كبح سيرتين أنفاسه الخشنة بصعوبة.
رأى الحشود التي تجمعت كأسراب النمل أمام القصر الإمبراطوري. كانوا سبيلمان وأتباعه. شحبت وجوه من تعرفوا على سيرتين.
كان جسده المتعب من ليلة بلا راحة يصرخ بالألم، لكنه لم يكن يستطيع التوقف بعد. قبض سيرتين على لجام حصانه بقوة.
لقد ساعده جيمس كثيرًا في عبور سور العاصمة الإمبراطورية، و هو السور الوحيد الذي لا يحتوي على ممرات سرية. و بفضل جيمس الذي أتى إليه في التوقيت المناسب بتصريح مرور، تمكن من عبور السور دون أي تأخير.
“…لا تجهد نفسكَ كثيرًا.”
قال ديميتور له بصوت خافت. رفع سيرتين زاوية شفتيه بابتسامة خفيفة.
“بل أنت.”
لم يكن سيرتين وحده من أصيب. فقد أصيب ديميتور أيضًا . تبادل الاثنان نظرات ذات مغزى.
رأى على السور امرأة متألقة كزهرة ورد. لم يكن هناك في حياة سيرتين شخص غيرها ينبض بذلك الجمال والضياء المحبوب.
‘…إيفلين.’
كانت هي من جعلته يخشى الموت، و هي من دفعته ليعض على شفتيه و يصل إلى هنا. كانت هي من علمته، و هو الذي عاش مدفوعًا بالإصرار والغضب والحقد، معنى السعادة.
إيفلين كانت تلمع ممسكةً برايته.
أحس بخفقان يعتصر قلبه و يجعل دمه يغلي. نسي حتى الألم.
“سموها لا تزال في موقعها.”
قال ديميتور بصوت تغمره ابتسامة.
“كنت واثقًا من ذلك.”
لقد شعر بدفء لم يعرفه طوال حياته، لم يعرف معنى الوثوق بأحد حتى التقى بها. علمته كيف يثق، وكيف ينظر خلفه بعدما اعتاد النظر للأمام فقط.
“كنتُ واثقًا أنها ستنتظرني.”
قطّب سيرتين جبينه قليلًا مع تصاعد مشاعره. ضحك ديميتور.
“اذهب، يا صاحب السمو. لن يكون هناك ما يعيق طريقك. سيف روجر سيفتح لكَ الطريق.”
دفعه ديميتور في ظهره.
كان من دواعي سرور صديقه أن يرى في سيرتين، المتشائم و البارد دومًا، هذا الجانب الإنساني. حتى بعد الانتصارات في الحرب، لم يكن يفرح كما الآن.
ربما حتى لو مات هناك، لأغمض عينيه بلا أسف. لذا، فإن رؤية صديقه يشعر بهذا الشوق و الفرح كانت تسعده بصدق.
كان سيرتين يتجه نحو السعادة.
رفع ديميتور سيفه و بندقيته من أجل ذلك الصديق.
“كل الجيش، تقدموا! سنكون نحن من يكتب صفحة مجيدة في تاريخ ليكسيا! اقتلوا كل من يعترض طريق ولي العهد! اسحقوا المتمردين واستعيدوا مجد ليكسيا!”
“واااااه! يحيا سمو ولي العهد!”
“تحيا ليكسيا!”
كانت معنويات الفرسان في عنان السماء.
تقدم الحصان الأسود، أصلان، الذي رافق سيرتين في طريق النصر، إلى الأمام. و ملأ صوت حوافر الخيول وأقدام الجنود كل شوارع العاصمة الإمبراطورية.
****
“سموك، ماذا نفعل الآن!”
“اللعنة، حتى رجال لاروس انضموا إليهم! سنُباد بالكامل بهذا الشكل!”
أحاط الأرستقراطيون الذين لا يجيدون إلا الكلام بدوق سبيلمان. لم يأتوا بحلول، بل ظلوا يعتمدون عليه حتى آخر لحظة.
دفعهم دوق سبيلمان بعصاه وفتح باب الخيمة.
“أحضروا لي بريمو حالًا.”
“حاضر!”
نادى دوق سبيلمان مَن بقي من أتباعه المخلصين بعينين داميتين. أولئك الذين لم ولن يخونوه أبدًا. لقد خدموه في الظل لسنوات، حاملين السيوف والبنادق باسمه طوال تلك المدة.
كانوا أيضًا من تولوا تصفية من يعيق طريق الدوق في الخفاء. استخدم المرتزقة أحيانًا لإخفاء أثره، لكن كانت له يد مباشرة أيضًا.
أولئك هم بريمو و أتباعه.
إن لم يستطع الفوز، و إن لم يأذن له القدر بعبور هذا العتبة، فلن يذهب وحده. لن يسمح بأن يغرق وحده في هذا المستنقع.
سيرتين كشف نقطة ضعفه لدوق سبيلمان. وكان ذلك من أكثر خطط الدوق تدميرًا، تلك التي احتفظ بها في قلبه طوال الوقت.
“…سيصل ولي العهد قريبًا. في الوقت المناسب، اقتلوا إيفلين ليكسيا.”
تلألأت عينا دوق سبيلمان كعيون الأفعى. المكان الذي يقصده هو الجحيم. لم يراوده تفكير بأنه سينجو بعد الهزيمة.
