“إنهم يصمدون جيدًا. المواطنون والنبلاء في العاصمة بدأوا بالإخلاء، يا صاحب السمو.”
انفجر دوق سبيلمان بضحكة باردة. لم يستطع نسيان تلك اللحظة التي تلاقت فيها عيناه مع إيفلين الواقفة على سور القلعة. تلك العيون التي كانت تنظر إليه بازدراء و غطرسة.
‘من الذي سمح لكِ بالوقوف في ذلك المكان؟!’
ضغط دوق سبيلمان على أسنانه بقوة. كانت ابنته واقفة في المكان الذي كان يحلم بالوقوف فيه، ممسكة بالتاج الذي كان يرغب في امتلاكه. اجتاح الغضب والرغبة جسده بشكل لا يُحتمل.
“لا بد وأن يأتي يوم تندم فيه، يا ريكست . ستدفع ثمن كل ما فعلته.”
تلاقت عينا سوديلا، التي ما زالت تحتفظ بشرارة الحياة، بعيني إيفلين.
“سأغمض عينيّ و أنا أترقب تلك اللحظة.”
إرث سوديلا لم يكن فقط مالاً و ثـروة.
بل كان متجذرًا داخل إيفلين، و مشتعلاً. إرادة قوية لعدم الانحناء أمام الظلم، و روح نبيلة. كانت هذه القيم التي سخر منها دوق سبيلمان ذات يوم.
“يجب فتح بوابة القلعة بأسرع وقت ممكن. يجب أن أقبض على إيفلين قبل أن يحدث أي شيء. ما أخبار إدخال الناس إلى الداخل؟”
“الحراسة مشددة للغاية. أصبح من الصعب حتى التواصل مع من هم داخل القلعة. آخر الأخبار تشير إلى أن عملية الكشف عن الجواسيس تسير بسرعة. قيل إن مورتيغا تدخل بنفسه.”
دوووم!
ضرب دوق سبيلمان بعصاه بشدة على الأرض.
“الفأر الذي تركه ولي العهد يفعل كل ما في وسعه. ماذا عن العثور على جثة ولي العهد؟ إن امتلكنا رأسه، قد تُحل الأمور بسهولة.”
“…لا جديد أيضًا بهذا الخصوص. آآه!”
الرجل الذي ضُرب بعصا دوق سبيلمان صرخ متألمًا و هو يخفض جسده.
لكن الدوق لم يتوقف، واستمر بضرب جسد الرجل بعصاه. حتى خرج أنين منه من شدة الألم.
كان دوق سبيلمان يفقد سيطرته على نفسه شيئًا فشيئًا. غروره الذي كان يجعله يبدو و كأنه ينظر إلى العالم من الأعلى بدأ يتلاشى.
ربما لهذا السبب بدأ من كانوا تحت جناحه يغادرونه واحدًا تلو الآخر.
غرفة استقبال الدوق التي كانت دائمًا مزدحمة أصبحت الآن شبه فارغة.
“تبا لكم جميعًا! لا أحد منكم يستحق المال الذي أُنفق عليكم! عندما كنتم تأخذون المال كنتم فرحين، والآن تتقاعسون عندما حان وقت الوفاء! اجمعوا المزيد من الجنود! حتى لو اضطررنا لشراء المرتزقة! تحركوا، افعلوا أي شيء!”
“ن-نعم، يا صاحب السمو!”
انحنى المستشار الذي زحف من الأرض، ضاغطًا على جبهته التي تنزف. كان دوق سبيلمان يتنفس بقوة.
لم يستطع التخلي عن أي شيء مما يملك. بل كان لا يزال يطمع في الحصول على ما لم يملكه بعد.
ولتحقيق ذلك، عليه أن يُمسك بإيفلين الماكرة. تلك الابنة التي خدعته و خانته.
“تلك العاهرة اللعينة. كان علي قتلها منذ البداية.”
عض دوق سبيلمان شفتيه بغيظ. لكن المعركة لم تنتهِ بعد. ما دام الأمر لم يُحسم، فلا يزال هناك أمل.
****
تظاهرت بالتماسك، و كأن كل شيء على ما يُرام، و كأن النصر مؤكد.
التمثيل كان سهلًا. لكن الحقيقة المؤلمة هي أننا لا نملك ما يكفي من القوات داخل القلعة الإمبراطورية. عضضت على شفتيّ بقوة.
فوق ذلك، لم تكن هناك وسيلة لإدخال البارود إلى القلعة المحاصَرة. في اليوم الخامس من الحصار، كنا نُدفع أكثر فأكثر إلى الزاوية.
“متى ستتدخل قوات كوروتيس؟”
“……عندما نعطيهم الإشارة، سوف يتحركون.”
“قوات دوق سبيلمان أكثر مما توقعنا. رجال كورتيس وحدهم لن يكونوا كافين.”
عضضت شفتيّ مجددًا ثم أومأت برأسي. كانت جوليا محقة. الفرسان المختبئون في كورتيس لا يستطيعون وحدهم القضاء على جميع المتمردين في الخارج. و سيستغرق الأمر حوالي خمسة أيام حتى تصل التعزيزات من لاروس.
يجب علينا أن نصمد حتى ذلك الحين.
“……يمكننا استخدام الدخان لتضليلهم. اضربوا الطبول بأقصى قوة، و ابدؤوا بجمع كل الخيول الموجودة في العاصمة و اجعلوا وقع حوافرها مدوّيًا. سيكون من الأفضل أن ينضم فرسان كورتيس بعد يومين.”
“نعم، سموك. سأوصل ذلك إلى صاحبة السمو الأميرة إليزابيث.”
