كموقع سياحي أيضًا. تصميمه المعماري فريد وجميل.”
أضاف ولي العهد بسرعة.
ربما كانت تلك أيضًا نوعًا من المراعاة.
فمجرد كونه مكانًا يستحق الزيارة حتى وإن لم أكن مريضة كان أمرًا مهمًا لي.
إنهم أناس طيبون.
ليسوا كمن هم في قمة السلطة عادةً.
“يبدو ممتعًا. هل ترغب بالذهاب معي، زوجي؟”
“… سأرفض. لست مهتمًا كثيرًا بمثل هذه المباني. كما أنني لا أميل إلى تقديس الحكام.”
ضحك الحاضرون بصوت خافت على كلام سيرتين.
كان صوته يحمل نبرة من المزاح الخفيف.
معبد حاكم الشفاء ،
ربما يمكنني استخدامه كذريعة مناسبة. حتى ننتصر، لا بد أن ينهار دوق سبيلمان.
بعدها، لن أحتاج إلى التمثيل مجددًا، أليس كذلك؟
قد أتمكن من التذرع بأنني تلقيت بركة من المعبد في مملكة يوريس.
وبينما كنت أفكر بذلك، طبع سيرتين قبلة خفيفة على جبيني.
“لتكن معجزة الحاكم معكِ.”
ضحكت على كلام سيرتين. ربما كان يفكر بنفس الشيء.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي الجدّة الكبرى وهي تنظر إلينا.
كانت جلسة طعام دافئة، مثل طقس يوريس المعتدل.
****
لم أحضر حفل العشاء.
لاحظت الجدّة الكبرى أن عليّ الاستمرار في التظاهر بالمرض، فأعلنت غيابها عن الحفل بحجة شعورها بالتوعك.
وأضافت أنها ترغب ببقائي معها، فبقيت في القصر.
لم أعد مضطرة لمقابلة الكثير من الناس.
الآن لاحظت أن عدد الخدم في القصر كان قليلًا جدًا. وسمعت الخادمات يتحدثن أن العدد قُلِّل عمدًا.
كما قال سيرتين، كانت الجدّة الكبرى شخصًا طيبًا.
كانت هذه أول مرة أشعر فيها برعاية حقيقية من بالغ حقيقي.
بدأت أفهم لماذا كان سيرتين يقلق على الأميرة إليزابيث ويفكر طويلًا قبل القدوم إلى يوريس.
من حسن الحظ أنها نجت.
“هل الطعام يعجبك؟”
“آه…”
كنا على طاولة العشاء، وحدنا تمامًا. حتى الخدم قد تم صرفهم.
“نعم. إنه لذيذ، جدتي.”
“أكثر ما عانيت منه أثناء سفري عبر القارة كان الطعام. سعيدة أنه يناسب ذوقك.”
ابتلعت الطعام و ابتسمت.
“شكرًا لكِ، جدتي.”
كانت الأجواء أكثر دفئًا من أول مرة بقينا فيها بمفردنا.
“هل هناك شيء ترغبين في فعله؟ يوريس بلد تجاري مزدهر، و فيه الكثير من الأمور الممتعة. في ليكسيا ستكونين محاصرة في جو مشحون من جديد، لذا إن كنتِ ترغبين بالاستمتاع فلتفعلي هنا.”
لم أفكر في شيء كهذا من قبل.
عندما قالت انه يمكنني الاستمتاع، ابتلعت ريقي دون أن أشعر.
هل يمكنني أن أكون أكثر حرية، أن أرى العالم؟
“لا حاجة لأخذ الخدم معنا. سأرافقكِ بنفسي.”
“… آه.”
“ما هذه الاستجابة؟ هل يعقل أنكِ لم تفكري في الأمر ولو مرة واحدة؟”
ضحكت الجدّة الكبرى.
“يا لكِ من فتاة طيبة.”
قبضت على الشوكة بيدي عند سماعي تلك الكلمات.
ربما كنت منشغلة بإخفاء نفسي لدرجة أنني لم أفكر في الأمر أصلًا.
احمرّت وجنتاي من نظرتها اللطيفة تجاهي.
“فكّري بالأمر. ألا يوجد شيء ترغبين في فعله؟ دعي كل الواجبات المزعجة تقع على عاتق سيرتين.”
