عادَت إلى القصر متأخرةً في الليل كعادتها. وبحسب ما قالت جدتها الكبرى، فإن فيرونيكا و الجدة لا تزالان تقيمان في نفس القصر.
كانت الجدة الكبرى واثقة من أن دوق سبيلمان سيستهدف فيرونيكا.
“هاه.”
انهار جسدها من التعب. وضعت ما كانت تحمله بعناية على الطاولة.
بعد انتهاء الاجتماع، ذهبت إلى مكتب سيرتين و أحضرت ما تركته هناك لتقاسمه مع جوليا.
عضّت شفتها بإحكام. مجرد النظر إليه بهذه الطريقة جعل أنفها يلسع. بدا و كأن دموعها ستنهمر في أي لحظة.
“سموكِ، ماذا عن الطعام…؟”
“كفى. أريد أن أكون وحدي، اطردي الجميع.”
ابتعدت أصوات الناس، و بقيت وحدها. احتضنت جسدها، و دفنت وجهها في ركبتيها.
“…من كان يظن أنني سأستلم وصية تركها زوجي. من كان يتخيل، سيرتين؟ أليس كذلك؟”
ترددت طويلاً. لم تكن تملك الشجاعة بعد لفتح الرسالة. بدت لها أحداث ما جرى في فترة ما بعد الظهر كأنها حلم.
لا تعرف بأي قوة استطاعت أن تتحرك و تحضر الاجتماع طوال ذلك الوقت.
في النهاية، و بفضل تدخل الكونت تشينشيس، تمكّنوا من إنهاء الاجتماع على خير. و حصلت وزارة العدل على فرصة لمراقبة وزارة الاقتصاد. ومع ذلك، بدا كل شيء بعيداً عنها.
“أنتَ لا تعرف كم كان وجه دوق سبيلمان يستحق المشاهدة حينها، أليس كذلك يا سيرتين؟”
لم يصلها أي جواب.
كان هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن تكون منشغلة مع الآخرين و أن تُترك وحدها هكذا.
لطالما أوصتها جدتها الكبرى ألّا تغرق في التفكير في سيرتين أو في الحزن عليه.
“لكن هذا ليس شيئًا أستطيع التحكم فيه بإرادتي.”
ارتجف كتفاها.
الليل كان وقتها الخاص مع سيرتين. لا أحد يعلم كم كان يحبها و يعتز بها. ولا كم كانت تشعر بالسعادة بين ذراعيه.
“لقد وعدتني… بأنكَ ستظل تحميني طوال حياتي.”
سقطت دموعها بسرعة. لم تكن قد جفّت من قبل، بل كانت تتحمّل فحسب. مدت يدها المرتجفة و أمسكت الظرف الذي يحتوي على الوصية.
كان الظرف مفتوحًا. لا بد أن دوق سبيلمان قد قرأ الرسالة بالفعل. لم يحاول حتى إخفاء ذلك، فالظرف المفتوح كان ظاهرًا تمامًا.
و من المؤكد أنه فهم أيضًا معنى أن يسلّمها سيرتين السلاح. و مع ذلك، لم يتردد دوق سبيلمان في هزّها و زعزعة قلبها.
“أليس هذا يعني أنه يريدك أن تموتي معه؟”
ربما كان دوق سبيلمان يرى أعماقها. في الحقيقة، كانت كثيرًا ما تفكر في الموت إلى جانب سيرتين.
كانت تفتقده.
كان السلاح يحتوي على رصاصات ممتلئة، و كان في الصندوق رصاصة إضافية واحدة.
لو أنه أراد حقًا أن تتبعه و تموت معه، لكانت هناك رصاصة واحدة فقط.
بدأت تعتقد أن تلك الرصاصة الإضافية تعبّر عن فيض مشاعره نحوها.
رغم أنه لم يقلها، لكنها كانت تعلم أنه أحبها حبًا غامرًا.
“اشتقت إليك.”
بصعوبة، فتحت الوصية. كانت شفتاها ترتجفان.
[لا أعلم ما الذي يجب أن أكتبه في مثل هذه اللحظة. هل ستصدقينني إن قلت إن هذه أول مرة أكتب فيها وصية؟ كنت دائمًا أترك الورقة بيضاء.]
ربما كان سيرتين كذلك حقًا.
فقد كان يعيش دائمًا و هو يشعر بالوحدة. كان يعتقد أن لا أحد ينتظره أو يحميه.
رغم أنه امتلك الكثير، إلا أنه كان من أكثر الناس وحدةً في هذا العالم.
أومأت برأسها ودموعها تغمر عينيها.
“أصدقك.”
مسحت دموعها براحة يدها.
[إن كنتِ تقرئين هذه الرسالة الآن، فهذا يعني أنني لم أستطع العودة إليكِ. لم أتمكن من العودة إليكِ في النهاية.]
بدت لها نبرة سيرتين و كأنها تتردد في أذنيها.
كانت أصابعها ترتجف.
كان يقرّ بهدوء بموته، في حين أنها لا تزال غير قادرة على قبوله.
بهذا القدر من الرضا، بهذا الشكل…
“ما الذي تقوله يا سيرتين؟ عُد فورًا. عد إليّ الآن. لقد وعدتني. أنا… أنا خائفة حقًا.”
