كنت أنتظر عودة سيرتين بقلق شديد. لقد مضت خمس ساعات تقريبًا منذ ذهب لمقابلة الإمبراطور بعد سماعه بأنه سوف يستيقظ قريبًا. لقد أمضى هناك نصف نهار كامل.
“تبدين و كأنك تركتِ طفلًا صغيرًا قرب الماء. يمكنكِ أن تهدئي. سمو ولي العهد لم يذهب إلى ساحة معركة الآن.”
قالت جوليا بابتسامة تعلو وجهها. تنفست الصعداء و أرخيت كتفي عند سماع كلامها.
“أليس ذلك نوعًا من ساحة المعارك أيضًا؟ كما يقولون، الجروح النفسية تبقى أطول من الجروح الجسدية.”
أما عن هذا الإمبراطور… ما عرفته عنه منذ جئت إلى هنا… في النهاية هو والد زوجي، صحيح؟ على أي حال، أكره قول هذا، لكنه… قمامة…؟ شخص مثير للشفقة لدرجة أنكَ سوف تتساءل كيف أضاع حياته بهذه الطريقة.
“هل يمكنني أن أسأل كيف ترين جلالة الإمبراطور؟”
لم أستطع وصفه بالقمامة مباشرة، فقلت بطريقة غير مباشرة
“مدمن على المخدرات، لا يؤدي واجباته، أهمل أطفاله و لم يهتم سواء ماتوا أو عاشوا، و ترك الحكم يُدار من قبل شخص مثل دوق سبيلمان. ولهذا السبب عانى سيرتين كثيرًا. و مع ذلك، لم يسمع منه حتى كلمة طيبة واحدة. أليس مجرد دمية بيد دوق سبيلمان؟ حسنًا، لم يجبره أحد على تناول المخدرات ، فعل ذلك بنفسه. لماذا عاش حياته بهذه الطريقة…؟”
ضحكت جوليا و هايزل بصوت عالٍ على حديثي الجاد.
ابتسمت بخجل و أنا أحك خدي. لكن ما كان يؤلمني أكثر هو أن مثل هذا الشخص الفوضوي و المهمل يستطيع أن يجرح سيرتين في أي وقت، كما فعل دائمًا.
كل ما ورّثه لسيرتين هو لقب ولي العهد و الدم، و مع ذلك كان دائمًا عبئًا على كتفيه.
تنهدت بعمق.
“لا تقلقي كثيرًا، سمو الأميرة. كما كان الحال دائمًا، سيتجاوز الأمر.”
قالت جوليا و هي تبتسم بمرارة بينما ربّتت عليّ. ثم صفّقت بيديها بخفة وكأنها تريد تغيير الجو وتابعت
“ما رأيكِ في أن نقوم بشيء مفرح؟ كيف ستغيرين اسم شركة الصناعات العسكرية الخاصة بسبيلمان؟ لقد قلتِ إنك ترغبين في إزالة اسم سبيلمان. ما الاسم الذي ترغبين به؟”
“آه.”
حدقت في المستندات بصمت. كان هناك حقل فارغ، الحقل الذي سأكتب فيه الاسم الجديد.
استغرق الأمر وقتًا طويلًا جدًا لاستعادة ما سُرق مني.
اسم، اسم… ما الاسم المناسب؟ بينما كنت أفكر، كتبت اسمًا. الاسم الذي كان بداية كل هذه التعاسة، و الضحية في الوقت نفسه.
بعد أن كتبت الاسم، رتبت جوليا المستندات.
“بالمناسبة، متى سيعود الأطفال؟ حتى إن انطلقوا من لاروس، فستستغرق الرحلة أسبوعًا على الأقل. المسافة بعيدة نوعًا ما، لذلك لا أظن أنه من المناسب أن يسافروا وحدهم، جوليا.”
“همم، سأتركهم في لاروس لفترة. يبدو أنهم بخير هناك، و عندما يعودون، سترافقهم خالتهم.”
ابتسمت جوليا بلطف.
“أعتقد أنه من الأفضل أن يتعافى ديميتور أولًا قبل أن يعود الأطفال. حاليًا، كلانا، أنا و ديميتور، لدينا الكثير من الأعمال، كما أن الأطفال قد يصابون بالدهشة عند رؤيتهم للعاصمة بهذا الشكل.”
“إذا احتجتِ إلى إجازة ، فلا تترددي بإخباري، جوليا. هذا ينطبق على هايزل أيضًا.”
“نعم، صاحبة السمو. لكن ليس الآن، لذا لا تقلقي كثيرًا. لدينا الكثير من الأمور التي يجب معالجتها الآن.”
قالت هايزل وهي تشير إلى الوثائق المكدسة على الطاولة. العاصفة التي خلفتها الحرب الأهلية عادت إلينا على شكل أوراق رسمية.
تنهدت تلقائيًا.
*****
سألت جوليا كبير الخدم و رئيسة الخادمات الذين استقبلوها
“أين ديميتور؟”
“إنه في مكتبة الطابق العلوي الآن. بدا وكأنه يستريح ، لذا لم نرد إزعاجه.”
أي أنهم تعمدوا عدم إخباره بأن جوليا قد عادت.
لم يكن سيرتين وحده من أصيب. الجرح الذي أصيب به ديميتور في فخذه كان عميقًا أيضًا، و سيستغرق وقتًا حتى يُشفى تمامًا. مجرد أنه استطاع أن يمشي ويصل إلى هنا بتلك الساق كان أمرًا يستحق الإعجاب.