كان سيرتين يخطط لكسب الكثير خلال زيارته إلى مملكة يوريس. لم يكن ينوي التوقف عند كسب كونت تشينتشيس من الغرب فقط.
لم يقتصر الأمر على بناء علاقات ودية مع مملكة يوريس، بل كان يخطط أيضًا للعديد من اللقاءات ذات الأهداف التجارية الأخرى.
ومن بين تلك الخطط، كان من المقرر فتح باب التجارة بين قافلة كورتيس و عائلة الكونت بريزمان.
وقد كنت أنا من طلب ذلك من سيرتين، إذ شعرت أنني سأتمكن من الاستفادة من عائلة الكونت بريزمان في المستقبل.
وقد غلّفت جدتي الكبرى كل تلك الأمور دفعة واحدة تحت مسمى الواجبات المزعجة.
“يوجد……شيء أرغب به.”
شعرت بأن وجهي يحمر دون وعي مني.
“ما هو؟”
“كنت قد قررت زيارة المعبد مسبقًا، لذا أريد أن أقرأ الكثير من الكتب أيضًا. لا أتذكر آخر مرة قرأت فيها كتابًا دون أن أضطر إلى مراقبة من حولي.”
كنت أعيش حياةً اضطررت فيها للتخلي عن حتى أبسط الأمور اليومية. لم يكن بإمكاني أن أكون نفسي.
فكل وقتي كان تمثيلًا.
“وأريد أن أتعلم عن الأعمال التجارية. لم تتح لي الفرصة أبدًا لتعلم كيفية إدارة مشروع تجاري. أعلم أنني لن أتمكن من تعلم كل شيء في وقت قصير… ولكن…”
“لقد طلبت منكِ أن تفكري في أمور للتسلية، و لكن كل ما تفكرين فيه هو العمل.”
“لقد استمتعتُ بما فيه الكفاية. وأعتقد أن قضاء أسبوعين كاملين في السياحة سيكون مملًا.”
على العكس، أردت أن أقوم بأشياء لا يمكنني القيام بها في ليكسيا.
“صحيح أن الوقت قصير ولا يكفي لإتقان كل شيء، ولكن…”
“إن كان الأمر عن التجارة… همم، أليس القطاع الذي يحتكره دوق سبيلمان هو الصناعات الدفاعية؟”
“نعم، هذا صحيح.”
البارود مملوك للعائلة الإمبراطورية. وكان دوق سبيلمان يصنع البنادق و المدافع بناءً على طلبات من العائلة الإمبراطورية.
و لأن الكميات التي يمكن تداولها محددة مسبقًا وتخضع لمراقبة صارمة، فإن تهريبها أمر مستحيل.
حتى دوق سبيلمان نفسه كان عليه دفع مبالغ طائلة من أجل تهريبها سرًا.
لم تكن هذه مسألة يمكن حلها بمجرد إرضاء الإمبراطور أو خداعها . فوزارة العدل كانت هي الجهة المشرفة.
و رغم ذلك، كان من المؤكد أن هذا المجال التجاري يدر أموالًا طائلة.
“إذًا، بدلًا من تعلّم التجارة، ما رأيكِ أن تتعلمي عن البنادق الجديدة؟ يوجد متحف قريب من هنا.”
متحف؟
لديّ نوع من الصدمة من المتاحف.
لكن الفضول بدأ يراودني.
“أعتقد أن أهم ما في التجارة هو امتلاك فكرة أو منتج مميز. ولتحقيق ذلك، لا بد من الدراسة.”
“أظن أن ذلك سيكون ممتعًا!”
كانت هذه أول فرصة لي لتعلم شيء ما منذ أن أصبحت إيفلين.
كنت أعتقد أن التعليم الإجباري الذي تلقيته في المجتمع الحديث و الجامعة كان كافيًا، لكني كنت مخطئة.
العيش كشخص جاهل أمر محبط للغاية. وعند التفكير في الأمر، كنت دائمًا أدرس شيئًا ما.
كنت أستمتع بقراءة الكتب أيضًا.
“…أتعجب من أنكِ تحبين شيئًا كهذا فعلًا.”
ضحكت جدتي الكبرى كأنها لا تملك خيارًا سوى تقبل الأمر.
“أنتِ حقًا فتاة طيبة.”
كانت هذه المرة الثانية التي تمدحني فيها.
التعليقات لهذا الفصل "78"