إذا أردت أن تسمي القسم الأكثر ازدحامًا في العاصمة الإمبراطورية في الوقت الحالي، فسيكون بلا شك وزارة العدل. حيث كانت المحاكمات تجرى كل يوم.
كان على دوق سبيلمان أن يشهد كل ذلك واقفًا كالشبح. كان عليه أن يراقب من يلومونه، و من يحاولون الاندفاع نحوه مثل الشياطين.
جسده الواقف في الزاوية كجثة كان مقيدًا بالسلاسل، و محاطًا بحراس السجن.
“اللعنة عليك أيها الوغد! بسببكَ دُمر كل شيء! كل شيء انتهى! ادفع ثمن كل شيء! أعد الزمن! لقد اقول لك ان تعيد الزمن إلى الوراء!”
أولئك الذين كانوا يطيعونه، و يقبلون قدميه لو أمرهم بذلك. جميعهم باتوا يلومون دوق سبيلمان الآن.
راقب دوق سبيلمان كل تلك المآسي بعينيه الغارقتين في الظلمة.
في قاعة المحكمة، كانت تتراكم مشاعر اللوم، والدموع، و الألم، و الخوف.
“أرجوكم، اغفروا لي مرة واحدة فقط! من أجل والدي المتوفى…! لن أكرر فعل مثل هذا أبدًا! كل هذا خطأه! أنا فقط اتبعت الأوامر!”
نظر دوق سبيلمان بذهول إلى من كان يشير إليه. كان هو الشخص الذي شجعه أكثر من أي أحد آخر عندما بدأ التمرد.
ذلك الشخص بصق في وجه دوق سبيلمان.
“خائن قذر! عاقبوه و اغفروا لي! أرجوكم اسمحوا لي برؤية سمو ولي العهد مرة واحدة فقط! سأعترف بذنبي و اعترف بـكل ما أعلمه!”
“سوف نأخذ شهادتك بعين الاعتبار. حسب أهمية المعلومات سيتم تحديد حكمك. تم تأجيل الجلسة!”
سقط صوت القاضي البارد كالصقيع على الأرض. الرجل الذي نجا من الموت للحظة، انحنى على الأرض يشكرهم.
كان هو الشخص الأقرب إلى دوق سبيلمان و الذي كان يلعن سيرتين.
“أشكر سمو ولي العهد على كرمه، وأشكره مرة أخرى! يحيا سمو ولي العهد! يحيا إلى الأبد!”
ضحك دوق سبيلمان بسخرية. اقترب منه الحراس ليكبحوا ضحكه المرتعش.
يا لها من مسرحية هزلية. يتخلون عن كرامتهم و يتوسلون للعدو لإنقاذ حياتهم. لن أسقط إلى هذا الحد أبدًا.
ضحك دوق سبيلمان ضحكة خافتة و دار بعينيه البراقتين.
قال لنفسه إنه سيتذكر هذا المشهد ما دام حيًّا.
لن ينسى هذه الإهانة أبدًا. و سيظل يلعن سيرتين، حتى بعد موته. ينتظر اليوم الذي يسقط فيه ذلك الرجل في الجحيم.
“أيها الأحمق. لماذا تضحك الآن؟”
“من يدري، ربما جن فعلًا. سيُرسل إلى بايرود غدًا، أليس كذلك؟”
“هكذا سمعت. يقولون ان رجال بايرود ينتظرونه كحاصدي أرواح. و هناك إشاعة بأنهم صنعوا سوطًا جديدًا لاستقباله. سيقطعونه و يعرضون أطرافه.”
“برابرة. هكذا هم رجال بايرود. كانت تظهر عليهم هذه الطباع منذ زمن.”
“يقولون إنهم سيبقون الجذع فقط ليستخدموه كمكان لقاذورات الناس.”
ضحك الحراس بخفة. عض دوق سبيلمان شفته بقوة.
كان يعرف بايرود أكثر منهم جميعًا. كانوا برابرة خبيثين و قذرين. لهذا اختارهم. ليتقلوا سيرتين بتلك الطريقة.
لم يكن يعلم كيف نجا سيرتين من مخالب بايرود، لكن المشهد الذي يصفونه الآن كان يجب أن يكون هو مستقبل سيرتين.
“كان يجب أن يكون هكذا، فلماذا؟!”
صرخة مؤلمة ارتدت في داخله. أكثر ما يؤلمه أنه مهما حاول، فلن يستطيع الهروب من هذا المصير البائس.
ضحك دوق سبيلمان بجنون وهو يرى الألم والتعاسة يلتفان حوله.
اللعنة، اللعنة! أين أولئك الذين كانوا يرفعونه فوق الجميع؟ أين قصره الذهبي الذي بناه؟ لم يتبقَ شيء غير الفراغ.
كل ما كان يستند عليه بدأ ينهار. ربما كان الموت هو الأفضل. أن ينهي حياته بكرامة، يسكب دمه و يلعن سيرتين.
عض دوق سبيلمان على لسانه بقوة. لكنه لم يكن قادرًا حتى على الموت بإرادته.
“ذلك الوغد بدأ يهلوس مجددًا. ضعوا اللجام في فمه!”
“تسك. ألا يستطيع البقاء هادئًا ليوم واحد؟ الخونة أمثاله عقولهم فاسدة بالكامل.”
ارتعد دوق سبيلمان وهو يشم رائحة القماش القذر الذي دُس في فمه.
