“لا يجب أن تجهد نفسكَ بهذا الشكل. من فضلك، سمو ولي العهد. إنني أرجوك مخاطِرًا بحياتي!”
رفع سيرتين شفتيه البيضاء الشاحبة بابتسامة. لقد أنهى مفاوضاته مع بايرود بنجاح وبدأ في التراجع.
كان لورد آيتيس لا يزال يحرس ساحة المعركة إلى جانب بايرود. و بمجرد أن يسلم دوق سبيلمان، سيعود بايرود و جيشه.
كان الشتاء البارد يزداد عمقًا. ومع ذلك، كانت خطوات العودة دافئة.
كانت طريق العودة إلى ربيعه.
إلى صيفه.
و كأن الزهور تتفتح عند كل منعطف من الطريق، و كأن صوت الأمواج يتردد في آذانه.
كان يشتاق إلى إيفلين.
“عليكَ فقط أن تبقي على حياتي حتى أصل إلى العاصمة الإمبراطورية.”
“سموّك…!”
توسل إليه الطبيب العسكري بوجه قلق، لكن لم يكن باستطاعته ثني عزيمة سيرتين.
“توقف عن ذلك. كما تعلم، لا مفر من هذا في الوضع الحالي، أليس كذلك؟”
أوقفه ديميتور، كانا يتقدمان ليلًا عبر ممرات سرية، متجاوزين حدود الأقاليم.
لطالما وُجدت ممرات سرية لا يعرفها سوى أفراد العائلة الإمبراطورية. لم يتخيل أحد أنهم سيستخدمونها بهذه الطريقة.
وبفضل ذلك، و رغم أن السرعة كانت بطيئة قليلًا، إلا أنهم كانوا يتقدمون بثبات نحو العاصمة.
كان جيمس يقيم في العاصمة و يتواصل معهم باستمرار. و قد وصلتهم الأنباء أيضًا بأن دوق سبيلمان بدأ بتحريك قواته الخاصة.
هذا هو السبب الذي جعل سيرتين يندفع بهذه الطريقة.
“إيفلين لا يمكنها الصمود لأكثر من أسبوع. لا بد أن أعود قبل ذلك.”
أضاف سيرتين بكلمات مقتضبة.
كانت عيناه قد امتلأتا بالحزن.
*****
في ذلك الوقت،
كان عباءة تحمل رائحة البحر ترفرف في لاروس أيضًا.
نظر الكونت بريزمان، بعد تأكيد استعداد القوات، بعينين فيهما بريق مختلف.
في لاروس، التي تطل على البحر، كانت هناك قوات متمركزة لحماية الحدود.
بالطبع، بسبب التضاريس، كان عدد القوات البحرية أكثر بكثير، لكن كانت هناك أيضًا قوات برية.
هؤلاء الذين لم يكن يُلاحظ وجودهم من قبل قد اجتمعوا في مكان واحد، فتولّد شعور بالحماسة جعل دماء الكونت بريزمان تغلي.
أمسك الكونت بريزمان بجدار القلعة.
منذ أن فرّ الفيكونت بنتلي إلى هذا المكان مع عائلته، بدأ شغفه يشتعل.
أخيرًا، شعر أنه قد انضم إلى النخبة.
منذ أن انتقل الكونت تشينشيس، الذي كان محصورًا في الأقاليم الحدودية، إلى العاصمة وأصبح جزءًا من مجلس النبلاء، بدأ الطمع يظهر داخله هو الآخر.
“إذا تعاملتم مع هذا الأمر جيدًا، فقد تنظر سمو ولية العهد إليكَ بنظرة جديدة. أنا قد انتهى أمري، لكن وضعكَ مختلف عني أيها الكونت بريزمان، أليس كذلك؟”
هذا ما قاله له الفيكونت بنتلي.
لقد اقترضت إيفلين المال من الكونت بريزمان لتمنحه إلى الفيكونت بنتلي.
يمكن القول ان علاقة نوع من الزمالة قد بدأت تتشكل بين إيفلين والكونت بريزمان.
“العاصمة، هاه…”
لعق الكونت بريزمان شفتيه.
الانطلاق إلى المركز. كان شعورًا حلوًا كأن الحلم الذي طالما راوده بدأ يتحقق.
عندما تخيل لافتة مصرف بريزمان مُعلّقة في العاصمة، اضطرب قلبه.
لم تكن هذه حربًا، بل رياح إصلاح.
بقطع الفروع الفاسدة التي تعيش في العاصمة، ستنمو شجرة تُدعى ليكسيا لتصبح أعظم.
“هل انتهت الاستعدادات؟”
“نعم، يا سيدي الكونت!”
أجاب مساعده بوجه متحمس أيضًا.
“سلّم التصاريح و أصدر أمر الانطلاق. أخيرًا سنطأ أرض العاصمة. و عندما ينتهي كل شيء، أتمنى أن يتم دعوتي إلى العاصمة أيضًا!”
أطلق الكونت بريزمان ضحكة عالية.
“سمو الأميرة إيفلين تميّـز جيدًا بين المكافأة و العقاب. لذا، بالتأكيد ستأتيكَ فرصة جديدة، أيها الكونت.”
بمعنى أنه لا يجب أن يفكر في شيء آخر، بل أن يظل مخلصًا لإيفلين.
