“آآآآآه!”
تعرض من كانوا مغمورين بالزيت المغلي للحروق وسقطوا على الأرض.
السلّم الذي كان ممتدًا على سور القلعة امتص الكثير من الزيت، فتشبّبت النار الصغيرة التي التقطتها السلم وانتشرت النيران إلى الأرض. كانت رائحة احتراق الجلد المتعفن تلسع الأنف بشكل مزعج.
“تحركي إلى الداخل أكثر، صاحبة السمو.”
“لا بأس، جوليا. الجميع يعملون بجد هكذا، لا يمكنني أن أكون الوحيدة في مكان آمن.”
نظرت إليّ جوليا و تنهّدت بخفة بينما ابتسمت بضعف.
كنت أنوي أن أتذكر كل هذا وأخزنه في ذهني.
كنت أريد أن أتذكر جيدًا ما يحدث عندما يتم اللعب بالأسرة الحاكمة العقيمة بأيدي الخونة، حتى لا يتكرر هذا الأمر مرة أخرى.
خلال الأيام الثلاثة الماضية، بدأت شرارة الأمل تشتعل في كل أرجاء القلعة. اجتمعت إرادة من يريدون حماية القلعة و”ليكسيا” ضد المتمردين في وحدة واحدة.
وفقًا للخطة، انضم فرسان كورتيس في اليوم التالي، ثم تلاهم العاملون غير المقاتلين.
كانت رئيسة للخادمات ترتدي فستانًا داكن اللون، و لبست درعًا صنع من القطن المحكم و الخيوط الخشنة. تحت إمرتي تم تمزيق كل الستائر التالفة و خياطتها طوال الليل لصنع هذا الدرع.
لم يأتِ من أجل المساعدة الخادمات فقط، بل خرج مشرفو الإسطبلات و هم يسحبون العربات، و حاملو المقصات من البستانيين.
و كانت السيدات الراقيات في القلعة يمسكن بالإبر، و الرجال النبلاء خلعوا أحذيتهم الرسمية و لبسوا أحذية الجيش.
تكفّل الجميع بنقل الزيت المغلي و الحجارة المنتشرة على الأرض و تحميلها على العربات. تحرك الجميع بقلب واحد.
كنتُ رمز الأمل لهم. كانوا يرونني و يتحركون، ينظرون إليّ و يحملون الأمل في قلوبهم.
“استسلموا! هل تريدون الموت جوعًا؟!”
سمعنا صوت صراخ من الخارج.
“كم من الوقت تعتقدون أنكم ستصمدون هناك؟ انظروا إلى هذا!”
كان ذلك عند بزوغ الفجر. في ذلك الوقت، حيث كانت رياح الشتاء الباردة تعصف، و كأن البرد يتجمد حتى عظامي، و شعرت بأن الرؤية تزداد ضبابية أمامي.
رفع فارس ظهره نحو الشمس شيئًا ما، ثم حمله رفاقه عاليًا في الهواء.
“ها هو رأس ولي العهد الذي تنتظرونه!!”
صرخات شاحبة اندلعت من كل مكان على السور. ركضت نحو السور دون أن أشعر و أمسكت الحافة بقوة.
حاولت جوليا و هايزل أن تمسكن بي بقوة حتى لا أسقط إلى الخارج.
“صاحبة السمو!”
“ساحرة ليكسيا! هل ترين؟! هذا رأس زوجك!”
وجه شاحب و شعر أسود كثيف و حواجب داكنة. كان رأس جثة يحمل ملامح سيرتين، حتى و إن كان بعيدًا عن الأنظار. كانت أصابعي ترتجف. لم أتناول شيئًا، لكن شعرت بأنني سأخرج ما في داخلي.
“كذبة…”
احتضنتني جوليا وهي تبكي. وأخذتني إلى تحت السور وهمست في أذني:
“أغمضي عينيكِ… هممم. لا تري شيئًا، لا تري شيئًا. سأحميكِ، لا تسمعي شيئًا.”
شعرت أن صوتها الممزوج بالدموع يجعل جسدي يذوب كأنه يتحلل. شعرت أن جسدي يغوص في مستنقع عميق. كان الأمر فظيعًا.
“أي مقاومة أخرى بلا معنى! افتحوا الأبواب واستسلموا!”
“آآآه!”
هتافات الحماس من الخارج علت.
دُقّت الطبول بقوة زلزلت الهواء. قالت هايزل بصوت مكسور
“الناس… في حالة اضطراب، صاحبة السمو.”
عضدت شفتيّ بشدة، فانشقت و امتلأ فمي برائحة كريهة.
كادت دموعي التي كتمتها أن تفيض. لا زلت أتنفس بصعوبة، و الريح التي تملأ صدري باردة كالجليد.
“… ساعدوني.”
ساعدتني هايزل و جوليا و أنا أرتعش على قدمي. أمسكت بعلم سيرتين المعلق على السور ورفعته عاليًا.
لففت ببطء وجهي نحو من يثقون بي ويتبعونني. كانوا ينظرون إليّ.
“لا تتزعزعوا!”
شددت على جسدي و صرخت. لا أعلم من أين جاءت هذه القوة. ضربت الأرض بالعلم.
تردد الصوت البارد و القوي في السور. كنت أسيطر على الصوت الخارج.