رغم أنه في غرفة دافئة بعيدة عن البرد، إلا أن جسده كان يرتجف. بدأ يدرك شيئًا فشيئًا حقيقة وضعه. و المستقبل الذي ينتظره.
*****
استفاق الإمبراطور ببطء و فتح عينيه. ظهرت عيناه الباهتتان من بين جفنيه المنفرجين بضعف. حياته و عقله، اللذان بقيا بصعوبة بفعل الأدوية، جعلاه يلهث.
“…سيرتين؟”
التفت سيرتين، الذي كان جالسًا على طرف السرير ينظر إلى الخارج، إلى الإمبراطور ونظر إليه.
ابتسم الإمبراطور ابتسامة باهتة. شعر بأن ذهنه صافٍ بعد فترة طويلة، كما لو أنه استيقظ من نوم عميق. اتسعت عيناه.
“أشعر و كأنني لم أركَ منذ زمن طويل. هل نمتُ لفترة طويلة؟”
“…لقد كنتَ مريضًا لفترة طويلة. هل أنتَ بخير؟”
“كح كح. لحسن الحظ، نعم.”
أجاب الإمبراطور بصوت واهن. حاول أن ينهض، لكن بدا و كأن عضلاته قد تلاشت تمامًا و لم تتحرك.
ساعده سيرتين على النهوض من السرير. كان عبق الدواء يملأ الغرفة. اتكأ الإمبراطور على رأس السرير و جـلس ، ثم أطلق سعالاً شديدًا.
“…إنها تثلج.”
قال سيرتين بصوت منخفض وهو يضع منديلاً على فم الإمبراطور.
“ثلج…؟”
نظر الإمبراطور إلى النافذة بطرف عينه. وكما قال سيرتين، كانت الثلوج الكبيرة تتساقط. رمش الإمبراطور بعينيه ببطء.
“عندما كنتُ صغيرًا، صغيرًا جدًا، قام والدي مرة بصنع رجل ثلج لي. هل تذكر ذلك؟”
“هاها، بالطبع. كنت صغيرًا و لطيفًا حينها. من كان يظن أنكَ ستنمو و تصبح رجلاً رائعًا هكذا.”
قال الإمبراطور ببطء. لم يكن لديه طاقة، وكان جسده يرغب فقط في الاسترخاء.
“…كم من الوقت كنتُ فاقدًا لوعيي؟”
سأل وهو يحاول تذكر الأشياء الباهتة في ذاكرته. كان يعلم أنه يتناول الأدوية. الأدوية القوية ساعدته على الهروب من هذا العالم. و قد استمتع الإمبراطور بنشوة الدواء.
كان هذا العالم أكبر من أن يتحمله.
لم يكن وعاؤه كبيرًا بما يكفي لاحتواء ليكسيا. لم يرغب في الاعتراف بعجزه، فلجأ إلى المخدرات و الأدوية للهروب. وها قد مرت سنوات طويلة على ذلك.
فكر كيف أن الطفل الذي كان يضحك ببراءة قد كبر و أصبح رجلاً.
قطب الإمبراطور جبينه.
“لقد مضت تقريبًا عشر سنوات. عشر سنوات مريرة و مزعجة للغاية…”
“…عشر سنوات.”
تمتم الإمبراطور بيأس.
يومًا بعد يوم، مضت الأيام بهذه الطريقة حتى نسي بمرور الزمن. نسي نفسه. و نسي أطفاله.
نظر سيرتين إلى الإمبراطور.
“أريد أن أتوقف الآن.”
نظر الإمبراطور إلى سيرتين و هو يسعل. رأى كتفي ابنه البالغ و قد انحنتا.
“كم عمركَ الآن؟”
“سأبلغ السابعة و العشرين قريبًا.”
رأى الإمبراطور في عينيه المظللتين آثار الشباب رغم صغر سنه.
عض على شفتيه بقوة.
كل هذا كان من صنعه. الطفل الذي أظهر مواهب متميزة منذ صغره، لأنه يشبه أسلافه، كان لا بد أنه نجا و حمى ليكسيا خلال فترة هروب الإمبراطور.
كان يعرف ذلك دون أن يحتاج لرؤيته.
لقد كانت فعلًا سنوات طويلة و مرهقة كما قال سيرتين.
“…لقد مرت فترة طويلة.”
ابتسم الإمبراطور. ارتجفت أصابعه النحيلة التي كانت تقبض على غطاء السرير. لقد حان الوقت ليتخلص من القيد الثقيل الذي كان يربطه.
“كن إمبراطورًا، يا سيرتين.”
قال الإمبراطور بصوت ثقيل.
“سأورثكَ كل شيء. لا، كل ما تركه لي والدي في ليكسيا. أصلح الأخطاء التي ارتكبتها، و كن ملكًا فاضلًا، ملكًا فاضلًا.”
لهث الإمبراطور وهو يتنفس.
ملك فاضل. ابتسم سيرتين.
“أنتَ أناني حتى النهاية.”
أن يُحمِّل ابنه بسهولة ذلك العبء الذي لم يستطع هو نفسه تحمله…
الإمبراطور لن يتغير أبدًا. انحنى سيرتين برأسه.
“نعم، يا والدي.”
لن أكون مثلك. لن أنهي حياتي بهذه الطريقة البائسة. لذا، ارقد بسلام.
عاش الإمبراطور بعد ذلك شهرًا كاملًا. بالكاد مستمرًا في حياته. ثم أغمض عينيه بهدوء تحت أنظار الخدم.
كان ذلك بعد 23 عامًا من حكمه.
التعليقات لهذا الفصل "141"