ظل لوكاس يعبث بالأوراق لفترة طويلة.
خلال الأيام القليلة الماضية، كان لوكاس مشغولًا بترتيب أوضاعه الشخصية. عندما واجه إيفلين، خطر بباله أن هذا اليوم قد حان أخيرًا.
لم يكن هناك أحد قريب من أسرار دوق سبيلمان بقدر ما كان لوكاس كذلك.
“ربما كانت تنتظر.”
كان مظهر لوكاس، الذي كان دائمًا منظمًا، يبدو الآن مضطربًا قليلًا.
كانت جميع المواد التي طلبتها إيفلين قد أُعدّت مسبقًا.
كان الظلام يهبط تدريجيًا. وسرعان ما سيصل الشخص الذي أرسلته إيفلين للقاءه. تنهد لوكاس وفتح ما في يده.
في الداخل، كانت هناك صورة لامرأة تبتسم بإشراق.
“…سوديلا.”
كان قد مر وقت طويل منذ آخر مرة فتح فيها هذا الشيء. كان هذا تذكارًا تركته له السيدة سوديلا دوقة سبيلمان قبل وفاتها. و كان أيضًا شيئًا كانت تحتفظ به معها دائمًا في طفولتها.
“انقلها لابنتي… لابنتي المسكينة، يا لوكاس.”
عادت ذكريات الماضي فجأة إلى ذهنه. كانت هناك أيام مشرقة قضياها معًا في الأكاديمية. قضى لوكاس و سوديلا معظم وقتهما معًا.
كانت سوديلا محبوبة من قِبل العديد من الزملاء.
و كانت ابتسامتها الأجمل من بين الجميع. كانت جميلة كالجوهرة المتلألئة.
بعيدًا عن لقب وريثة لصناعة الأسلحة، كانت سوديلا شخصًا يعرف كيف يسطع بنفسه.
وكانت أيضًا طالبة موهوبة حظيت برضا جميع الأساتذة.
وكان المركز الأول دائمًا من نصيب سوديلا.
تلك المرأة التي كانت دائمًا واثقة بنفسها وجميلة…
حتى لوكاس كان يحتفظ بها في قلبه.
ولكن للأسف، لم يكن هو الوحيد الذي لاحظ ذلك البريق.
من بين هؤلاء، كان من استحوذ على مكان إلى جانبها هو ريكست سبيلمان، الشاب الطموح.
كان رجلاً أراد أن يقود عائلة الدوق التي كانت راكدة إلى أعلى المستويات بعد أن أصبح دوقًا.
اختار سوديلا من منطلق مصلحة سياسية، و بعد الزواج…
بدأت سوديلا تذبل بسرعة.
وعندما بدأ لوكاس العمل كوكيل قانوني لعائلة الدوق بتوصية من الفيكونت بنتلي، أصبح يلتقي بسوديلا من حين لآخر.
“من الأفضل ألا تتظاهر بأنكَ تعرفني، لوكاس. علينا أن نظل غرباء دائمًا.”
في البداية، شعر بالحزن من إنكارها له، لكنه أدرك مع مرور الوقت ما كانت تعنيه.
لقد أدرك مدى وحشية الدوق سبيلمان.
عبثت ذكريات الماضي البالية بقلب لوكاس.
لقد مضى وقت طويل. أصبحت مشاعره باهتة، و سوديلا أصبحت ذكرى باهتة بلون رمادي.
و إيفلين هي من فتحت صندوق الجواهر المدفون في قلبه.
“سوديلا.”
تذكّر لوكاس وعدًا قطعه لصديقة قديمة منذ زمن طويل.
“…احمِ إيفلين، يا لوكاس. احمِ تلك الفتاة. احمِ أوغستين.”
كانت تلك أمنيّة سوديلا الأخيرة، التي لم تستطع حتى إغماض عينيها من شدة القلق على أطفالها.
ربما لم تكن تعرف. لم تتوقع أبدًا أن يرحل أوغستين، الذي كان بخير، بذلك الشكل.
ولم تكن لتتخيل أن والده سيتخلى عنه رغم كونه طبيعيًا. لم يتمكن من حماية أوغستين.
لقد تلوّث بوالده وأصبح يحتقر حياة الآخرين، لذا لم يكن هناك ما يمكن فعله.
لكن إيفلين…
على الأقل ميراث سوديلا الأخير…
الطفلة التي تشبه ابتسامتها تمامًا…
“سأراقبها، يا سوديلا.”
همس لوكاس بصوت منخفض.
فقط بهذا، شعر أنه سيتمكن من رؤية وجهها حتى بعد الموت.
*****
وصل لوكاس إلينا في الوقت المتفق عليه.
تنهد بعمق بعد أن تأكد من وجودي أنا و هايزل و جوليا في الغرفة.
“أشعر و كأنني أُخضع لتحقيق ضاغط.”
“أعتقد أن هذه إجراءات ضرورية لكشف الحقيقة. و كما أنك لا تثق بنا، فنحن أيضاً لا يمكننا الوثوق بك كلياً، لذا عليكَ أن تتفهم ذلك.”
“…أفهم الآن لماذا قال دوق سبيلمان إن صاحبة السمو تشبهه.”