كانت هذه الحرب مغامرة راهن فيها ريكست سبيلمان على كل ما عاشه، و كل ما تبقى له من عمره.
‘ لنغادر سويًا.’
جمّد دوق سبيلمان ملامحه ببرود. فحتى إيفلين، إن أردنا الصراحة، كانت ثمرة من بذوره. لذا، إن كان هو من سيجنيها، فلا أحد يحق له أن يقول إنه ظُلم.
*****
كانت الشمس تشرق فوق الأفق. مع بزوغ الصباح، أشرقت الشمس عليّ، وعلى ليكسيا كذلك.
في ضوء الشمس الذهبي الشفاف، كانت راية لاروس و راية سيرتين، بالإضافة إلى رايات العديد من العائلات مثل آيتيس، ترفرف في مشهد واحد.
أطلقت هايزل و جوليا صيحات الانبهار.
لقد كانت أملاً، و خلاصًا، جاء مع شمس الصباح.
سالت الدموع من عينيّ.
“سمو ولي العهد قادم…!”
كان ذلك الرأس الذي عرضه دوق سبيلمان مزيفًا. لقد كان شريرًا حتى النهاية، و كان يعرف جيدًا كيف يدفع الناس إلى اليأس.
“إنه يعود سالمًا!”
قالت هايزل بصوت يغمره التأثر.
ازدادت دموعي التي بالكاد كنت أتمالكها. ارتجفت شفتاي.
“…سمو الأميرة.”
أمسكت جوليا يدي بحذر. كانت يدها ترتجف أيضًا. لم أكن الوحيدة التي كادت تفقد زوجها.
رغم أنها لم تُظهر أبدًا أية علامات تعب، فقد عاشت التجربة نفسها بجانبي.
لقد كانت سندًا لي و مصدرًا للعزاء طوال تلك الفترة.
“ألم أقل لكِ؟ رغم أنه يجعل قلوبنا تسقط من أماكنها، إلا أنه دائمًا ما يعود.”
قالت جوليا بصوت مرتجف. وافقتها الرأي في قلبي.
تحولت البنادق و السيوف التي كانت موجّهة إلينا، إلى من كانوا يندفعون من الخلف.
أطلق أولئك الذين كانوا ممسكين بأواني الزيت فوق السور هتافات الفرح، و انفجر الفرسان بالبكاء.
الجميع كان واثقًا من النصر.
كان سيرتين يزحف بقوات هائلة تضغط على المتمردين.
هل من الجنون أن أسمع صوت البنادق و كأنها ألعاب نارية تحتفل بالنصر؟
انفتح الباب الذي دافعنا عنه بكل قوتنا.
الفرسان و الخدم الذين خاطروا بحياتهم لحمايته، فتحوه بوجوه تغمرها السعادة.
كيييييك.
سمعت صوت الباب الضخم و هو يُفتح.
أسرعت الخطى. شعرت و كأن قدميّ تتعثران.
كل خطوة كانت ثقيلة و بطيئة.
قلبي سبقني إلى سيرتين، لكن جسدي لم يتبعه بعد.
“هاه، سيرتين…”
“كوني حذرة، صاحبة السمو!”
ساعدتني أيدٍ كثيرة حين كنتُ على وشك السقوط . تجاوزتهم و ركضت.
سقط حذائي و ارتطم بالأرض.
لم أشعر حتى بالجروح التي سببتها الأعشاب المتجمدة في قدميّ.
أسرع ، أسرع أكثر ، قليلًا فقط!
ركضت بكل ما أملك من قوة.
كنت ألهث و أنا أبحث عن سيرتين.
“أين أنتَ، أين أنتَ الآن…”
خرجت الكلمات غير واضحة و مبعثرة.
في تلك اللحظة، شعرت بقوة تطوقني من الخلف.
ذراعان قويتان استدارتا بجسدي و عانقتاني بشدة.
و بمجرد أن التقت عيناي بعينيه الزرقاوين، انهمرت دموعي.
“…إيفلين.”
لمستُ خده.
“أحقًا هذا أنت؟ هل أنتَ حقًا..؟”
تحسست وجهه. كان أكثر خشونة مما كان عليه قبل رحيله، لكنه كان سيرتين حقًا.
هو الرجل الذي جعلني أعيش اليأس ثم أعاد إليّ السعادة من جديد.
ابتسم سيرتين و همس بصوت خافت
“فتاتي دائمًا حافية القدمين.”
ضحكت و عانقته بقوة. لقد كان سيرتين فعلًا.
قبّلني بحرارة.
ملأت أنفاسه الحارة المسافة بيننا.
حتى يديه، التي أمسكت بخديّ و عنقي و خصري، كانت تفوح منهما رائحته.
تلك اليد التي عانقتني و كأنها لا تسمح بوجود أي فراغ بيننا جعلت الدموع تنهمر مجددًا.
حتى أنفاسي المختلطة بأنفاسه كانت تفوح منها ملوحة الدموع.
في تلك اللحظة، و كأن السماء أرسلت بركتها التي كانت تؤجلها، بدأ الثلج يتساقط.
كان أول ثلج في هذا العام، و قد جاء متأخرًا جدًا.
التعليقات لهذا الفصل "135"