نظر سيرتين بنظرة سريعة إلى إيفلين التي كانت واقفة بثبات أمامه.
كانت الطبيب الملكي يتابع عملية علاج سيرتين دون أن يغفل عنه لحظة. و كان تعبير وجه إيفلين وهي تضغط شفتيها جعلها تبدو و كأنها طفلة غاضبة إلى حدٍّ ما.
أطلق سيرتين ضحكة خفيفة. رؤيته لهذا التعبير جعله يشعر مجددًا أنه قد عاد بالفعل. كانت إيفلين بيته، و كانت عزاءه.
“ارخي وجهكِ. هل تعلمين كم تكونين مخيفة و أنتِ تبدين تلك التعابير؟”
“سيرتين يجب أن تتلقى توبيخًا أكثر.”
أجابت إيفلين بوجه متجهم.
أطلق سيرتين ضحكة خافتة بينما كانت يداه على السرير خلف ظهره.
كانت إيفلين، و هي بهذا الحال، محبوبة و مؤثرة جدًا.
بمجرد أن أنهى الطبيب الملكي التعقيم، بدأت إيفلين تسأله سيلًا من الأسئلة.
“لم تحدث التهابات ، صحيح؟ و ماذا عن الأماكن التي زادت سوءًا؟ يبدو أن الجرح لا يلتئم بسرعة، ما رأيكَ أنت؟”
تنفس الطبيب الملكي بعمق و بدأ يجيب على الأسئلة واحدة تلو الاخرى.
“لحسن الحظ، لا توجد التهابات. يبدو أن الأدوية التي يتناولها بانتظام قد ساعدت. ولا توجد أيضًا أماكن ازدادت سوءًا. بفضل التعقيم المنتظم واهتمام سموّكِ، فإن التعافي يتم بسلاسة. أما سبب بطء الالتئام فهو أن الجرح كان عميقًا، ولكن لحسن الحظ لم تتضرر الأعضاء الداخلية كثيرًا، غير أن اللحم كان محفورًا بعمق، لذا نرجو الصبر.”
“…هذه أول مرة أسمع فيها أن الأعضاء لم تتضرر كثيرًا. هل تعني بكلامكَ أنها تضررت ولو قليلًا؟”
“الأعضاء ليست في حالة تمنعها من أداء وظائفها، لذا لا يوجد ما يدعو للقلق الكبير.”
“إيفلين.”
مد سيرتين يده نحو إيفلين، كما لو كان يقول لها أن تتوقف و تقترب منه.
اقتربت إيفلين و جلست بجانبه وكأنها استسلمت. جذب جسدها اللين ذي الرائحة العذبة إلى حضنه.
دفعت إيفلين صدره لكنها لم تسحب يدها.
“اسألي أسئلة أكثر واقعية. ألا تملين من تكرار نفس الأسئلة يوميًا؟”
“…أنا أطرح أسئلة عملية و مهمة أكثر من أي أحد، سيرتين. إذًا، ماذا علي أن أسأل؟”
“استخدمي خيالك.”
و بينما كان يلف ذراعه برفق حول رأس إيفلين، أشار سيرتين إلى الطبيب الملكي لكي يخرج.
خرج الطبيب مسرعًا وكأنه يهرب، بينما يتصبب منه العرق البارد. و بقي الاثنان وحدهما في الغرفة.
“تقول لي استخدمي خيالي… هل تظن أني ألعب الآن…!”
حدّقت إيفلين في سيرتين بحدة.
هز سيرتين كتفيه و ضحك، ثم قبّل وجنتها المنتفخة.
من بين رموشه المنسدلة، ظهرت عيناه الزرقاوان محملتين برغبة عميقة.
ابتلعت إيفلين ريقها دون أن تشعر.
“… قريبًا ستأتي جدتي الكبرى، سيرتين. هل تعلم كم كانت قلقة….”
كان وقتًا يعكس فيه الغبار المنتشر في الهواء تحت أشعة الشمس بوضوح.
احمر طرفا عينيها سريعًا.
“أنتِ لا تعلمين شيئًا.”
همس سيرتين بصوت خشن وخافت.
“لا تعلمين كم فكرت بكِ عندما كنتُ في ذلك المكان. كيف بقيت على قيد الحياة من أجلك.”
ارتجفت شفتا إيفلين. شعرت و كأن رأسها أصبح خاليًا تمامًا.
كانت بشرة سيرتين تحت يدها ساخنة. ثم لاحظت أنه كان بلا قميص لتلقي العلاج.
ما لم تلحظه في البداية، بدأ الآن يُشغل تفكيرها.
كان شعورًا ضبابيًا وكأن موجة جرفتها.
*****
“شكرًا لأنكَ لم تنساني.”
قالت الجدة الكبرى مازحة بوجه يفيض بالمشاكسة.
“نعم، هذا جيد. لحسن الحظ لم أتعرض لإصابة في رأسي، لذا لم أنسكِ.”
قال سيرتين مبتسمًا وهو يوافقها بلطف . كان يبدو هادئًا تمامًا.
لم يكن غريبًا أن تظهر الجدة الكبرى هذا التصرف، فهذه هي الليلة الرابعة منذ عودة سيرتين.