أنا أملهم. إذا لم أنهر، فلن ينهاروا هم أيضًا. على الرغم من أني أشعر و كأن داخلي ينهار و أوشك على الموت، لكن يجب أن أنهض. لأن المصائب التي ستتبع الهزيمة ستكون أسوأ مما نتخيل.
أنا الشخص الذي يجب أن يقودهم للنصر. كمسؤولة، و كمندوبة، وأخيرًا كعضو في العائلة الحاكمة.
لم تكن السلطة التي حصلت عليها برغبتي. ولكن ما المهم في ذلك الآن؟
على الأقل، لست من يهرب من الحمل الذي أحمله.
و…
“سأعود.”
ما زلت أفكر في ذلك الوعد. كنت أتذكّر العديد من الوعود مع سيرتين. لم تتساقط الثلوج بعد. لا بدّ أنه يشق طريقه نحوي وسط هذا الشتاء المتعمق. بأي شكلٍ من الأشكال.
لم أرد أن يراني منهارة عندما يعود. كان ذلك أملي.
“أحبك، إيفلين.”
كان حبه أملي.
“لا تخدعوا بمكائدهم! لا يزال لديكم أنا! لا تزال إرادة ليكسيا صامدة! لا زلنا نحمل فخرًا لا بد من الحفاظ عليه! صاحب السمو ولي العهد لم ينهَر!”
كان قلبي ينبض بقوة.
“سيعود حتى لو كان ميتًا! سيكون معنا بروحه إن لم يكن بجسده!”
تغيّرت نظرات الناس. كانت الشمس تشرق.
كانت الشمس تُطل من خلف الأفق، تذيب الأرض المتجمدة بدماء الفجر وريح الشتاء الباردة.
“ابقوا معي! طالما أنني لم أنهَر، فإن إرادته لن تنهار أيضًا! النصر الأبدي لليكسيا!”
“ااااه!”
انطلقت صيحات تختلف عمّا سبقها.
“المجد لقمر الإمبراطورية الصغير!!”
“من اجل النصر!”
ردّد الناس ما بدأ به أحدهم. انهمرت دموع ساخنة. سمعت صوت هايزل و جوليا وهما تمسحان دموعهما بجانبي.
لن أعترف أبدًا، أبدًا، قبل أن أحتضنك. يجب أن يكون سيرتين لا يزال حيًا.
“أحبك.”
****
كان دوق سبيلمان لا يزال يحدّق في الباب الذي لم يُفتح بعد.
“تبًّا!”
كان من الأصعب بكثير أن تبقى معزولًا وتدافع عن القلعة. لا بد أن الطعام هناك بدأ ينفد تدريجيًا. فالإمدادات القادمة من الخارج قد انقطعت بالكامل.
وفوق ذلك، يبدو أن البارود قد شارف على النفاد من كلا الجانبين.
كان لصب الزيت المغلي، و رمي الحجارة، وإشعال النار في السلالم و رميها حدود. لا يمكن أن تكون قدرتهم على التحمل أعلى من قدرتنا.
لكن، لماذا.
“ألم تُفتح الأبواب بعد؟!”
“معذرة، سيدي الدوق!”
رما دوق سبيلمان عصاه على الأرض.
لم يجدوا جثة سيرتين. إذًا فليخلقوا واحدة، هذا كل ما في الأمر.
لتحطيم معنوياتهم، تظاهروا بأنهم وجدوا جثة، و أظهروها أمام أعينهم. لقد رأى شعرها المتفتح كالورود. لقد رأى إيفلين تخرج من خلف الأسوار، كان متأكدًا من ذلك.
“هل تأكدت إيفلين من الجثة؟”
“نعم، سيدي الدوق. لقد ظهرت الساحرة بلا شك! لم يكن هناك عدد قليل ممن تحققوا من رأس الجثة!”
إذًا، لماذا بحق الجحيم…
بهذا القدر من الجهد، أما كان يجدر بهم الاستسلام؟ ما الذي يقاتلون من أجله؟ و لماذا يرفضون الاستسلام؟
ضرب سبيلمان ذراع الكرسي براحة يده. ماذا بقي ليفعله الآن؟
راح دوق سبيلمان يتجول داخل الخيمة.
أغلقوا الأبواب بإحكام، و بنوا جدارًا حجريًا خلفها. كان القصر الإمبراطوري صامدًا للغاية في وجههم. مثل العتبة الرفيعة للعائلة الإمبراطورية المتغطرسة التي لم يتمكن من تجاوزها طوال حياته! وهذا ما أجّج غضبه.
في تلك اللحظة…
“سيدي الدوق!! يجب أن تخرج الآن!”
خرج سبيلمان، وتفقد الأفق البعيد عن العاصمة. رأى رايات ترفرف تحت الشمس التي تشرق من خلفهم. كانت جيوشًا جاءت من مكانٍ ما. ثم بدأ يظهر وجه رجل.
رجل ذو شعر أسود داكن يرتدي درعًا أبيض ناصعًا، يمتطي حصانًا أسودًا ضخمًا، و يتقدم الصفوف.
لا يمكن أن يخطئه حتى من مسافة بعيدة. من المستحيل ألا يعرف من هو ذلك الرجل.
“… سِيرتين ليكسيا.”
في النهاية، عاد ذلك الرجل حيًا من الموت.
التعليقات لهذا الفصل "134"