كانت تتمنى في كل لحظة أن يكون ما تعيشه الآن مجرد حلم. أن تستيقظ من هذا الكابوس وتجد سيرتين بجانبها.
[أنا آسف. لقد تسببت لكِ في ألم جديد مرة أخرى. لم أرد أن أجعلكِ تبكين، و مع ذلك دائمًا أجد نفسي أقدم لكِ الأعذار.
لم أعرف معنى الحياة إلا بعد أن التقيتكِ، إيفلين. عرفت أنني لست وحيدًا. أنتِ من علّمتني ذلك.
كنتِ تبدين ضعيفة و صغيرة، لكنكِ في الحقيقة كنتِ أقوى من أي شخص. بجسدكِ الصغير، وقفتِ لتحميني. وحقًا، لقد فعلتِ.]
“…لكن هذا لا يعني أنه يُسمح لكَ بأن تتركني وحدي.”
خرج صوتها ممزوجًا بالبكاء.
كانت ترغب بأن تصبح أقوى.
أن تحمي شخصًا ما.
أن تعيش… أن تعيش معه.
“أرجوك، عد إليّ.”
شعرت بأنها يمكن أن تسامحه حتى لو ظهر الآن وقال إن كل ما حدث كان مزحة.
[أنا أؤمن بأنكِ ستستطيعين حماية نفسكِ حتى بعد الآن. لا تدمّري نفسك. لا تستسلمي. من أجل ما تركته خلفي، و من أجل كل ما حققتِه أنتِ. من أجل وثق بنا و رافقنا حتى هذه اللحظة. أرجوكِ، تغلّبي على كل شيء. انتصري، وفي النهاية… كوني سعيدة.]
“…أنتَ حقًا قاسٍ! كيف… كيف تطلب مني أن أكون سعيدة؟ كيف أكون سعيدة بدونك…؟ أنا لست قوية إطلاقًا. كنت فقط أتظاهر. أنا غبية جدًا… وضعيفة. بدونك لا أستطيع فعل أي شيء. أنا مجرد حمقـاء.”
[المسدس… سيكون آخر هدية يمكنني تقديمها لك. ستكون هناك لحظات صعبة كثيرة. وقد ترغبين بالموت أحيانًا. أتمنى أن تكون تلك الهدية سببًا في أن تصوبي نحو العدو، لا نحو نفسكِ.]
هزّت رأسها.
“لا ترحل، سيرتين. لا أريد هذه الهدية…”
[أتمنى أن تكون حياتكِ القادمة مباركة. لا أستطيع أن أطلب منكِ نسياني. سيكون ذلك مؤلمًا جدًا. ومع ذلك، إيفلين… زوجتي العزيزة.]
هذا غير عادل يا سيرتين…
[أتمنى لكِ السعادة الحقيقية.]
سقطت دموعها على الورقة.
[أنا أحبك.]
كيف يمكنكَ أن تفعل بي هذا؟ كيف…
كانت كلماته الأخيرة تلامس قلبها بعمق.
لم يعترف لها بحبه مباشرةً من قبل.
رغم أنها كانت واثقة من مشاعره، إلا أنها كانت تتمنى سماع ذلك أحيانًا.
“هذا ظلم، سيرتين…”
على الأقل، لم يكن يجب أن تكون هذه اللحظة… بهذه الطريقة.
“كيف يمكنني نسيانكَ طيلة حياتي؟”
حتى لو لم يعد يومًا، فلن تستطيع أبدًا التخلّي عنه.
كان سيرتين أحمق.
لم يكن وحده من يحبها.
هي أيضًا كانت تحبه.
لم يمنحها حتى فرصة الاعتراف بذلك.
كان ذلك قاسياً.
الكلمات التي لم تستطع قولها طوال حياتها، كانت الآن تفيض داخل قلبها.
“أنا أيضًا… أنا أيضًا أحبك يا سيرتين.”
همست باعترافٍ لن يسمعه. كانت تأمل أن تحمله الرياح إليه.
****
كانت جوليا تعض شفتيها بينما فتحت وصية ديميتور. لقد كانت تظن، أنها لن تضطر أبدًا لفتحها طوال حياتها.
تنهدت جوليا تنهيدة مختلطة بالرطوبة و مسحت وجهها. في مثل هذه اللحظات، كان غياب الأطفال عن جانبها يُعد نعمة.
لأنها تستطيع البكاء بقدر ما تريد. بعد أن قرأت وصية ديميتور مرارًا و تكرارًا، قامت جوليا بجمع حزنها.
[احمي الأطفال، جوليا.]
نقشت تلك الكلمات الأخيرة في قلبها. و بينما كانت تطوي الوصية، توقفت فجأة.
“……هذا، لحظة فقط.”
مسحت جوليا دموعها و رفّت بعينيها. و مع وضوح رؤيتها، رأت بوضوح.
مررت إصبعها على الخط المطوي. كان ديميتور جيدًا في الأعمال اليدوية. لذا كان يصنع ألعابًا من الورق للأطفال من حين لآخر.
وبيد مرتجفة، بدأت جوليا تطوي الورقة ببطء.
“……آه!”
أطلقت جوليا شهقة دهشة.
[طلقة.]
كانت تلك بلا شك رسالة تركها لها.
التعليقات لهذا الفصل "118"