في اليوم الأول، كان سيرتين في حال يُرثى لها،
وفي اليوم الثاني، كان بحاجة لوقت للتعافي،
واليوم الثالث كذلك.
ولم يتحسن لون وجهه إلا اليوم، فتم ترتيب هذا اللقاء لتناول الطعام مع الجدة الكبرى.
“يا لها من راحة ، لقد ظننت حقًا أنكَ مت ، و كنت على وشك تقديم بلاغ وفاتك.”
“ها أنا حي و بصحة جيدة، لذا وفري على نفسكِ عناء ذلك.”
أطلقت الجدة الكبرى ضحكة مدوية كما لو أنها استسلمت أخيرًا.
التجاعيد حول عينيها التفت بانحناءة جميلة.
“طالما أن لسانكَ يعمل، فأنتَ بخير. حسب الشائعات، قيل إنكَ عدتَ كنصف جثة.”
“تمت المبالغة في ذلك. يسعدني رؤية أن حالتكِ أيضًا بخير، جدتي.”
“حسنًا، أنا لست قلقة. إيفلين تهتم بكل شيء على أكمل وجه ، لقد تعبت كثيرًا فعلًا.”
“أنا أعلم.”
أجاب سيرتين بصوت مليء بالمودة.
للحظة، خطر في بالي أن هذا المشهد أشبه بالحلم.
فقط قبل بضعة أيام، كدت اختنق من فكرة أن سيرتين قد لا يتمكن من العودة.
لكنه عاد بكل هدوء، و اندس مجددًا في تفاصيل حياته اليومية.
أكد لي مجددًا أن وجوده كان دائمًا أمرًا بديهيًا.
شعرت بضيق في صدري، فأمسكت يد سيرتين بقوة.
نظر إلي سيرتين بنظرة جانبية وابتسم. حقًا، إنه قاسٍ.
“إذا فعلتَ شيئًا كهذا مرة أخرى و جعلتنا نُصاب بالذعر، سأقدّم بلاغًا بوفاتكَ حقًا. ثم سأعطي مكانكَ لإيفلين. تذكر هذا جيدًا.”
“نعم، سأضعه في الحسبان.”
قبّل سيرتين ظاهر يدي.
هزّت الجدة الكبرى رأسها.
“هل سمعتَ بأخبار والدتك و أختك؟”
توقف سيرتين للحظة.
“يقال إنهما بخير. والدتك، على غير المتوقع، يبدو أنها تأقلمت مع الحياة هناك. و تعيش الآن براحة أكبر مما كانت عليه سابقًا.”
“… بالأصل لم تكن ممن يناسبهم العيش في العاصمة. أين تقيم الآن؟”
“في قرية جيلريت الشمالية، ليست بعيدة من هنا. إنها الفيلا التي كنت أعيش فيها سابقًا. لا يوجد بها كثير من الناس، و هي هادئة، لذا فهي مناسبة.”
وضع سيرتين الشوكة على الطاولة.
أغلق شفتيه الحمراوين قليلًا ثم قال
“لن أمنعها إن رغبت بالعودة، ولكن أعتقد أن بقاءها هناك أفضل.”
تنهدت الجدة الكبرى.
“أنا أيضًا أرى ذلك. و يبدو أن فيرونيكا ترى نفس الأمر . فيرونيكا ما زالت فتاة يافعة، لذا قد يكون من الجيد أن تتنقل بين العاصمة و القرية أحيانًا. و إن لم يكن ذلك…”
توقفت الجدة الكبرى قليلًا لتفكر، ثم أضافت
“أفكر في إرسالها إلى يوريس. فدائمًا ما تحتاج كورتيس إلى أيدٍ عاملة . أشعر أن عالم تلك الفتاة كان ضيقًا جدًا حتى الآن.”
“وأنا أيضًا أظن أن ذلك خيار جيد، إذا وافقت فيرونيكا بالطبع.”
“سنتحدث في الأمر لاحقًا. ليس من الصواب اتخاذ قرارات في غياب الشخص المعني. و الآن بقي شخص واحد.”
جمعت الجدة الكبرى شفتيها بإحكام.
“من حسن الحظ أن حياته لم تنتهِ بعد. لكن مسألة التنازل عن العرش تمثل مشكلة.”
نظرت بين سيرتين و لجدة الكبرى بالتناوب، ثم رفعت يدي ببطء.
لم أكن أعتقد أنه من الصواب التدخل في نقاشات تخص شؤون العائلة، فبقيت صامتة.
لكن هذه المشكلة تحديدًا يمكنني حلّها.
“يمكننا إيقاظ جلالة الإمبراطور، جدتي.”
“…ماذا؟”
“الدوق سبيلمان هو من سمّم جلالة الإمبراطور.
بما أن ما حدث سببه السم، فبإمكاننا إفاقته من خلال ترياق. فالسم لم يكن مميتًا أصلًا . و يُقال إنه سيكون قادرًا على الحفاظ على وعيه لبعض الوقت أيضًا.”
“…حقًا، إنه أشبه بجثة حية.”
نقرت الجدة الكبرى بلسانها ببرود.
ولها الحق في ذلك. فقد تم استخدامه طوال الوقت، وانتهى به الحال في أبشع صورة.
كان مظهره بائسًا للغاية بالنسبة لإمبراطور إمبراطورية.
التعليقات لهذا الفصل "140"