ما هذا الكلام المزعج؟ في الحقيقة، حتى من منظور الأرواح، نحن لسنا أباً و ابنة!
كان تعليقاً أفسد مزاجي الجيد. و عندما رأى تعابير وجهي تنقبض، ضحك لوكاس بسخرية.
“دوق سبيلمان كان فخوراً بذلك، لكن يبدو أن سموّكِ غير سعيدة بهذا التشبيه.”
“ذلك الشخص لا يرقى لأن يكون مرآة تعكس صورة ابنته. لا تكرر هذا الكلام مجدداً، إنه مزعج فعلاً.”
أومأ لوكاس برأسه احتراماً لكلامي الصريح.
“إذاً لا بد أن سموّكِ تشبهين الدوقة الراحلة.”
توقفت فجأة عند سماع ذلك.
“رحلت و هي في عمر صغير… أمر مؤسف للغاية.”
بلع لوكاس ريقه، كانت نظرته شاردة و مضطربة، وكأنه يستحضر شيئاً ما من ذاكرته. بالتأكيد كان يتذكر والدة إيفلين الآن.
“…هل كنتَ تعرف أمي؟”
“هل كنت تعلمين أن سموّها تخرجت من الأكاديمية؟”
هززت رأسي نفياً. لم يكن غريباً ألا تعرف إيفلين هذا، فقد حدث كل ذلك عندما كانت طفلة، و منذ أن تجسدت في جسدها، لم يكن هناك أحد يحدثني عن الدوقة.
“توقعت ذلك. دوق سبيلمان لم يكن يرغب بالاعتراف بزوجته. بل كان يكرهها من جهة أخرى.”
من يكره من؟! من كان يجب أن يُمقت هو دوق سبيلمان، لا الدوقة. كم هو كلام مثير للسخرية. هذا هو ما يسمّى بعدم معرفة الشخص لمكانته.
“كانت امرأة ذكية. تميزت في الأكاديمية أيضاً. ولهذا…”
أخذ لوكاس نفساً عميقاً.
“ولهذا كان لا بد أن ترحل.”
“…ما معنى هذا الكلام؟”
“لأنها علمت بما كان يفعله دوق سبيلمان. من مات، و من خسر، ومن تعرّض لما تعرّض له.”
لم أكن أتوقع أبداً أن أسمع هذا من لوكاس. وضع قلادة على الطاولة أمامي.
“لقد تركتها الدوقة لسموّكِ. أنا أعيدها إليكِ الآن.”
فتحت القلادة بيدين مرتجفتين. و اتسعت عيناي دون أن أشعر. وجه يشبه إيفلين تماماً. وجه يبتسم بصفاء، وكان نسخة طبق الأصل.
لمست الصورة بأطراف أصابعي.
“أمي…”
تمتمت دون وعي، و شعرت بأنفاسي تُحبس. في تلك اللحظة، ظهرت في ذهني ذكرى كما لو أن الماء يتسرب إلى ورقة ماصة.
“ابنتي الجميلة، مِمّن ورثتِ هذا الجمال؟”
“ماما! أكيد منكِ!”
“يا صغيرتي الجميلة. نعم، من ماما أليس كذلك؟”
شعرت بلمستها. حضن كان يحتويني. دفء الجسد وذاك الحنان الذي كان يربّت على خدي. محبة قوية، لدرجة أنها بدت حقيقية لحد القشعريرة. و كأنني أنا من عشتها حقاً.
“…هل تتذكرينها؟ لقد كانت تحب سموّكِ كثيراً. وربما كانت تدرك أن هذا قدرك.”
هل أتذكر؟ أنا نفسي لا أعلم.
لا يجب أن أتذكر. لا يمكنني أن أتذكر. لا يمكن أن أكون قد عرفت سوديلا سبيلمان، لا يمكن أن أعرفها.
لكن ما هذا الشعور الغريب، وكأنني أعرفها بالفعل؟
هززت رأسي بالإيجاب دون وعي.
“…هذا مطمئن. كانت ستسعد كثيراً. لأنها لم تكف عن القلق بشأن سموّك حتى لحظة وفاتها.”
عضضت شفتي بقوة. شعرت بأنني على وشك البكاء. غمرتني المشاعر كما لو أنني أواجه وفاة والدتي الحقيقية.
لماذا… أشعر هكذا؟ سقطت دمعة.
“آه…”
مسحتها دون وعي، و أطلقت تنهيدة. لم أكن أتخيل أن أبكي أمام لوكاس.
لكن لوكاس بدا متعاطفاً معي على غير العادة. كانت عيناه، اللتان اعتدتهما باردتين و متشائمتين، مليئتين بالشفقة نحوي.
استخدمت المنديل الذي ناولتني إياه جوليا لأضغط به على عيني. لم أتوقع أن يكون لـلوكاس علاقة بأمي.
“لا أعلم إن كان من اللائق قول هذا، لكن أعتقد أنها كانت ستكون فخورة بكِ للغاية. كانت تحبكِ كثيراً لأنها رأت فيكِ شبهها.”
عضضت شفتي بقوة. لم أفهم لماذا كانت كلمات لوكاس تؤثر بي بهذا الشكل. لكنها كانت موجعة لدرجة أن الدموع لم تتوقف. شعرت بثقل في قلبي.
التعليقات لهذا الفصل "123"