“لماذا يتصرف الرجال هكذا بحق السماء؟”
قلت وأنا أضرب الريشة على الطاولة بغضب.
حتى أثناء كتابتي بسرعة للوثائق الرسمية التي سيتم إرسالها، لم أستطع كبح مشاعري. صررت على أسناني.
“من أين تأتي تلك البساطة التي تجعلهم يعتقدون أن الكتمان يعني عدم الانكشاف؟!”
وافقت جوليا على كلامي.
“ديميتور كذلك. يظهر الجروح الصغيرة وكأنها لا تعني شيئًا، ثم حين يتعرض لإصابة كبيرة، يغلق على نفسه الباب و يتصرف خفية. كأنه يظن أنه لن يُكتشف.”
هزت جوليا رأسها. لقد لعبت دورًا كبيرًا في كشف سر سيرتين بالأمس.
قامت بالتحقيق مع الفرسان الذين تعرفهم شخصيًا حتى اكتشفت إصابته.
كم شعرت بالغضب عندما رأيت إصابة سيرتين بعينيّ الليلة الماضية. فكرت في كيف كان يحملني و يدور بي وكأنني شعلة، و ذلك بجسده المصاب، مما جعلني أغضب أكثر.
“هل يظنون أننا لن نحزن إن لم نعرف؟ يا له من غباء! الكتمان يزيد من شدة الغضب أكثر! ثم لماذا كان يحملني بذلك الجسد؟ أشعر بالغليان!”
ضربت قدميّ على الأرض بعنف. كانت خصلات شعري الوردية تتمايل يمينًا ويسارًا.
تحدثت جوليا
“الرجال بسيطون جدًا. لا يخطر في بالهم أن هذا خداع. ديميتور قال لي: طالما أنتِ لا تعلمين، فـلن تحزني.”
قالت جوليا هذا بوجه بارد وهي تصب الشمع على ظرف الرسالة وتضغط عليه بالختم.
كانت هايزل مرتبكة وهي تراقبني أنا و جوليا.
“حسنا ،لا أعرف. لم أتزوج من قبل.”
قالت هايزل وهي تضحك بخجل وتحك ذقنها.
كانت تكتب اسم المستلم على الظرف حين تابعت قائلة
“كل ما رأيته هو شجارات أختي الكبرى و زوجها. لم أختبر ذلك بنفسي.”
“هايزل، لا، لا، لا تتزوجي أبدًا.”
“وأنا أوافقك ، هايزل. من الأفضل ألا تتزوجي. الزواج أحيانًا ضرره أكثر من نفعه.”
أضافت جوليا بنبرة باردة. كانت نصيحة نابعة من تجارب مريرة لمتزوجات سبقنها.
ضحكت هايزل بخجل.
“……سأحاول. هاهاها.”
هوووو.
تأكدتُ بالأمس أن سيرتين نام أخيرًا بفعل المسكن.
خلعتُ ملابسه و مسحت جسده بمنشفة مبللة بخفة، و رغم ذلك كان يبدو عليه الاعتذار بشدة.
“هل تعلمين أن وجهكِ و أنتِ غاضبة جميل أيضًا؟”
“همف.”
“لا تحتاجين لفعل هذا بنفسكِ يا إيفلين. خدم هذا القصر لا يتقاضون أجرهم عبثًا.”
” أغلق فمك، سيرتين “
“……أنا آسف. ألا ترين أنني أندم هكذا؟”
“قلت أغلق فمك.”
حين تذكرت نظراته التي كان يضحك بها نحوي، شعرت بالغضب مجددًا.
ضربت المكتب دون وعي وصرخت.
“على ماذا هو آسف تحديدًا؟ لأنه تأذى؟ أم لأنه جعلني أحزن؟ ما يغضبني أكثر هو تصرفه بحذر!”
“هذا ما أقوله أنا أيضًا.”
في الحقيقة، هل تعرض للإصابة لأنه أراد ذلك؟ هل تظاهر بالموت لأنه أراد ذلك؟
أنا و جوليا لم نزر ساحة معركة من قبل.
لكننا نعرف شيئًا واحدًا. أن أي متغير غير متوقع يمكن أن يحدث.
وأنه لمجرد كونه لم يكن الموت، علينا أن نشكر على ذلك.
كل هذه المشاعر كانت في جوهرها نابعة من الحزن.
لماذا كان يجب أن يكون سيرتين؟ ولماذا ديميتور؟
لماذا لم نكن معهم في تلك اللحظات المؤلمة؟
لماذا… عندما رأيناهم، حين عادوا، لم نلاحظ شيئًا؟
في النهاية، من كان يشعر بالذنب هما أنا و جوليا.
سألت هايزل بحذر.
“إذًا… ماذا يجب أن نفعل؟”
“…الأفضل أن يصمتوا فحسب. على الأقل لن يؤلم قلوبنا.”
نعم، هذا ما أعنيه. لأن رؤيتهم و هم يردّون بردود باهتة كان يؤلم أكثر.
تنهدت و واصلت خدش الورق بالريشة.
عدد الوثائق الرسمية التي كان يجب إرسالها إلى مختلف الإدارات لم يكن قليلاً.
توليت كتابتها بنفسي بدلًا عن سيرتين عمدًا.
حتى وإن طلبت منه أن يسترح، فلن يفعل. لذا قررت توزيع الأعباء قدر الإمكان.
كنت أكتب التعليمات التي يجب إرسالها لهم، وأول ما كان يجب الإسراع فيه هو تحديد الأولويات و الموازنات المطلوبة.