نصائح الفيكونت بنتلي جعلت قلب الكونت بريزمان أكثر صلابة.
نظر إلى أعلام ليكسيا المرفرفة، وعلم لاروس، وأخيرًا علم ولي العهد، و ابتسم.
هؤلاء سيقودونه إلى العاصمة.
*****
تنهد الفيكونت بنتلي بعد أن تأكد من انطلاق الفرسان.
الكونت بريزمان كان رجلاً يملك طموحاً واضحاً.
منذ وصوله إلى لاروس، كان اللورد بنتلي ينفذ أوامر إيفلين بإخلاص. لقد غرس في قلب الكونت بريزمان الحلم والأمل.
“الكونت بريزمان رجل طموح بشكل خاص. إن استطاع تحقيق طموحه ، فلن يهمه من يصبح الإمبراطور. و بمعنى آخر ، إن لم تسر الأمور كما هو مخطط لها، فقد يمدّ يده إلى دوق سبيلمان. عليكَ عند وصولكَ إلى لاروس أن تمنع أي اتصال بين الكونت بريزمان و دوق سبيلمان قدر الإمكان. راقبه كي لا تراوده أي أفكار أخرى.”
“نعم، سمو الأميرة.”
“الأمل و الجشع يجعلان الإنسان أحياناً غير عقلاني.”
كان كلام إيفلين صائباً. بكلمات قليلة من الفيكونت بنتلي، امتلأ قلب الكونت بريزمان بالأحلام.
كان الكونت بريزمان يتقدم دون أن ينظر لأي اتجاه آخر. كان يثق بأن إيفلين ستقوده إلى العاصمة.
كانت إيفلين بارعة بشكل مذهل في قراءة قلوب الناس. بدرجة تثير القشعريرة.
ابتسم الفيكونت بنتلي بمرارة.
كانت سنواته توشك على النهاية. كان عليه أن يرحل كما وعد، بعد انتهاء كل شيء.
لن يكون له مكان بجوار شمس تتهيأ لتشرق بتوهّج. كان ذلك مؤلماً ومريراً.
“أبي! انظر إلى هذا! ذهبت مع رودريك إلى الشاطئ و وجدنا هذه، الصدفة تتلألأ بألوان الشفق القطبي!”
لكن كل تلك الأفكار تلاشت لحظة رؤيته لوجه ابنته المشرق.
لقد حماها. و حمى عائلته.
بفضل مساعدة إيفلين، تلقت زوجته العلاج في الوقت المناسب و بدأت تتحسن تدريجياً.
ربما لم تكن حياته لامعة، لكنها ستكون دافئة.
“تعالي إلى هنا، سيلا. لنريها إلى والدتكِ أيضاً.”
“حسناً، أبي!”
*****
تلقى دوق سبيلمان إخطاراً رسمياً من وزارة العدل.
كان فحواه نقل ملكية صناعات سبيلمان و ثروته، لكن أبواب بيت الدوق بقيت مغلقة. و لم تُفتح إلا مع بزوغ الفجر في اليوم التالي.
كانت المشاعل تتأرجح بأيدٍ غير مستقرة في أيدي الجنود الخاصين المتجمهرين أمام القصر الإمبراطوري.
“اقضوا على ساحرة ليكسيا!”
اقشعر بدني من الصوت الذي شق الفجر. التقت عيناي بعيني دوق سبيلمان. كانت نظراته، وهو يحدق في أسوار القصر، ممتلئة بالجشع.
“اطردوا إمبراطورة ليكسيا و عاقبوا زوجة ولي العهد التي دست السم للإمبراطور!”
كان صوته ممتلئاً بالغلّ.
آه، الآن ينوي وصفي بالساحرة.
كان ذلك من طبع دوق سبيلمان.
التاريخ يكتبه المنتصرون.
يريد أن ينتصر في هذه الحرب و يقتلني، ليُلقي بكل أفعاله عليّ.
اهتزّت الأرض تحت وقع أقدام الفرسان.
“لنُخرج تلك الساحرة! سنقضي على ساحرة ليكسيا و نحمي التاريخ!”
وووووووونغ!
“… لقد ققد صوابه. وقاحته تجاوزت كل الحدود.”
همست هايزل في أذني.
رفعت يدي.
كنا قد استعددنا طويلاً لهذه اللحظة.
بمساعدة قائد الحرس و كبار القادة المخضرمين، كنا قد اتخذنا كل الاحتياطات.
لم أكن أتصور أن حياتي ستصل إلى هذه الحرب.
وبإشارة من يدي، صوب الفرسان بنادقهم خارج الأسوار.
“استعدوا لإطلاق النار!”
و الطرف الآخر كذلك.
كانت مواجهة بين البنادق.
كان قلبي يخفق بعنف.
كل شيء بدا غير واقعي أمام عيني.
بمجرد انتهاء هذه الحرب، سيتحدد مصيري أيضاً، أليس كذلك؟
عضضت شفتي بقوة حتى شعرت بالألم.
كلمة مني قد تقرر مصيرهم.
“نار!”
اخترق صوتي الفجر.
رأيت وميض فوهات البنادق يتفجر ببريق، و شددت نظري.
لن نخسر أبداً.
التعليقات لهذا الفصل "132"