“أحسنتما.”
“ماذا عن العشاء؟”
“سأستدعي أحدًا بعد قليل.”
“نعم، سيدتي الدوقة.”
صعدت جوليا إلى الطابق العلوي. كان ديميتور مستلقيًا على أريكة المكتبة. كان هناك كتاب موضوع على صدره.
أخدت جوليا الكتاب و وضعته على الطاولة، ثم حدّقت في وجه ديميتور بصمت. كان صدره يرتفع و ينخفض بانتظام مع تنفسه. وجه الرجل الذي غطاه الظلام بعد غروب شمس الشتاء بدا مسالمًا للغاية.
حبست جوليا أنفاسها للحظة وهي تنظر إلى وجه ديميتور.
أحيانًا، كانت تشعر أن مثل هذه اللحظات أشبه بحلم. و أن هذا مجرد حلم، و عندما تستيقظ، سيكون الواقع المروع أمامها. الواقع الذي فيه ديميتور ميت و غير موجود.
شبكت جوليا يديها معًا. كانت تخدش راحة يدها بأظافرها كما لو كانت تلتهمها.
كانت أعراض القلق هذه تظهر دائمًا حتى بعد عودة ديميتور من المعركة.
رغم أنها كانت تكرر لنفسها باستمرار أنه على قيد الحياة.
‘كان يجب أن أعتاد على هذا الآن.’
كانت تتظاهر بأنها بخير و هي تواسي إيفلين، لكنها كانت جبانة إلى هذا الحد.
أطلقت نفسًا عميقًا وهي تطلب أمنية
‘أرجوك، دعنا نمت في اليوم والساعة نفسيهما.’
دعني لا أتحمل وحدي موت هذا الإنسان.
كانت هذه أمنية كررتها جوليا مرات لا تحصى. في الحقيقة، كانت جبانة لا تستطيع العيش من دون ديميتور.
شعرت بدفء يمسك بيدها ففتحت عينيها.
تلاقت عيناها بعيني ديميتور المليئتين بأثر النوم.
“… جوليا.”
“هل نمتَ جيدًا؟”
“آه، يبدو أنني غفوت.”
رفع ديميتور جسده المتعب و جذب جوليا نحوه. ثم أمسك بيدها.
“هل تشعر بتحسن؟”
“نعم أنا أتحسن. قريبًا سأتمكن من الركض كما كنت من قبل.”
أسندت جوليا رأسها بصمت إلى كتف ديميتور. كانت تعرف أنه لا يخبرها حين يتألم أو يتعب.
كان ديميتور معتادًا على التحمل و الكتمان.
أغمض ديميتور عينيه ببطء.
“…أتمنى ألا تكون هناك حرب مرة أخرى.”
قالت جوليا ما كانت تخفيه في قلبها.
“حتى لا تبتعد عني مجددًا.”
أدار ديميتور رأسه و قبّل جبين جوليا.
عضّت جوليا شفتيها بقوة. ديميتور لم يكن من النوع الذي يعطي وعودًا جوفاء.
حتى عبارة “سأبقى إلى جانبكِ حتى لو اندلعت الحرب” لم يكن من النوع الذي يستطيع أن يقولها.
عبثت جوليا بأصابع ديميتور.
خلال العشرين سنة الماضية، اندلعت أكثر من خمس حروب كبيرة و صغيرة.
شارك سيرتين و ديميتور في القتال بمجرد أن أصبحا قادرَين على حمل السيف، و بعد إنهاء تدريبهما، دفعهما دوق سبيلمان للانضمام إلى الحروب كفرسان صغار.
“يجب أن تنتهي الحروب.”
تمتمت جوليا بصوت منخفض.
“يجب أن تنتهي الحروب. لا يجب أن تحدث مثل هذه المآسي مرة أخرى. إن استطعت، فسأفعل كل ما بوسعي لمنع وقوع مثل هذه الكوارث.”
كانت إيفلين تكرر هذه الكلمات مرارًا و تكرارًا.
كانت الحرب مصيبة و مصدر رعب لمن ينتظر، ولمن يغادر.
كانت جوليا تؤمن بكلمات إيفلين. لم يسبق لإيفلين أن نكثت بوعد قطعته.
احتضن ديميتور كتف جوليا بصمت.
الوضع في الجبهة في بايرود لم يُحسم بعد.
وإذا غيرت بايرود رأيها و قررت استئناف الحرب، فسيكون ديميتور أول من يتوجه إلى هناك.
أمسك كل من جوليا و ديميتور بأيدي بعضهما، و تركا الزمن يمر بصمت.
كما لو أنهما يحفران وجودهما في ذاكرة بعضهما البعض.
كانت الليلة تمضي ببطء.
وفي اليوم التالي، غادر ريكست سبيلمان العاصمة.
كلما مرت العربة التي تقله، كانت تنهال عليها الحجارة، وكان الفرسان بالكاد ينجحون في صدها.
سيُستخدم ريكست سبيلمان كقربان لإخماد غضب بايرود.
يُقال إن ريكست سبيلمان، الذي كان يُسحب وهو مكمم الفم، كان هادئًا تمامًا.
قال البعض إنه بدا كجثة، و كأنه فقد كل رغبة في الحياة.
التعليقات لهذا الفصل "142"