سوف تقوم جدتي الكبرى بإرسال الإشارة إلى الخارج باستخدام الشيفرة التي تُستعمل فقط في كورتيس.
يومان من الآن، ثم ثلاثة أيام أخرى بعد انضمام كورتيس. هذا هو الوقت الذي يجب أن أتحمّله.
كم تبقّى لدينا من البارود؟ بدأت أتمشى بقلق في الحديقة.
الحديقة التي سقطت فيها العديد من الأنقاض قد فقدت مجدها السابق منذ وقت طويل. شعرت وكأن ذكرياتي هنا مع سيرتين قد دُنّست أيضًا.
تنهدت و جلست على بقايا السور المنهار.
“……هل أنتِ بخير؟”
“أنا متعبة قليلًا.”
نظرت إليّ هايزل بعينين مليئتين بالشفقة.
معظم الجنود الذين كانوا يملكونهم النبلاء الذين وقفوا إلى جانب سيرتين خرجوا للمساندة أثناء الحرب.
أولئك الذين بقوا كانوا يقاتلون إلى جانبنا، لكن سواء هنا أو هناك، لم يكن أحد قد تلقّى تدريبًا كاملاً.
و حتى الآن، لم نستطع التكيّف مع بعضنا البعض.
إذا انهار موقع واحد، سينهار الجميع على التوالي. لقد كان صمودنا حتى الآن أمرًا يستحق الثناء.
ماذا يجب أن أفعل…؟
كنت أعض شفتي ، عندما اقتربت منا الخادمات اللواتي كنّ يعتنين بالقصر الإمبراطوري. كانت وجوهًا مألوفة ، كنتُ أراها كثيرًا.
منذ أن بدأت في الاعتناء بالقصر، بدأ جميع الخدم يتحركون من حولي.
“السيدة أيبل.”
“أحي القمر الصغير للإمبراطورية، أتشرف بلقائكِ، يا صاحبة السمو الملكي. إنه لشرف لي أن تتذكريني.”
“بفضلكِ، حصلت على الكثير من المساعدة في العناية بالقصر. لولاك، لما كنتُ لأتمكن من القيام بذلك بهذا الشكل.”
المجاملة المناسبة تساهم في تلطيف الأجواء. بالنسبة لحديث في مثل هذا الوضع، بدا وكأنه حديث في وقت فراغ.
“أشكركِ على كلماتكِ”
ابتسمت رئيسة الخادمات ابتسامة خفيفة.
“كنت أرغب منذ وقت طويل في التعبير عن امتناني لسموكِ، لكنني جئت فقط الآن. منذ أن بدأتِ بالعناية بالقصر، أصبح الخدم، و أمور القصر، أكثر استقرارًا.”
قبل أن آتي، و قبل أن يعرف الجميع أنني في كامل وعيي، كان سيرتين هو من يتولى رعاية القصر بأكمله. و عندما كان يغيب، كانت فيرونيكا هي من تتولى الأمر.
لكن سيرتين كان كثير الغياب، ولم يكن لديه الوقت الكافي للعناية بتفاصيل القصر.
أما فيرونيكا فلم تتعلم هذا النوع من الأمور قط، و بصراحة، لم تكن ماهرة فيه.
بسبب ذلك، كان هناك العديد من الجواسيس بين الخادمات. و رغم أننا قلّصنا عدد الخادمات كثيرًا أثناء عملية تطهيرهم، فإنني كنت ممتنة لكلماتها هذه.
“أشكركِ مرة أخرى على مجهودك.”
لكنها لم تأتِ إلى هنا لتتحدث بهذا فقط، أليس كذلك؟
“إذا كان هناك ما ترغبين في قوله، يمكنكِ الحديث بحرية.”
“شكرًا لك، صاحبة السمو. إذًا سأكون صريحة. نريد أن نساعد.”
“……أنتم بالفعل تقدمون الكثير من المساعدة.”
“ليس هذا ما أقصده، نريد أن نساعد في الحرب، يا صاحبة السمو. دعينا نحمي هذا القصر أيضًا.”
قالت رئيسة الخادمات شيئًا لم أكن أتوقعه. وقفتُ من مكاني.
“أُقدّر نواياكن، لكن ليس لدينا ما يكفي من البنادق و البارود. كما أنكن لم تتعلمن إطلاق النار. مجرد نواياكن تكفيني…”
“قد لا نستطيع حمل البنادق و البارود، لكن يمكننا سكب الماء الساخن. و إذا سكَبنا الزيت المغلي، فلن يتمكنوا من مقاومته.”
فتحت عينَيّ على وسعهما. و لم تكن رئيسة الخادمات وحدها.
“اكتسبنا عضلات ذراع من كثرة الغسيل، يا صاحبة السمو. نحن بارعات في رمي الحجارة.”
“لدينا خبرة في الحفر أثناء تنظيف الحديقة. لسنا خائفات إذا كان لدينا أدوات الزراعة.”
“دعينا نشارك بقوانا لحماية ليكسيا!”
غمرني شعور بالاختناق.
دائمًا، عندما أكون على وشك الانهيار، يظهر من ينهض بي. كان سيرتين يفعل ذلك، و الآن يفعلها من تبقى من أثره.
كنت على وشك البكاء. هنّ أيضًا يردن حماية ليكسيا بنفس الإرادة التي أملكها.
كانت عيونهن تتلألأ كالنجوم. بضوء أجمل من أي شيء آخر.
يجب أن ترى هذا أيضًا. سيرتين، إن إرادتكَ ما تزال حية هنا.
في وسط هذا الخراب، كان المشهد متلألئًا للغاية.
التعليقات لهذا الفصل "133"