لأنه كان هناك من انضم إلى المتمردين، فلا بد أن هناك فراغًا إداريًا.
على سبيل المثال، سمعت أن وزارة الاقتصاد تعرضت لتطهير شبه كامل.
فقررت أن أتكفل بمهام الوزارة.
بمجرد أن تُرسل الوثائق، يجب تقدير الميزانية المتاحة.
وفي الوقت الحالي، يجب تركيز كل الجهود على أعمال الترميم، واستقرار معيشة الناس، و الدبلوماسية.
والآن.
دوق سبيلمان ما زال داخل تلك المدينة.
الفرسان يفتشون العاصمة المُغلقة تفتيشًا دقيقًا.
لقد وقع الفأر في المصيدة.
كل ما تبقى هو العثور على الجحر الذي اختبأ فيه.
*****
تم القبض على دوق سبيلمان بعد يومين.
تمكنوا من القبض عليه بعد أن أبلغ عنه صاحب متجر فواكه وخضروات أثناء محاولته التسلل والهروب متخفيًا. مجرد كونه استطاع أن يختبئ وحده في تلك الظروف كان أمرًا مذهلاً بحق.
خرجت مع سيرتين للتحقق من هوية دوق سبيلمان. أو بالأحرى، تبعت سيرتين الذي كان ينوي الخروج بمفرده.
ما الذي كان ينوي فعله مرة أخرى؟ فتحت عيني بحدة و التصقت بجانب سيرتين.
في الآونة الأخيرة، كان القصر الإمبراطوري بأكمله متحدًا بقلوب واحدة لمراقبة سيرتين عن كثب وفقًا لأوامري.
سار سيرتين و هو يمسك بيدي نحو دوق سبيلمان. وعندما رآنا دوق سبيلمان ، انفجر ضاحكًا. كانت ضحكته مشبعة بالجنون.
“كم هو مزعج! من كان يجب أن يموت عاد حيًّا، و من كان يجب أن تموت لا تزال على قيد الحياة.”
نظر دوق سبيلمان بعينين محتقنتين بالدماء نحوي و نحو سيرتين بالتناوب. ثم أطلق ضحكة ساخرة.
“حتى الجرذان لا تضاهيكم. أعترف، لقد خسرت. أنا، ريكست سبيلمان، خسرت! هيا، ماذا ستفعلون بي الآن؟ هل ستقتلونني؟”
حدق دوق سبيلمان بي بعينين ممتلئتين بالشر. كان اللون الأخضر في عينيه مشابهًا تمامًا لي، مما أثار رعشة في قلبي.
“هل تنوين أن تصبحي قاتلة والدك؟ حسنًا، جربي ذلك إن استطعتِ. سيستقبل الناس قاتلة والدها كإمبراطورة، أليس كذلك؟ أيتها الحمقاء! لقد وُسمتِ بالفعل! هل تعتقدين أن الناس سينسون العيب الذي كنت تحملينه طويلاً؟”
لهث دوق سبيلمان وهو يتنفس بصعوبة.
“الأطفال الذين ستلدينهم، و كذلك أطفالهم، سيحملون هذا العار! الناس سيشككون في دمائكِ و سيحاولون إسقاطهم! كان يجب عليكِ أن تفعلي ما أمرتكِ به! وأنتَ أيضًا، سيرتين! الإمبراطور بالكاد ما زال حيًا! الناس سيشيرون إليك كولي عهد قتل الإمبراطور! هكذا هي الشائعات! يلهثون وراء ما يثيرهم مثل الكلاب!”
تحرك دوق سبيلمان في مكانه وكأنه يهم بالقفز.
“سأدعو من كل قلبي أن يتحقق كل هذا!”
“شش.”
بإشارة من يد سيرتين، قام الفرسان بإغلاق فم دوق سبيلمان.
“لن أسمح لكَ بأي كلمة بعد الآن.”
قام الفرسان بوضع لجام على فمه. ورغم صراخه وهيجانه ككلب مسعور، تم كبحه بسرعة.
وجهه الذي التصق بالأرض كان مشوهًا بالكامل، و وجنته كانت تحت ضغط أحذية الفرسان.
“من الآن فصاعدًا، لن تقوم إلا بالاستماع.”
“غه، غمم!!”
“سيتم شطب اسمكَ من قائمة النبلاء اعتبارًا من اليوم. و كأنك لم توجد أبدًا.”
بدأ دوق سبيلمان يرفس بعنف.
“ولن نحكم عليكَ حتى في ليكسيا. سأقوم بنفيك إلى الأبد. و ستشعر لاحقًا بكل ذرة من الألم نتيجة ما يتعرض له من لا يحمل جنسية.”
بإيماءة من سيرتين، أمسك الفرسان بشعر دوق سبيلمان و رفعوه.
تلاقى نظره البارد مع نظرة سيرتين المتجمدة.
“ستتوجه إلى بايرود كمتسول فقد كل شيء. هل تعرف ما يعني ذلك؟”
ابتسم سيرتين بسخرية وهو يرفع زاوية فمه.
“بايرود لا تزال دولة يُسمح فيها بالهمجية.”
ربت سيرتين بأصابعه الطويلة على وجنة الدوق بخفة.
“تقنيات التعذيب هناك تُعد من بين الأشد قسوة في القارة. أنا متحمس لأعرف متى ستموت بالضبط.”
حتى و أنا أستمع فقط، شعرت بالقشعريرة تتسلل إلى عظامي.
التعليقات لهذا الفصل "138"